التعليق على الموافقات (1434) - 08
سمِّ.
طالب: أحسن الله إليك. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فيقول الشاطبي -رحمه الله تعالى-: "بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم، الدليل الثاني: السنة".
يعني بعد الدليل الأول وهو القرآن.
طالب: "ويتعلق بها النظر في مسائل:
المسألة الأولى: يطلق لفظ السنة على ما جاء منقولاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- على الخصوص، مما لم يُنص عليه في الكتاب العزيز؛ بل إنما نُص عليه من جهته -عليه الصلاة والسلام- كان بيانًا لما في الكتاب أو لا. ويطلق أيضًا في مقابلة البدعة، فيقال: فلان على سنة، إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان ذلك مما نُص عليه في الكتاب أو لا. ويقال: فلان على بدعة، إذا عمل على خلاف ذلك، وكأن هذا الإطلاق إنما اعتُبر فيه عمل صاحب الشريعة، فأُطلق عليه لفظ السنة من تلك الجهة، وإن كان العمل بمقتضى الكتاب.
ويطلق أيضًا لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة، وُجد ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد؛ لكونه اتباعًا لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا، أو اجتهادًا مجتمعًا عليه منهم أو من خلفائهم، فإن إجماعهم إجماع، وعمل خلفائهم راجع أيضًا إلى حقيقة الإجماع من جهة حَمْل الناس عليه حسبما اقتضاه النظر المصلحي عندهم، فيدخل تحت هذا الإطلاق: المصالح المرسلة والاستحسان، كما فعلوا في حد الخمر، وتضمين الصناع، وجمع المصحف، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة، وتدوين الدواوين، وما أشبه ذلك. ويدل على هذا الإطلاق قوله -عليه الصلاة والسلام-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين»".
يقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الدليل الثاني وهو السنة، بعد أن أنهى الكلام على الدليل الأول وهو القرآن، وهذا الترتيب باعتبار أن القرآن هو المصدر الأول من مصادر التشريع، والسنة المصدر الثاني. هذا من حيث الثبوت، فالقرآن كله قطعي، وأما السنة فمنها القطعي ومنها الظني؛ فلذلك تأخرت رتبتها عن القرآن. وأما في لزوم العمل بما ثبت عنه- عليه الصلاة والسلام-، فهو لازم كالعمل بالقرآن، وإن كان بعضهم يرى أنها دونه في ذلك، كما قرروا في أن السنة لا تنسخ القرآن لأنها دونه في الرتبة.
وعلى كل حال: ما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- من قول أو فعل أو تقرير أو وصف، وزاد بعضهم الهم، كل هذا مما يلزم العمل به، ما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه سنة. وما ثبت عن خلفائه الراشدين كذلك سنة؛ لدلالة النص على ذلك: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»، فاكتسبوا الشرعية من نصه -عليه الصلاة والسلام-. وكذلك الإقرار، لو فعل أحد بحضرته يكتسب الشرعية من إقراره -عليه الصلاة والسلام-، إلى آخره. هذا من حيث الإطلاق الأول؛ ولذا إذا قال الصحابي: من السنة، فله حكم الرفع؛ لأن الصحابة لا سيما في الأحكام الشرعية لا يطلقون السنة إلا على ما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام-، وإن قال بعضهم: إنه قد يشمل سنة الخلفاء الراشدين، ويكتسب الشرعية من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين»، ولذلك فعل عمر أشياء وقال أقوالاً اعتبرت من السنة، والتزم الناس بها، وعثمان -رضي الله عنه-، أبو بكر قبله جمع القرآن، ثم عثمان جمع القرآن، وعثمان أيضًا شرع أو سن الأذان الأول يوم الجمعة، وما خالفه أحد؛ لأنه داخل في ضمن السنة التي دل على شرعيتها قوله -عليه الصلاة والسلام-: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين».
السنة تطلق أيضًا في مقابل البدعة، وتطلق ويراد لها الطريقة: «لتتبعن سنن من كان قبلكم»، يعني طرائقهم... إلى غير ذلك من الإطلاقات التي جاءت بها جاءت في كلام أهل العلم.
أيضًا الإجماع يدل على وجود سنة، ليس بسنة لكنه يدل على وجود سنة؛ لأنه لا يعتبر الإجماع حتى يكون له مستند من الكتاب أو السنة، ولذلك قال: "فإن إجماعهم إجماع، وعمل خلفائهم". "ويطلق أيضًا لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة، وُجد ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد"، يعني إذا اتفقوا على شيء فهو سنة، ونعلم يقينًا أنه سنة، وأنه معتمد على نص، ولو لم نطلع عليه. ثم يدخل في ذلك الأدلة التي استدل عليها بالسنة، فتكون من السنة.
طالب: "وإذا جُمع ما تقدم، تحصل منه في الإطلاق أربعة أوجه: قوله -عليه الصلاة والسلام-، وفعله، وإقراره. وكل ذلك إما متلقى بالوحي أو بالاجتهاد، بناءً على صحة الاجتهاد في حقه".
ومن ذلك: أوصافه -عليه الصلاة والسلام- وصفاته الخِلقية والخُلقية، وزاد بعضهم الهم منه- عليه الصلاة والسلام- داخل في سنته، كهمه بتحريق المتخلفين عن الصلاة بيوتهم، مما استدلوا به على تحريم التخلف عن صلاة الجماعة أخذًا من همه -عليه الصلاة والسلام- بتحريقهم؛ لأنه لا يهم إلا بما يجوز له فعله.
طالب: "وهذه ثلاثة، والرابع ما جاء عن الصحابة أو الخلفاء، وهو وإن كان ينقسم إلى القول والفعل والإقرار، ولكن عُد وجهًا واحدًا؛ إذ لم يتفصل الأمر فيما جاء عن الصحابة تفصيل ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم-".
ما يقال: ما جاء عن الصحابة من قول أو فعل أو تقرير. يعني إذا فعل الصحابي فعلاً أو قال قولاً فهذا واضح أنه يضاف إليه، لكن إذا أقر فعلاً فُعل بحضرته، ولم ينكره هل نقول: إن هذا سنة فلان؟ ينسب إلى عمر، أو ينسب إلى أبي بكر، أو ينسب إلى كذا؟ ما فيه أحد لا يقر على خطأ إلا الرسول -عليه الصلاة والسلام- المعصوم، وأما غيره فقد يقر شيئًا نظرًا إلى أن المصلحة الراجحة في عدم إنكاره من رعاة المصالح والمفاسد. ولذلك بعض الناس يستدل على بعض المنكرات بأنها فُعلت بحضرة فلان من المشايخ وما قال شيئًا، لو كانت حرامًا أنكر عليهم! لعله درأ بعدم إنكاره بهذا الأمر مفسدة كبرى.
طالب: أحسن الله إليك شيخنا، بالنسبة للإقرار .......
أين؟
طالب: الإقرار؟
أقر، إذا فُعل بحضرته -عليه الصلاة والسلام- شيء وأقره يكفي.
طالب: يقال: لأنه معصوم ولأن الوحي .......
هذا تأييد، هذا الفعل اكتسب الشرعية من سكوته عنه -عليه الصلاة والسلام-؛ إذ لا يقر على باطل، وأما غيره، هو من يخشى منه -عليه الصلاة والسلام- فيدرأ في ذلك مفسدة أكبر فيقر هذا العمل، لا، أقل الأحوال أن يقر على شيء أقر أحواله أنه خلاف الأولى، لا سيما إذا صدر عنه ما يدل على الحث على هذا الشيء أو المنع منه من قوله، فيكون صارفًا للأمر عن الوجوب وصارفًا للنهي عن التحريم، ويبقى أنه يجوز فعله، وإن كان خلاف الأولى.
طالب: .......
لا، النسيان، النبي -عليه الصلاة والسلام- نسي.
طالب: .......
النبي -عليه الصلاة والسلام- نسي ليشرع ويسن، الكلام في فعل الصحابي وقوله وحجيته هذه مسألة طويلة الذيول، مسألة خلافية بين أهل العلم. نحن نريد أن نقرر ما ذكره المؤلف هنا، وسيأتي في الأدلة المختلف فيها.
طالب: "المسألة الثانية: رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار، والدليل على ذلك أمور؛ أحدها: أن الكتاب مقطوع به، والسنة مظنونة، والقطع فيها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل، بخلاف الكتاب فإنه مقطوع".
يعني بالنسبة للثبوت القرآن كله مقطوع به، وأما بالنسبة للسنة ففيها القطعي وفيها الظني، وأما بالنسبة للدلالة: فالقرآن وإن كان كله قطعي الثبوت إلا أن في دلالته على بعض المسائل وبعض القضايا ما هو من قبيل القطعي، ومنها ما هو من قبيل الظني. فمثلاً: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، هذا أمر، وهذا قطعي الثبوت ما يختلف فيه أحد، ولا يماري فيه أحد، لكن دلالته على صلاة العيد ونحر الهدي والأضاحي، هل هي قطعية؟ ليست قطعية، ولذلك احتج به الحنفية على وجوب صلاة العيد، ويقولون: صلاة العيد واجبة وليست بفرض، لماذا؟ لأنها لم تثبت بدليل قطعي. طيب ثبتت بالقرآن وهو قطعي الثبوت؟ قالوا: لا، دلالته ليست قطعية، بدليل أنه مخالف فيه، أكثر أهل العلم لا يقولون بوجوب صلاة العيد.
طالب: "بخلاف الكتاب فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل، والمقطوع به مقدم على المظنون، فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة.
والثاني: أن السنة إما بيان للكتاب، أو زيادة على ذلك، فإن كان بيانًا، فهو ثان على المبين في الاعتبار".
لأن عندك مُبيَّن ومُبيِّن، فالمبيِّن تابع للمبيَّن، المبيِّن تابع للمبيَّن. أنت إذا كان عندك متن وشرح، كما مر بنا في شرح الطحاوية، عندك متن كلام المصنف سطر وكلام الشارح أسطر كثيرة، أيهما التابع وأيهما المتبوع؟ المتبوع كلام المصنف؛ لأنه مبيَّن، والتابع كلام الشارح؛ لأنه مبيِّن، وهذا يوضح كلام المصنف، فيكون كلام الطحاوي أولاً، ثم كلام ابن أبي العز ثانيًا.
طالب: "فإن كان بيانًا فهو ثانٍ على المبيَّن في الاعتبار؛ إذ يلزم من سقوط المبيِّن سقوط البيان".
"المبيَّن".
طالب: "إذ يلزم من سقوط المبيَّن سقوط البيان".
لو أن الشارح جاء بكلام خطأ، الماتن جاء بسطر جملتين أو ثلاث مسجوعات على طريقته، ودل الدليل على خلاف ما ذكر، والشارح تبع المصنف وقرّر كلامه، وشرحه بصفحات، فأسقطنا كلام الماتن، يبقى كلام الشارح قائمًا؟ ما يبقى.
طالب: "ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبيَّن".
نعم. قد يكون المبيَّن صحيحًا، كلام الشارح مضبوط، ثم قرر كلام الماتن مضبوط صحيح في شرح الطحاوية مثلاً، ثم جاء أحد الشراح وقد شرحها جمع من أهل العلم، منهم من هو على طريقة السلف كابن أبي العز، ومنهم من هم على طريقة الخلف من الذين يؤولون الأسماء والصفات، وبعضهم عنده أخطاء في القدر وبعضهم، فبينه بكلام خطأ، لا يلزم من سقوط المبيِّن سقوط المبيَّن.
طالب: "وما شأنه هذا، فهو أولى في التقدم، وإن لم يكن بيانًا، فلا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب، وذلك دليل على تقدم أو اعتبار الكتاب".
"واعتبار".
طالب: "وذلك دليل على تقدم واعتبار الكتاب".
نعم. في قوله -عليه الصلاة والسلام- في حديث عبادة: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً، قد جعل الله لهن سبيلاً، الثيب بالثيب جلد مائة والرجم، والبكر بالبكر جلد مائة والنفي سنة»، هذا ما يمكن أن تفهمه بمعزل عن المبيَّن في آية النساء: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15]، قد جعل الله لهن سبيلاً، فالحديث مرتبط مبيِّن للآية.
طالب: "والثالث: ما دل على ذلك من الأخبار والآثار، كحديث معاذ: «بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي...»، الحديث".
والحديث لا يسلم من مقال عند أهل العلم، له طرق وله شواهد، لكن يبقى أنه فيه كلام. أطال المحقق في تخريجه وجمع طرقه، الله المستعان. في كم صفحة؟
طالب: ثماني صفحات أو أكثر.
ثماني صفحات؟
طالب: تسع.
طالب: تسع.
نعم.
طالب: "وعن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى شريح: «إذا أتاك أمر فاقض بما في كتاب الله، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله فاقض بما سن فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-...» إلى آخره، وفي رواية عنه: «إذا وجدت شيئًا في كتاب الله، فاقض فيه ولا تلتفت إلى غيره».
وقد بيَّن معنى هذا في رواية أخرى أنه قال له: «انظر ما تبين لك في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبين لك في كتاب الله فاتبع فيه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-».
ومثل هذا عن ابن مسعود: «من عرض له منكم قضاء فليقض بما في كتاب الله، فإن جاءه ما ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه -صلى الله عليه وسلم-»".
لكن كم في الكتاب من المسائل المبينة المفصلة التي يُستقل بها عن السنة؟
طالب: قليل.
قليل؛ ولذلك لا يمكن أن يستغني أحد عن سنة النبي -عليه الصلاة والسلام-.
طالب: "وعن ابن عباس أنه كان إذا عن سئل عن شيء، فإن كان في كتاب الله قال به، وإن لم يكن في كتاب الله وكان عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال به. وهو كثير في كلام السلف والعلماء. وما فرَّق به الحنفية بين الفرض والواجب راجع إلى تقدم اعتبار الكتاب على اعتبار السنة".
هم فرقوا بين الفرض والواجب، أن الفرض: ما ثبت بدليل قطعي، وهذه صفة الكتاب المطردة من حيث الثبوت، وإن تخلفت في بعض الصور من جهة الدلالة، كما مثلنا بصلاة العيد. والواجب: ما ثبت بدليل ظني، وهذا هو الغالب في السنة. ويبقى أن هذه أمور نظرية، وعند التطبيق لا غناء لمن أراد أن يستدل بالكتاب على السنة، لا يمكن أن يستقل إلا في قضايا يسيرة جدًّا استقل بها الكتاب لا تحتاج إلى بيان، وإلا فالصلاة مثلاً أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، هل يمكن أن يصلي المسلم كما صلى النبي -عليه الصلاة والسلام- بمجرد استخراج نصوص الصلاة من القرآن؟
طالب: لا.
النبي -عليه الصلاة والسلام- بينها بقوله وفعله، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، ما قال: صلوا كما قرأتم في كتاب الله.
طالب: "وأن اعتبار الكتاب أقوى من اعتبار السنة، وقد لا يخالف غيرهم في معنى تلك التفرقة، والمقطوع به في المسألة أن السنة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار. فإن قيل: هذا مخالف لما عليه المحققون؛ أما أولاً: فإن السنة عند العلماء قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاضٍ على السنة؛ لأن الكتاب يكون محتملاً لأمرين فأكثر، فتأتي السنة بتعيين أحدهما، فيُرجع إلى السنة، ويترك مقتضى الكتاب".
لأن القرآن فيه المجمل الذي جاءت السنة ببيانه، وفيه العام الذي جاءت السنة بتخصيصه، وفيه المطلق الذي جاءت السنة بتقييده، وهكذا.
طالب: "وأيضًا، فقد يكون ظاهر الكتاب أمرًا فتأتي السنة فتخرجه عن ظاهره، وهذا دليل على تقديم السنة، وحسبك أنها تقيد مطلقه، وتخص عمومه، وتحمله على غير ظاهره، حسبما هو مذكور في الأصول، فالقرآن آتٍ بقطع كل سارق، فخصَّت السنة من ذلك سارق النصاب المُحَرَّز".
"المُحْرَز".
طالب: "المُحْرَز"، "فخصت السنة من ذلك سارق النصاب المُحْرَز، وأتى بأخذ الزكاة من جميع الأموال ظاهرًا، فخصته بأموال مخصوصة، وقال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، فأخرجت من ذلك نكاح المرأة على عمتها أو خالتها، فكل هذا تركٌ لظواهر الكتاب وتقديم السنة عليه، ومثل ذلك لا يحصى كثرة.
وأما ثانيًا، فإن الكتاب والسنة إذا تعارضَا فاختلف أهل الأصول: هل يقدم الكتاب على السنة، أم بالعكس، أم هما متعارضان؟ وقد تكلم الناس في حديث معاذ، ورأوا أنه على خلاف الدليل، فإن كل ما في الكتاب لا يُقدم على كل السنة، فإن الأخبار المتواترة لا تضعف في".
فيكون التقديم إجماليًّا، ولا يلزم من ذلك تقدم كل فرد من أفراد نصوص الكتاب على كل فرد من أفراد نصوص السنة. يبقى أن في التفضيل الإجمالي والتقديم الإجمالي هكذا، ثم إذا جاءت مسألة، ووجدنا دليلها مجملاً في الكتاب ومفصلاً في السنة عملنا بما في السنة مما يبين الكتاب، ولا نكون بذلك خالفنا الكتاب، فنكون بذلك عملنا بالدليلين. وتفضيل الرجال على النساء لا يعني أن كل رجل من الرجال أفضل من كل امرأة من النساء، هذا التفضيل إجمالي؛ بل في النساء من تعدل العشرات بل المئات من الرجال.
طالب: "فإن الأخبار المتواترة لا تضعف في الدلالة عن أدلة الكتاب، وأخبار الآحاد في محل الاجتهاد مع ظواهر الكتاب، ولذلك وقع الخلاف، وتأولوا التقديم في الحديث على معنى البداية بالأسهل الأقرب".
"الأسهل الأقرب وهو الكتاب"؛ لأن الكتاب مضبوط ومحصور بين الدفتين، يستطيع أن يدرك ما فيه آحاد المتعلمين ممن حفظوا القرآن. لكن السنة منتشرة، والإحاطة بها في غاية الصعوبة. فالإنسان يبدأ بالأسهل، بالأقرب.
طالب: "وهو الكتاب، فإذا كان الأمر على هذا، فلا وجه لإطلاق".
وتبقى الصدارة للقرآن، لكلام الله -جل وعلا-، ولذلك إذا رتبوا الأدلة لأي مسألة من المسائل قالوا: دل عليها الكتاب والسنة والإجماع، ثم يفصلون: من الكتاب كذا، ومن السنة كذا، وأجمع العلماء على كذا. وإن قال بعضهم بتقديم الإجماع على الكتاب والسنة، كما قرر الطوفي ذلك؛ لأنه -أعني الإجماع- لا يحتمل نسخًا ولا تأويلاً، بخلاف نصوص الكتاب والسنة تحتمل النسخ والتأويل. ومع ذلك نقول: تقديم الإجماع ليس تقديمًا له، إنما تقديم للدليل الذي اعتمد عليه الإجماع.
طالب: "فإذا كان الأمر على هذا، فلا وجه فإطلاق القول بتقديم الكتاب، بل المتبع الدليل. فالجواب: إن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه واطراح الكتاب، بل إن ذلك المعبَّر في السنة هو المراد في الكتاب، فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب".
ومع ذلك هي وحي: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]، نعم.
طالب: "ودل على ذلك قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فإذا حصل بيان قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] بأن القطع من الكوع، وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله؛ فذلك هو المعنى المراد من الآية، لا أن نقول: إن السنة أثبتت هذه الأحكام دون الكتاب، كما إذا بيَّن لنا".
السنة من أين اكتسبت الشرعية؟
طالب: من الكتاب.
من الكتاب اكتسبتها: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن: 12]، من هذا النص وأمثاله، فإذا عملنا بالسنة فنحن في الحقيقة نعمل بالقرآن.
طالب: "كما إذا بين لنا مالك أو غيره من المفسرين معنى آية أو حديث فعملنا بمقتضاه، فلا يصح لنا أن نقول: إنا عملنا بقول المفسر الفلاني، دون أن نقول عملنا بقول الله أو قول رسوله -عليه الصلاة والسلام-. وهكذا سائر ما بينته السنة من كتاب الله تعالى، فمعنى كون السنة قاضيةً على الكتاب أنها مبيِّنة له، فلا يُوقَف مع إجماله واحتماله، وقد بينت المقصود منه لا أنها مقدَّمة عليه. وأما خلاف الأصوليين في التعارض، فقد مر في أول كتاب الأدلة أن خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها فهو في العمل مقبول، وإلا فالتوقف، وكونه مستندًا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنًى قرآني كلي، وتبين معنى هذا الكلام هنالك".
يعني خبر الواحد إذا لم يستند إلى قاعدة مقطوع بها، كيف يتوقف به وقد ثبت وصح نقله عن المعصوم -عليه الصلاة والسلام-؟ يعني أن نتوقف في العمل بخبر الواحد حتى نجزم بأنه جارٍ على القواعد، وأنه في كتاب الله ما يدل عليه؟ هذا الكلام ليس بصحيح؛ بل السنة أصل مستقل ثبت بها كثير من الأحكام التي لا أصل لها في القرآن، إلا في مثل قوله -جل وعلا-: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [التغابن: 12].
طالب: "فإذا عرضنا هذا الموضع على تلك القاعدة وجدنا المعارضة في الآية والخبر معارضة أصلين قرآنيين، فيرجع إلى ذلك، وخرج عن معارضة كتاب مع سنة، وعند ذلك لا يصح وقوع هذا التعارض إلا من تعارض قطعيين، وأما إن لم يستند الخبر إلى قاعدة قطعية، فلا بد من تقديم القرآن على الخبر بإطلاق. وأيضًا، فإن ما ذُكر من تواتر الأخبار إنما غالبه فُرِضَ أمرٌ جائز".
"فَرْضُ أمرٍ".
طالب: "فَرْضُ أمرٍ جائز، ولعلك لا تجد في الأخبار النبوية ما يقضي بتواتره إلى زمان الواقعة، فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع أو في نادر الوقوع، ولا كبير جدوى فيه، والله أعلم".
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك.