التعليق على الموافقات (1431) - 15

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

يقول: هذا رجلٌ أراد الحج، ولديه قريبٌ مريض في المستشفى، ويخشى موته، فهل يحق له الاشتراط إن توفي المريض أن يتحلل ويرجع أم لا؟

وهل يصح الاشتراط في مثل هذا أم لا؟

على كل حال إذا كان المريض والدًا أو والدة والحج نفلًا، فالمرجَّح أنه يبقى ولا يحج في هذه الحالة؛ لرعاية والده ووالدته والاطمئنان عليهما، فهو أفضل من الحج، وإن كان قريبًا غير الوالد والوالدين والإخوة الذين هم بحاجةً إليه والأخوات، فمثل هذا لا يؤثر إن أراد أن يحج، وفيما بعد يُقدِّم ما يُطلب منه من عزاء بهاتفٍ أو غيره، وإذا رجع فبإمكانه أن يواسي أقاربه وهو معذورٌ بالحج، ولا يحتاج إلى اشتراط إذا كان ليس من الأقرباء الذين يحتاجون إليه ويفقدونه إذا غاب، مثل هذا ينتظر يحج، وإذا رجع –والحج كله أربعة أيام- يعني ما يفوت شيء، ولله الحمد.

فإذا دخل في الحج لا يجوز له قطعه، ولا يُشترط لمثل هذا، إلا لو كانوا بحاجةٍ إليه، هم ليسوا بحاجة إليه، إنما يخشى من مقالة الناس ومن كلامهم فلان ابن عمه مات وما حضر، ويخشى ألا يحضروا جنائزه إذا مات، هذا ما هو بعذر هذا.

والإشكال أن هذا أثَّر في الناس، تجد بعض الناس لا يحضر صلاة على ميت، ولا يُشيعه إلى قبره، ولا يتبع جنازته، وإذا سُئِل قال: والله مات أخي أو مات أبي وما حضر ولا شيع، كأنه يتقاضى مع البشر، غافلاً عن الثواب العظيم عند الله –جلَّ وعلا-، والله ما حضر جنازة أبي فكيف أحضر جنازة أبيه، هذا حرمان -نسأل الله العافية-، وهذا غياب عن الهدف الذي من أجله وُجِد في هذه الحياة، إذا كان التعامل مع البشر فليتعامل بمثل هذه الطريقة، إذا كان لا يرجو ثواب الله –جلَّ وعلا- فقد خاب وخسر، وإذا كان يتعامل مع الله –جلَّ وعلا- فأجره موفور سواءً حضر جنازة أبيه أو لم يحضر، لا فرق، بل العكس قد يكون أجره أعظم إذا صلى عليه وشيعه إلى قبره أو إلى المقبرة، وتبع جنازته يكون ثوابه أعظم إذا كان الميت أو أقاربه لم يحضروا جنازة أبيه؛ لأنه في هذه الحالة مُتبعٌ للحق مخالفٌ لهواه.

أما إذا كانت هناك مقاضاة، وهذا حضر وشيَّع قريبك، ثم حضرت وشيَّعت قريبه فهذه مجازاة، يعني الملحوظ فيها المجازاة، وما يُدرى لو كان ما حضر هل تحضر أو ما تحضر، فالتعامل والتجارة مع الله –جلَّ وعلا- ما هي مع البشر، كل الذي بين البشر ينتهي، تقطعت بهم الأسباب، لكن الباقي هو ما كان لله –جلَّ وعلا- «وَمَنْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ» والقيراط كالجبل العظيم «وَمَنْ تبِعها حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قِيرَاطَانِ».

المقصود أن هذا السائل إن كان قريبه بحاجةٍ إليه، وهو من أقرب الناس إليه بحيث يتأثر لو لم يحضر، فمثل هذا لا يحج، لاسيما إذا كان أحد الوالدين أو الأخ الذي لا يُوجد من يقوم به سواه، مثل هذا لا يحج، وله أجر الحج -إن شاء الله تعالى- إذا كان هذا هو المانع له من الحج.

أما إذا كان قريبًا، لكنه لا يحتاج إليه، ويساوي في القرب جمع من الأسرة، فمثل هذا يحج، ومتى ما رجع يؤدي ما عليه –إن شاء الله تعالى- ولا يفوت، وإذا حصلت التعزية بالهاتف أجزأت، والناس يعذرون بمثل هذا، الناس يموت لهم القريب وهم حُجاج ما يُلامون؛ لأن عذرهم معهم.

يقول: ما أفضل طبعةٍ وتحقيق لتفسير ابن كثير؟

ذكرنا مراراً في مناسبات أن أفضل الطبعات وأصح الطبعات هي طبعة الشعب المطبوعة عن نُسخة الأزهرية أول نُسخة مخطوطة للكتاب، ويبقى أن هذه الطبعة مأخوذة عن النسخة الأزهرية التي هي العرضة الأولى للكتاب فيها مقاطع لا تُوجد، مفقودة، لماذا؟ لأن الحافظ ابن كثير ألحق في الكتاب نُقُولًا عن الرازي، عن الزمخشري، عن القرطبي لا تُوجد في العرضة الأولى للتفسير، إنما ألحقها بها، فوجِدت في بعض الطبعات التي طُبِعت عن نُسخ متأخرة عن النسخة الأولى، ويبقى أن الموجود في طبعة الشعب أصح من غيره.

والمقاطع التي أُلحِقت فيما بعد يستدركها من طبعاتٍ أخرى.

ثم جاءت طبعة أولاد الشيخ خمسة عشر جزءًا، وهذه فيها عناية في التخريج والتعليق، ومقابلة النُّسخ، وهي جيدة في الجملة.

ثم بعد ذلك طُبِع أو صدر عن دار ابن الجوزي في ثمانية مجلدات تصفحت المجلد الأول، فإذا به طبعة ممتازة، فيها عناية، وفيها إخراجٌ جميل، وتُعين على القراءة. 

أين عابد؟ أظن ما هو بحاضر.        

تفضل.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد....

فقال الشاطبي –رحمنا الله وإياه-: "الفصل الثالث: في الأوامر والنواهي، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: الأمر والنهي يستلزم طلبًا وإرادةً من الآمر، فالأمر يتضمن طلب المأمور به وإرادة إيقاعه، والنهي يتضمن طلبًا لترك المنهي عنه وإرادةً لعدم إيقاعه، ومع هذا ففعل المأمور به وترك المنهي عنه يتضمنان أو يستلزمان إرادة".

لا يُمكن أن يصدر أمر بدون إرادة إلا من غافل أو ساهٍ أو نائم أو غير عاقل، فلا يُتصور طلب إيجاد فعل، أو طلب الكف عنه وهو النهي إلا بإرادةٍ من الآمر أو الناهي إلا إذا كان لا يدخل في حيز الكلام الذي حدَّه أهل العلم بأنه: اللفظ المركب المفيد بالوضع، بوضع اللغة أو بالقصد، كما يقول بعضهم، فالكلام غير المقصود ولو تضمن الحروف والأصوات إلا أنه لا يُسمى كلامًا، وحينئذٍ لو أمر حال نومه، فإنه لا يُسمى أمرًا، أو نهى حال نومه، فإنه لا يُسمى نهيًا، وكذلك الأمر والنهي ممن لا يقصد، يعني لو سُجِّل كلام فيه أمر، ونهي  بمسجل، وسمعت هذا الأمر والنهي من الآلة، هل يتجه إليك هذا الأمر أو النهي؟ هذا ما فيه قصد.

كذلك لو صدر عن حيوانات تقبل التلقين كالببغاء مثلاً يسمع الأمر والنهي، ويُطلق هذا الأمر والنهي، ويُكرر هذا الأمر والنهي، لكن هل يقتضي أمرًا أو نهيًا؟ لا، الأمر لا بُد أن يكون مصحوبًا بالإرادة، ويكون أيضًا مصحوبًا بالطلب، إما طلب الفعل في الأمر، أو طلب الكف في النهي.

طالب:........

أين؟

طالب:........

سيأتي بيانه، إن مراده بأهل السُّنَّة الأشعرية، وليت المُحقق -وهو على مذهب أهل السُّنَّة بالفعل- علَّق على مثل هذا الكلام، على كل حال نحن ما نحتاج إلى مثل هذه الحواشي، نتعامل مع الأصل، الحواشي التي فيها فوائد حواشي الشيخ دراز، فيها فوائد كبيرة جدًّا، وتكشف وتفتح المستغلِق في كثيرٍ من الأحيان، لكن في بعض الأحيان لا نحتاج إليها، في مثل هذا ما نحتاج إليها، الكلام واضح كلام الشاطبي –رحمه الله-.

"ففعل المأمور به، وترك المنهي عنه يتضمنان أو يستلزمان إرادةً بها يقع الفعل أو الترك أو لا يقع".

يعني دلالة الأمر والنهي على الإرادة من أي الدلالات، مطابقة أو تضمن أو استلزام؟ إذ يقول: "يتضمنان أو يستلزمان" فهو مترددٌ بين الدلالتين.

"وبيان ذلك أن الإرادة جاءت في الشريعة على معنيين:

أحدهما: الإرادة الخلقية القدرية".

يعني الكونية الإرادة الكونية، والإرادة الشرعية الثانية.

"أحدهما: الإرادة الخلقية القدرية المتعلقة بكل مراد، فما أراد الله كونه كان، وما أراد أن لا يكون فلا سبيل إلى كونه، أو تقول: وما لم يُرد أن يكون فلا سبيل إلى كونه".

نعم إذا قضى الله شيئًا فإن كان قضاؤه بإيجاده فلا بُد أن يقع، وإذا قضاؤه بعدم إيجاده فلا يمكن أن يقع، فلا يقع في مُلكه إلا ما يُريد، هذا بالنسبة للإرادة الكونية، أما بالنسبة للإرادة الشرعية فقد يُريد من المكلفين شيئًا ولا يقع؛ لأن هذا موكول إلى نوع اختيارٍ لهم، وعليه يُحاسبون. 

"والثاني: الإرادة الأمرية المتعلقة بطلب إيقاع المأمور به، وعدم إيقاع المنهي عنه، ومعنى هذه الإرادة أنه يحب فعل ما أمر به ويرضاه، ويحب أن يفعله المأمور ويرضاه منه، من حيث هو مأمورٌ به، وكذلك النهي يحب ترك المنهي عنه ويرضاه".

نعم الإرادة الكونية قد لا تستلزم المحبة، لكن لا بُد من وقوع المراد، أراد من فلان أن يموت كافرًا إرادة كونية قدرية، وأراد منه أن يموت مُسلمًا إرادةً شرعية، فالإرادة الكونية لا بُد من وقوعها، والثانية مُتعلقها المحبة، الله –جلَّ وعلا- يُحب، لكن مع ذلك قد يستجيب المكلف المأمور، وقد لا يستجيب؛ ولهذا خلقهم، فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير، خلقهم وجعل لهم إرادة ومشيئة تُخوِّل المكلف وتُهيؤه للفعل والترك والاختيار له، له حرية واختيار ومشيئة، لكنها لا تستقل عن إرادة الله ومشيئته واختياره، خلافًا للمعتزلة الذين يرون أنه كامل الحرية، وكامل المشيئة، وكامل الاختيار، ويخلق فعل نفسه؛ ولذلك أثبتوا مع الله خالقًا، فسموهم مجوس هذه الأمة.

يُقابلهم الجبرية الذين قالوا: الإنسان مسلوب الاختيار والحرية، وحركته كحركة ورق الشجر في مهب الريح، وعلى هذا يكون تعذيب العاصي ظلمًا أم ما هو بظلم؟ جبره على هذا، فهو ظالمٌ له، تعالى الله عما يقول الطائفتان علوًا كبيرًا.

وأهل السُّنَّة توسطوا وأثبتوا له مشيئة وحرية واختيارًا، لكنها لا تستقل، ولا يستقل بها بحيث يفعل ما يشاء، منفكًا عن إرادة الله ومشيئته.     

"فالله -عزَّ وجلَّ- أمر العباد بما أمرهم به، فتعلقت إرادته بالمعنى الثاني بالأمر، إذ الأمر يستلزمها؛ لأن حقيقته إلزام المكلف الفعل أو الترك، فلا بُد أن يكون ذلك الإلزام مرادًا، وإلا لم يكن إلزامًا ولا تصور له معنىً مفهوم.

وأيضًا فلا يمكن مع ذلك أن يُريد الإلزام مع العرو عن إرادة إيقاع الملزوم به على المعنى المذكور، لكن الله تعالى أعان أهل الطاعة".

هذا الإلزام المفهوم من الأمر والنهي مع الأمر والنهي ليس على إطلاقه، هو مُلزم أن يفعل، وأن يترك، يفعل في حال الأمر، وأن يترك في حال النهي، هو ملزم بهذا، ومعاقبٌ على المخالفة، لكن هل هو ملزم على إيجاد الفعل بمعنى أنه أُمِر بالصلاة، هل لا بُد من وقوع الصلاة؛ لأنه مُلزم بها، هو ملزم بمعنى أنه يُثاب على الامتثال، ويُعاقب على الترك في الحالين في الأمر والنهي، لكن ليس معنى هذا الإلزام اللاإرادي في إيجاد الفعل، أنه كيف يكون مُلزمًا ولا يُوجِد؟

ولذلك يقول:"وأيضًا فلا يمكن مع ذلك أن يُريد الإلزام مع العرو عن إرادة إيقاع الملزوم به على المعنى المذكور" لأن الله تعالى أعان أهل الطاعة، أعان أهل الطاعة على الإيجاد، ولم يُعن أهل الكفر، والشِّرك والمعاصي على الترك ترك المطلوب، وفعل المطلوب تركه، مع أن لهم حرية واختيارًا وقدرة على الفعل، هذا الذي قيل له: صلِّ، فلم يُصلِّ، هل أراد القيام فلم يستطع؟ هل أراد الوضوء فلم يستطع؟ هل أراد الذهاب إلى المسجد فلم يستطع؟ عنده حرية واختيار يستطيع بها فعل ما أُمر به، وترك ما نُهي عنه، لكنه اختار السبيل الثاني، وهذا عدم إعانة.

 قد يقول قائل: أعان أهل الطاعة، ولم يُعن أهل المعصية، فالمرد كله إلى الله –جلَّ وعلا-، فكيف يُثيب هذا، وقد أعانه، ويُعاقب هذا وقد تخلى عن إعانته؟ قد يستدل بهذا من يستدل، هل يلزم بعد البيان التام، وبعد التمكين من الفعل أن يكونوا على حدٍّ سواء في الإعانة؟  

يعني على سبيل المثال: أنا ذكرت لكم كتابًا نافعٌ جدًّا، وذكرت لكم اسمه، ومؤلفه ومزاياه، وفوائده فصمم الجميع على اقتنائه، قام السُّرعان، وذهبوا إلى المكتبات يتخبطون ويسألون بقي جمع من الطلاب، قلت: تراه في المكتبة الفلانية، ذهبوا إلى المكتبة واشتروه، هل أنا قصرت في تبليغ أولئك، أو أنا الملزم أن أخبرهم عن مكانه؟ قام هؤلاء وبقي خمسة أشخاص، وعندي خمس نُسخ، قلت: هذه خمس نُسخ هدية، هذا كله فضل من الله –جلَّ وعلا- هو يكفي البيان، وتكفي الهداية والدلالة الله –جلَّ وعلا- ما ترك لأحدٍ حُجة، لكن هذا الذي نصح بشراء الكتاب وقام السُّرعان وراحوا يبحثون عنه ما وجدوه؛ لأنهم ما أعينوا على محله، على مكانه، هم دُلوا دلالة مُطلقة مُجملة على أهمية الكتاب، وفائدة الكتاب، بعض من بقي دولوا على مكانه فتيسر لهم الأمر للحصول عليه، طيب بقي نفرٌ يسير، وعند الشيخ نُسخ يسيرة للتوزيع وأعطاهم، هل هو ظلم أولئك الذين قاموا سُرعان وذهبوا يبحثون فلم يجدوه؟ هو ما ظلمهم تم البيان لهم، هذا مثال تقريبي.

لأن كلام القدرية في هذا الباب، القدرية المبالغون في الإثبات، والمبالغون في النفي كلامه يدور حول هذا أعان هؤلاء وخذل هؤلاء لماذا يعذبهم؟ الله –جلَّ وعلا- ما ترك لأحدٍ حُجة، بيَّن البيان المبين بحيث لا يخفى على أحد، وما وجِدت مثل هذه الشُّبه عند المسلمين الباقين على فِطرهم، حتى العوام الذين لا يقرؤون ولا يكتبون ما يمكن أن يقول لك: والله أنا ما أراد الله أني أصلي، إنما يتوضأ ويطلع يصلي وانتهى الإشكال، لكن من الذي يقول: ما أراد؟ الذين تلوثت أفكارهم واجتالتهم الشياطين واقتدوا بمن قال: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء، فاحتجوا بالمشيئة الكونية على وجود المخالفة منهم.

لكن هل منعهم أحد من قول: لا إله إلا الله؟ هل منعهم أحد من تعلم لا إله إلا الله؟ معناها، شروطها، مقتضياتها لوازمها نواقضها، هل منعهم أحد؟ ما منعهم أحد، ولو بقوا على اللفظ بها مع معرفة معناها إجمالاً ولم يرتكبوا ما يُخالفها كعوام المسلمين يكفي، ما يلزم التفاصيل، هذا القدر كافي لعموم المسلمين من أول الأمر إلى آخره.

 يأتيك من يقول يطوف على قبر، ويقول: هذه والله إرادة الله، أنا هذا الذي كتبه الله لي، نقول: لا، كتب الله لك أن تهتدي، وأمرك بالتوحيد، وحذَّرك أشد التحذير من الشِّرك، وبيَّن لك السبيلين، فاخترت الطريق الثاني، ما فيه حيلة أنت المختار، يعني ما فيه إجبار والله –جلَّ وعلا- ما أجبر أحدًا، وضع فيه من الحرية والاختيار والقدرة على ما يختار به ما يُناسبه، ثم بعد ذلك في النهاية لا يقع للمرء إلا ما كُتب له شقي أو سعيد.

طيب يقول: هو مكتوب علي من قديم ماذا أفعل؟ لو كان لهذا مستمسك، لكان الجواب من النبي-عليه الصلاة والسلام- لمَّا ذكر أن الله كتب المقادير قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، قالوا: فبمَ العمل؟ لماذا نعمل؟ مادام اسمي مكتوبًا في السعداء لماذا أعمل؟ أو مكتوبًا في الأشقياء لماذا أتعب؟ قال: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ».

وعلى من هداه الله –جلَّ وعلا- إلى الصراط المستقيم، والمسلك القيوم طريق أهل السُّنَّة والجماعة للتوفيق بين النصوص، وسلوك هدي النبي –عليه الصلاة والسلام- أن يحمد الله –جلَّ وعلا- على هذه النِّعمة التي حُرِمها كثير من الناس، فسلكوا أحد طرفي النقيض، فضلوا وأضلوا.

ناس أذكياء كبار عباقرة، تجدهم يخوضون في مثل هذه المسائل، ولا يُوفَقون، وتجد عوام المسلمين على الجادة؛ لأنهم ما نظروا في نتائج العقول الممسوخة التي اجتالتها الشياطين، ما تأثروا بعلم الكلام، ولا بالفلسفة ولا بغيرها، ديدنهم النظر في الكتاب والسُّنَّة وكفى، وما يُعين على فهم الكتاب والسُّنَّة من أقوال أهل العلم المحققين الموثوقين، وكل الخير والهدى في اتباع من سلف، وفي الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، فمثل هذا الكلام الذي يستدل به بعض من انحرفوا عن الصراط المستقيم لا دليل لهم فيه، ولا مستمسك لهم فيه، إنما أخذوا ببعض النصوص، وتركوا البعض، ولو وفقوا بين النصوص التي يستدل بها الطرفان لما ضلوا في جميع أبواب الدين، والحق في الوسط { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143].

دائمًا تجد الذي يشط يمينًا أو يسارًا، هذا تجده في الغالب ما يُوفق إلا إذا كتب الله له الهداية والتزم الوسط، فإن لم يُعجبه الطريق الذي في أقصى اليمين تجده يشط إلى الطريق الذي في أقصى اليسار، والشواهد موجودة في القديم والحديث، لكن قد يُهدى إلى الصراط المستقيم ويفتح الله عليه، ويتوب الله عليه، في جميع الأبواب تجد طرفين ووسطًا، تجد في جميع أبواب الدِّين طرفين ووسطًا، يعني حتى في باب العمل والسلوك، وفي باب الاتباع. يعني هل هناك فرق بين شخص يتعبد سبعين سنة، ويسأل الله –جلَّ وعلا- أن يُنجيه من النار، ولا يسأل الجنة، يقول سبعين سنة: أنا ما أنا بكفؤ للجنة، لكن يكفيني أن أنجو من النار، هذا في أقصى اليمين، يُقابله في أقصى الشمال من إذا تخلف عن الناس ربع ساعة يذكر الله في المسجد، وتحرك الباب ظن الملائكة دخلوا يُسلمون عليه عيانًا.

فلا هذا ولا هذا خوف ورجاء، وحُسن ظن بالله –جلَّ وعلا- وعمل وإخلاص ومتابعة، هذا هو الصراط المستقيم، فلا هذا ولا هذا.

وفي جميع الأبواب لو تأملت وجدت أن هناك طرفي نقيض، وتجد الحق في الوسط.        

"لكن الله تعالى أعان أهل الطاعة، فكان أيضًا مريدًا لوقوع الطاعة منهم، فوقعت على وفق إرادته بالمعنى الأول، وهو القدري، ولم يعن أهل المعصية".

وقعت في المعنيين المعنى الأول والثاني، إذا أعان أهل الطاعة ووفقهم لها، فوقع ما أراده لهم كونًا وقدرًا، ووقع ما أراد لهم شرعًا.

"ولم يعن أهل المعصية، فلم يُرد وقوع الطاعة منهم، فكان الواقع الترك، وهو مقتضى إرادته بالمعنى الأول".

ولكنه مُخالفٌ لإرادته بالمعنى الثاني.

"والإرادة بهذا المعنى الأول لا يستلزمها الأمر، فقد يأمر بما لا يريد، وينهى عما يريد".

يعني يقضي ويشاء ما لا يُريد، يعني يشاء الله –جلَّ وعلا- كونًا وقدرًا أن يموت أبو طالب على الكفر، لكن هل أراد ذلك منه بالمعنى الثاني؟ لا.

"وأما بالمعنى الثاني فلا يأمر إلا بما يريد، ولا ينهى إلا عما لا يريد، والإرادة على المعنيين قد جاءت في الشريعة، فقال: تعالى في الأولى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام:125].

وفي حكاية نوحٍ -عليه السلام-: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]".

يعني إرادةً كونية.

"وقال تعالى: { وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} إلى قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] وهو كثيرٌ جدًّا.

وقال في الثانية: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].

{مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6] الآية.

{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:26-28].

{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33] وهو كثيرٌ جدًّا أيضًا.

ولأجل عدم التنبه للفرق بين الإرادتين وقع الغلط في المسألة، فربما نفى بعض الناس الإرادة عن الأمر والنهي مطلقًا".

نظرًا للإرادة بالمعنى الأول، المشيئة بالمعنى الأول قد لا تستلزم الإرادة والمحبة.

 

"وربما نفاها بعضهم عما لم يؤمر به مطلقًا وأثبتها في الأمر مطلقًا، ومن عرف الفرق بين الموضعين لم يلتبس عليه شيءٌ من ذلك.

وحاصل الإرادة الأمرية أنها إرادة التشريع، ولا بُد من إثباتها بإطلاق، والإرادة القدرية هي إرادة التكوين، فإذا رأيت في هذا التقييد إطلاق لفظ القصد وإضافته إلى الشارع فإلى معنى الإرادة التشريعية أشير، وهي أيضًا إرادة التكليف، وهو شهيرٌ في عُرف الأصوليين أن يقولوا: إرادة التكوين، ويعنون بالمعنى الأول إرادة التكليف، ويعنون بالمعنى الثاني الذي يجري ذكره بلفظ القصد في هذا الكتاب، ولا مُشاحة في الاصطلاح، والله المستعان".

مثل هذه المباحث التي تشترك فيها كتب الأصول في باب الأمر والنهي مع كتب العقائد، والمسألة مبحوثة وموضحة في كتب العقائد من مؤلفات شيخ الإسلام وغيره.

"المسألة الثانية: الأمر بالمطلقات يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها، كما أن النهي يستلزم قصده لترك إيقاعها.

وذلك أن معنى الأمر والنهي اقتضاء الفعل واقتضاء الترك، ومعنى الاقتضاء الطلب، والطلب يستلزم مطلوبًا والقصد لإيقاع ذلك المطلوب، ولا معنى للطلب إلا هذا".

الأمر بالمطلقات، وكذا بالعمومات "يستلزم قصد الشارع إلى إيقاعها" هل يستلزم قصد الشارع إيقاعها قبل التقييد أو قبل التخصيص أو بعده؟ النصوص المطلقة والنصوص العامة {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} [البقرة:43] قبل البيان، عتق رقبة قبل التقييد، والنصوص العامة قبل التخصيص هل يُعمل بها قبل ذلك أو لا بُد من أن تُبيَّن بالنسبة للمجملات أو تُخصص بالنسبة للعمومات أو تُقيَّد بالنسبة للمطلقات أو يُعمل بما يُمكن العمل به من أفراد العام ومن أوصاف المطلق، ثم بعد ذلك يُخرج منه ما دل القيد أو الخاص عليه.

طالب:.......

يعني ما أمكن العمل به يتناوله الأمر.

طالب:.......

نعم يُخرج منه ما دل النص الخاص عليه.

"ووجهٌ ثانٍ أنه لو تُصوِّر طلبٌ لا يستلزم القصد لإيقاع المطلوب لأمكن أن يرد أمرٌ مع القصد لعدم إيقاع المأمور به، وأن يرد نهيٌ مع القصد لإيقاع المنهي عنه، وبذلك لا يكون الأمر أمرًا ولا النهي نهيًا، هذا خُلف".

نعم كيف يرد نهي أو يرد أمر، يرد أمر مع القصد لعدم إيقاعه، ويرد نهي مع القصد لإيقاعه، هذا تناقض، خلفٌ في القول، وهذا لا يصدر من الحكيم.

"ولصح انقلاب الأمر نهيًا وبالعكس، ولأمكن أن يوجد أمرٌ أو نهيٌ من غير قصدٍ إلى إيقاع فعلٍ أو عدمه، فيكون المأمور به أو المنهي عنه مباحًا أو مسكوتًا عن حُكمه، وهذا كله محال.

والثالث: أن الأمر والنهي من غير قصدٍ إلى إيقاع المأمور به، وترك المنهي عنه هو كلام الساهي والنائم والمجنون، وذلك ليس بأمرٍ ولا نهيٍ باتفاق، والأمر في هذا أوضح من أن يستدل عليه".

في مقابلة كلام المجنون، وفي حُكمه النائم والساهي في الكلام المقصود في قوله –جلَّ وعلا- {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ:8] إما أن يكون قاصدًا لكلامه فيكون قد افترى على الله كذبًا، أو يكون غير قاصد فيكون مجنونًا، وقد استدل المعتزلة بهذه الآية على وجود كلامٍ ليس بصدقٍ ولا كذب، يعني الكلام غير المقصود هذا لا يُمكن أن يُطلق عليه صدق ولا كذب؛ لأن الله قابل كلام المجنون بالكلام المقصود {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [سبأ:8] إذا كان قصد هذا وفي تمام وعيه وتكليفه يكون {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [سبأ:8]، هذا قول الكفار، لكن الكلام على التمثيل تمثيل المعتزلة {أَم بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ:8] كلام غير مقصود، فأثبت قسيمًا للكذب بكلام المجنون غير المقصود، فدل على أن هناك مع أن قسيم الكذب الصدق، والآية تُثبت أن هناك قسيمًا ثانيًا غير صدق، وهو كلام من به جِنة.

وأهل السُّنَّة لا يُثبتون واسطة بين الصدق والكذب، فإما أن يُقال: إن كلام المجنون ليس بكلام، كلام المجنون لا يدخل في حد الكلام أصلاً، كذلك كلام النائم، والساهي، والطيور وغيرها، ويكون معنى قولهم: بالوضع، الكلام المُركب المفيد بالوضع، معنى الوضع القصد، وهذا قال به جمعٌ من أهل العلم، فيخرج غير المقصود من كونه كلام، فلا يتم استدلال المعتزلة عليه بالآية؛ لأنه غير مقصود، فلا يكون كلامًا، فلا يكون هناك واسطة بين الصدق والكذب.

وإذا قلنا: إن المراد بالوضع: يعني بالوضع العربي، وعليه يخرج كلام الأعاجم، كلام الأعاجم فلا يُسمى كلامًا، وهذا يلزم عليه لوازم منها إذا تكلم الأعجمي في الصلاة بلغته تبطل أم ما تبطل؟ على القول: بالوضع العربي، وأن كلام الأعاجم ليس بكلام، هذا معناه صلاتهم صحيحة، وجميع ما يترتب على هذا.

المقصود أن كلام المعتزلة في وجود الواسطة أو القسيم للصدق والكذب من كلام الله لا يُسمى صدقًا ولا كذبًا هذا قولٌ باطل، وعليه لوازم باطلة، ومعروفٌ رده عند أهل السُّنَّة. 

"فإن قيل: هذا مشكلٌ من أوجه:

 أحدها: أنه يلزم على هذا أن يكون التكليف بما لا يطاق مقصودًا إلى إيقاعه، فإن المحققين اتفقوا على جواز ذلك، وإن لم يقع، فإن جوازه يستلزم صحة القصد إلى إيقاعه، والقصد إلى إيقاع ما لا يمكن إيقاعه عبث".

الجواز، جواز الشيء والإمكان غير الوقوع، يعني لا يستحيل عقلاً أن يُكلَّف الإنسان بما لا يُطيق، يُكلفه الله –جلَّ وعلا- بما لا يُطيق، ولولا جوازه عقلاً لما طُلِب ودُعي بعدم وقوعه، في قوله: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] ولولا أنه يجوز عقلاً، وهو ممكن لما دُعي برفعه.

هذا الكلام يتجه لو وجِد في الواقع، لو قيل: إن الله –جلَّ وعلا- كلَّف بما لا يُطاق، لكان التكليف الذي المراد منه الإيقاع ما عدم الإمكان عبثًا، لكن هل وجِد، هل وقع شرعًا تكليف بما لا يُطاق ما وقع، فهذا الإشكال مرتفع من أصله، نعم هو مشكل لو وجِد وهو لم يُوجد، كونه ممكن عقلاً لا يعني وقوعه شرعًا، والمسألة في معاملة المكلِّف بما يصدر منه كون العقل يحتمله أو لا يحتمله هذا شيء آخر، لكن هل وقع ليُقال: إن التكليف بما لا يُطاق عبث ما وقع أصلاً من أجل أن يُقال: عبث، الحكيم الخبير ما يُمكن أن يُكلف بما لا يُطاق؛ لأنه لو كلَّف بما لا يُطاق، ولا يخفى عليه أن المُكلَّف لا يُمكن أن يفعل، هذا العبث، لكنه لم يُكلَّف فارتفع الإشكال، لم يُكلِّف.

"فيلزم أن يكون القصد إلى الأمر بما لا يُطاق عبثًا، وتجويز العبث على الله مُحال، فكل ما يلزم عنه مُحال، وذلك استلزام القصد إلى الإيقاع، بخلاف ما إذا قلنا: إن الأمر لا يستلزم القصد إلى الإيقاع، فإنه لا يلزم منه محظورٌ عقلي، فوجب القول به.

والثاني: أن مثل هذا يلزم في السيد إذا أمر عبده بحضرة ملكٍ قد توعد السيد على ضرب عبده، زاعمًا أنه لا يطيعه، وطلب تمهيد عذره بمشاهدة الملك، فإنه يأمر العبد وهو غير قاصدٍ لإيقاع المأمور به؛ لأن القصد هنا يستلزم قصده لإهلاك نفسه، وذلك لا يصدر من العقلاء، فلم يصح أن يكون قاصدًا وهو آمر، وإذا لم يصح لم يلزم أن يكون كل آمرٍ قاصدًا للمأمور به، وكذلك النهي حرفًا بحرف، وهو المطلوب".

إذا قيل لزيد من الناس: إن عبدك متمردٌ عليك، ولا يُطيعك، أو ولدك لا يُطيعك، فأمره بأمرٍ من أجل إثبات نقيض هذه الدعوى، وهو لا يُريد أن يُحقق هذا الأمر، ما له مصلحة في تحقيق هذا الأمر، هو قاصد للإيقاع أو غير قاصد؟ هو غير قاصد لإيقاع المأمور به، لكن قصده من هذا الأمر إثبات كذب هذه الدعوى أو إثبات نقيض هذه الدعوى، فوجود أمر وإن كانت صيغته صيغة الأمر لتكذيب دعواه، نقول: هذا ليس بأمر؛ لئلا يُنقض الأصل أن الأصل في الأمر قصد الإيقاع، وقد يرد الأمر بصيغة الأمر، بفعل الأمر، بلام الأمر، ولا يُراد به الإيقاع كأمر التهديد، وأمر التكوين، وأمر التعجيز، اصنعوا ما شئتم {كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء:50] هل يُقصد منه إيقاع الأمر؟ لا، ولهذا ليس من الأوامر المكلف بها.

"والثالث: أن هذا لازمٌ في أمر التعجيز، نحو {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ} [الحج:15] وفي أمر التهديد نحو: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] وما أشبه ذلك، إذ معلومٌ أن المعجز والمهدد غير قاصدٍ لإيقاع المأمور به في تلك الصيغة.

فالجواب عن الأول: أن القصد إلى إيقاع ما لا يُطاق لا بُد منه، ولا يلزم من القصد إلى ذلك حصوله؛ إذ القصد إلى الأمر بالشيء لا يستلزم إرادة الشيء، إلا على قول من يقول: إن الأمر إرادة الفعل، وهو رأي المعتزلة".

يبقى أن المستحيل، هل يُمكن أن يُقال له: شيء أو ليس بشيء؟ يعني من الأمور المستحيلة الجمع بين النقيضين أو ارتفاع النقيضين، إذا أُمِر بالجمع بين النقيضين هل نقول: إن هذا شيء يتجه إليه أمر أو ليس بشيءٍ أصلاً، فلا يتجه إليه أمر؟

طالب:........

المستحيل ليس بشيء؛ ولذا يقول بعض المفسرين في مثل {إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة:20]: الآية مخصوصة بالمستحيلات، يعني لا يقدر على خلق مثله هذا كلام تعالى الله عما يقولون.

ويقول بعض الملحدين: هل يستطيع الرب أن يخلق صخرةً لا يستطيع تفتيتها؟ هذا مستحيل؛ لأن فيه جمعًا بين النقيضين يستطيع ولا يستطيع، وهذا ليس بشيء، فلا يدخل في مثل هذه النصوص {إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [البقرة:20] لا يدخل في مثل هذا؛ لأنه مستحيل، والمستحيل ليس بشيء، فلا نحتاج إلى استثناء في مثل هذه الحالة؛ لأنه ليس بشيءٍ فلا يدخل في النص، المستحيل لا يُمكن وقوعه، ولا يُمكن تصوره فليس بشيء.  

"وأما الأشاعرة فالأمر عندهم غير مستلزمٍ للإرادة، وإلا وقعت المأمورات كلها".

لا، الإشكالات ما تنحل على طريقة الأشاعرة، ولا على طريقة المعتزلة، الإشكال على طريقة المعتزلة ظاهر، وأما على طريقة الأشاعرة، والأمر عندهم غير مستلزم للإرادة، نقول: الأمر بالمعنى الثاني مستلزمٌ للإرادة الشرعية والقصد، الله –جلَّ وعلا- يُريد ممن خلقهم من الجن والإنس أن يعبدوه، ويقصد إلى ذلك، لكن كونهم لا يُحققون هذا الهدف فهذا لا يعني أنه قد خرج من مُلك الله أو خرج في مُلك الله ما لا يُريده، نعم أراد منهم أن يُسلموا، أراد منهم أن يعبدوه، وترك لهم الحرية في الاختيار، وخلق لهم الجزاء جزاء المطيع، وجزاء العاصي، وهذه حكمته من إيجاد الخلق، ولولا ذلك لتعطلت كما يقول ابن القيم: دار الجزاء الثاني، تعطلت النار، ولماذا خلقها الله –جلَّ وعلا- إلا ليُعاقب بها من لا يُطيعه. 

"وأيضًا لو فُرض في تكليف ما لا يطاق عدم القصد إلى إيقاعه لم يكن تكليف ما لا يطاق؛ لأن حقيقته إلزام فعل ما لا يقدر على فعله، وإلزام الفعل هو القصد إلى أن يفعل أو لازم القصد إلى أن يفعل، فإذا عُلم ذلك فلا تكليف به، فهو طلبٌ للتحصيل لا طلبٌ للحصول، وبينهما فرقٌ واضح".

ما الفرق بين التحصيل والحصول؟

طالب:.......

التحصيل، "طلبٌ للتحصيل لا طلبٌ للحصول" يعني التكليف بالإيمان بالمتشابه مثلاً، هو يُطلب تحصيل الإيمان، لكن لا يُطلب حصول نتيجته؛ لأنه لا يمكن الوصول إليها.

"وهكذا القول في جميع الأسئلة، فإن السيد إذا أمر عبده به فقد طلب منه أن يحصِّل ما أمر به".

ولو لم يُرِد ذلك أصالةً أراده تبعًا؛ لرد ما وجِّه إليه من انتقاد، هو ما يطلب....ممكن يقول: أحضر كذا وهو عنده موجود ولا يحتاجه؛ من أجل أن يُبين لغيره أن عبده يُطيعه أو ولده يُطيعه من أجل الإجابة على هذه التُّهمة، وإن كان المأمور به غير مراد، فهو يقصد إيجاده لا لذاته، فالقصد موجود.

"فإن السيد إذا أمر عبده به فقد طلب منه أن يحصِّل ما أمر به، ولم يطلب حصول ما أمره به، وفرقٌ بين طلب التحصيل وطلب الحصول.

وأما أمر التعجيز والتهديد فليس في الحقيقة بأمر، وإن قيل: إنه أمرٌ بالمجاز، فعلى ما تقدم".

يعني صيغته صيغة الأمر، نعم جاء على وزن فعل الأمر اصنعوا ما شئتم {كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا} [الإسراء:50] {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت:40] آمنوا أو لا تؤمنوا، كل هذه أوامر لفظها لفظ الأمر، وليس المراد منها تحصيل المأمور به؛ لأنه قد يكون المأمور به في هذه الأوامر منهيٌ عنه شرعًا، فليس المراد من هذه الأوامر إلا التعجيز أو التكوين أو التهديد أو ما أشبه ذلك.

وإن قيل: إنه أمرٌ بالمجاز، فعلى ما تقدم؛ إذ الأمر وإن كان مجازيًا فيستلزم قصدًا به يكون أمرًا، فيُتصور وجه المجاز، وإلا فلا يكون أمرًا دون قصدٍ إلى إيقاع المأمور به بوجه".

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه.