التعليق على الموافقات (1431) - 10

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طالب: السلام عليكم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: المسألة الثالثة: وهي أن المتشابه الواقع في الشريعة على ضربين: أحدهما حقيقي، والآخر إضافي".

القسم الأول من أقسام التشابه والمتشابه: التشابه الحقيقي الذي لا يمكن الوصول إلى حقيقته، وهو الذي لا يعلمه إلا الله -جل وعلا-، وليس بإمكان البشر أن يصلوا إلى حقيقته، وهو ما أُخفي على الناس كلهم، واستأثر الله بعلمه.

والثاني: "إضافي" نسبي، فيكون مشتبهًا ومتشابهًا بالنسبة لبعض الناس، ومحكمًا واضحًا بينًا لآخرين.

وهذا واضح في المسائل العلمية، منها ما يلتمس أمره على بعض المجتهدين فلا يصل فيه إلى قول محقق محرر راجح، وفي مثل هذه الحال يتوقف العالم عن القول فيه حتى يرتفع هذا الاشتباه النسبي، بينما يكون القول في هذه المسألة المشتبهة المتشابهة عند هذا العالم تكون محكمة واضحة عند آخر؛ لأنه فهم المقصود منها، واطلع على ما يجلي الحقيقة فيها وما يجعله يميل ويرجح قولاً يعتمده ويجزم به، بحيث يكون لا خفاء فيه ولا لبس بالنسبة له. هذا تشابه نسبي، ولذا تجدون كثيرًا من أهل العلم يتوقفون في بعض المسائل، لا يترجح لهم أحد الجانبين أو أحد الطرفين فيفتي به، فيتوقف، وذلك فيما إذا استوت عنده الأدلة، إذا تساوت عنده الأدلة يكون متشابهًا بالنسبة له؛ لأنه لا يصل إلى حقيقة ما يوافق ما عند الله -جل وعلا-، وقد يترجح عند غيره، وقد يترجح له ما يشتبه على غيره... وهكذا، هذا هو المتشابه النسبي.

طالب: "وهذا فيما يختص بها نفسِها، وثَم ضرب آخر راجع إلى المناط الذي تتنزل عليه الأحكام. فالأول هو المراد بالآية".

هذا "هو المراد"، "الأول هو المراد بالآية" الحقيقي إذا قلنا: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] والوقف لازم، {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] استئناف.

طالب: "ومعناه راجع إلى أنه لم يُجعل لنا سبيل إلى فهم معناه، ولا نُصب لنا دليل على المراد منه".

وهذا في حقيقة الأمر قليل جدًّا؛ لأن القرآن واضح وبين ومبين، والله -جل وعلا- أنزله على رسوله ليبين للناس ويوضح لهم، وأمر الله المسلمين أن يدبروا آياته، ولو كان التشابه فيه كثيرًا لأشكل عليهم هذه الأوامر بالتدبر والنظر في معانيه والاستنباط منه.

طالب: "فإذا نظر المجتهد في أصول الشريعة وتقصاها وجمع أطرافها؛ لم يجد فيها ما يحكم له معناه، ولا ما يدل على مقصوده ومغزاه، ولا شك في أنه قليل لا كثير، وعلى ذلك دلت الأدلة السابقة في أول المسألة، ولا يكون إلا فيما لا يتعلق به تكليف سوى مجرد الإيمان به، وهذا مذكور في فصل البيان والإجمال".

نعم. هناك أمور وأشياء لا يمكن للبشر أن يطلعوا على شيء مما يتعلق بها، وهو مثل ما حُجب عنا من الأمور الغيبية، ومثل ما لا نفع لنا بمعرفة ما يتعلق به، ولو كان فيه نفع أو يتعلق به تكليف لجاء بيانه في الكتاب أو على لسان النبي -عليه الصلاة والسلام-.

طالب: "وفي نحو من هذا نزلت آية آل عمران: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7]، حين قدم وفد نجران على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. قال ابن إسحاق بعدما ذكر منهم جملةً، ووصف من شأنهم، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف من أمرهم، يريد في شأن عيسى: يقولون: هو الله؛ لأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير".

"يحيي الموتى"، هذه من خصائص الرب -جل وعلا-، وكذلك إبراء وشفاء السقام، والإخبار بالمغيبات هذه من الأمور التي لا يعلمها ولا يقدر عليها إلا الله -جل وعلا-، أو من أقدره الله عليها، فلا يعلم الغيب أحد من أهل السماء ولا من أهل الأرض إلا الله -جل وعلا-، لكن من أطلعه الله على شيء من المغيبات عرفها، وكذلك من أقدره الله على إحياء الموتى وإبراء السقام كما حصل لعيسى -عليه السلام-، فهو لا يملك هذه الأمور ابتداءً من تلقاء نفسه ليكون إلهًا قادرًا مدبرًا، لا، إنما هو بجعل الله -جل وعلا- القدرة فيه، فالكل من الله -جل وعلا-، فعيسى -عليه السلام- مخلوق من مخلوقات الله، خلقه الله -جل وعلا- كما خلق غيره، وإن كان يختلف عن غيره من كونه من أُم بلا أب، ومع ذلك أقدره على أمور لا يقدر عليها غيره من البشر؛ مما جعل ذلك مثار فتنة لأتباعه، قالوا: ما فيه أحد يستطيع أن يحيي الموتى إلا الله- جل وعلا-؛ إذًا عيسى هو الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة. المقصود أن له شركة في الخلق والتدبير. هذه فتنة.

 وقد يوجد من البشر ما يفتتن به الناس، تجد الله -جل وعلا- يودع فيه من الأمور التي يختص بها، فيفتتن به أتباعه وغيره من رعاع الناس الذين لا ينظرون إلى حقائق الأمور، فهؤلاء مثار فتنة. وتجدون من صُرف له بعض حقوق الرب -جل وعلا- مما لا يجوز صرفه إلا له، صرفوها لبعض البشر على حد زعمهم أنهم حصلوا لهم خوارق لا يقتدر عليها غيرهم من البشر، فكأنهم جعلوها من تلقاء أنفسهم لا من الله -جل وعلا-، فصرفوا لهم هذه العبادات.

طالب: "ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرًا، ويقولون: هو ولد الله؛ لأنه لم يكن له أب يُعلم، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه ولد آدم قبله، ويقولون: هو ثالث ثلاثة؛ لقول الله: فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا، ولو كان واحدًا لما قال إلا: فعلتُ وقضيتُ وأمرتُ وخلقتُ، ولكنه هو وعيسى ومريم!".

لكن من عرف لغة العرب، من عرف لغة العرب جزم يقينًا أن الواحد يتحدث عن نفسه بضمير الجمع إذا أراد التأكيد، إما أن يريد تعظيم نفسه وإما أن يريد تأكيد الفعل. البخاري في صحيحه يقول: والعرب تؤكد فعل الواحد بضمير الجمع؛ ذكر ذلك في تفسير {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [يوسف: 2] من صحيحه.

طالب: "قال: ففي كل ذلك من أمرهم قد نزل القرآن، يعني صدر سورة آل عمران إلى قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64]. ففي الحكاية مما نحن فيه أنهم ما قدروا الله حق قدره؛ إذ قاسوه بالعبيد، فنسبوا له الصاحبة والولد، وأثبتوا للمخلوق ما لا يصلح إلا للخالق، ونفوا عن الخالق القدرة على خلق إنسان من غير أب، وكان الواجب عليهم الإيمان بآيات الله وتنزيهه عما لا يليق به فلم يفعلوا، بل حكموا على الأمور الإلهية بمقتضى آرائهم، فزاغوا عن الصراط المستقيم.

 والثاني: وهو الإضافي ليس بداخل في صريح الآية، وإن كان في المعنى داخلاً فيه؛ لأنه لم يصر متشابهًا من حيث وُضع في الشريعة من جهة أنه قد حصل بيانه في نفس الأمر، ولكن الناظر قصر في الاجتهاد".

نعم. أسباب التشابه الإضافي إما قصور عن فهم المراد، أو تقصير من المجتهد في البحث عن المراد. إما قصور عن فهم المراد؛ لأن تركيبه لا يصل إلى هذا النوع الغامض الذي يحتاج إلى فهم دقيق. أو تقصير؛ لأنه قد يكون مؤهلًا للفهم، لكنه قصر في الفهم؛ لأنه لم يستقص ما يتعلق وما يحتف بهذه المسألة.

طالب: "أو زاغ عن طريق البيان اتباعًا للهوى، فلا يصح أن ينسب الاشتباه إلى الأدلة، وإنما ينسب إلى الناظرين التقصير أو الجهل بمواقع الأدلة، فيطلق عليهم أنهم متبعون للمتشابه؛ لأنه إذا كانوا على ذلك مع حصول البيان، فما ظنك بهم مع عدمه؟ فلهذا قيل: إنهم داخلون بالمعنى في حكم الآية. ومن أمثلة هذا القسم ما تقدم آنفًا للمعتزلة والخوارج وغيرهم، ومثله ما خرَّجه مسلم عن سفيان قال: سمعت رجلاً يسأل جابر بن يزيد الجعفي عن قوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف: 80]".

"جابر بن يزيد" كذبه أهل العلم، وهو رافضي خبيث يؤمن بالرجعة، ويفسر آية يوسف على ما عنده من اعتقاد من رجعة علي -رضي الله عنه- وأنه لم يمت، وأنه في السحاب يصرف الكون، نسأل الله العافية.

طالب: " {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: 80]، فقال جابر: لم يجئ تأويل هذه الآية. قال سفيان: وكَذَبَ. قال الحميدي: فقلنا لسفيان: ما أراد بهذا؟ فقال: إن الرافضة تقول: إن عليًّا في السحاب، فلا يخرج -يعني: مع من خرج من ولده- حتى ينادي منادٍ من السماء -يريد عليًّا أنه ينادي-: اخرجوا مع فلان! يقول جابر: فذا تأويل هذه الآية، وكَذَبَ، كانت في إخوة يوسف. فهذه الآية أمرها واضح، ومعناها ظاهر يدل عليه ما قبل الآية وما بعدها، كما دل الخاص على معنى العام، ودل المقيد على معنى المطلق".

لأنه فرد من أفراده أو وصف من أوصافه.

طالب: "فلما قطع جابر الآية عما قبلها وما بعدها، كما قطع غيره الخاص عن العام والمقيد عن المطلق؛ صار الموضع بالنسبة إليه من المتشابه".

وهذه طريقة أهل الأهواء، أهل الأهواء يبترون النصوص، ويقتصرون منها على ما يؤيد أقوالهم وبدعهم، ولو رُبط هذا النص الذي يستدلون به بما قبله وما بعده وما يوضحه من نصوص أخرى والنظر في نظيره ومقابله، كما فعل أهل السنة الذي هُدوا... هداهم الله إلى النظر في نصوص الكتاب والسنة متكاملة، وحينما نظر الخوارج إلى نصوص الوعيد فقط، ونظر المرجئة إلى نصوص الوعد فقط؛ هدى الله أهل السنة فجمعوا بين الأمرين ووفقوا بينهما، وخرجوا بالقول الوسط.

طالب: "فكان من حقه التوقف، لكنه اتبع فيه هواه فزاغ عن معنى الآية. وأما الثالث: فالتشابه فيه ليس بعائد على الأدلة، وإنما هو عائد على مناط الأدلة، فالنهي عن أكل الميتة واضح".

محكم وواضح وحرام بيِّن أكل الميتة، لكن متى يوجد الاشتباه؟ متى يكون من المتشابه؟ إذا اشتبهت هذه الميتة بمذكاة، المذكاة حلال بين، والميتة حرام، بينهما أمور مشتبهات، كيف يحصل التشابه؟ إذا وجدت ذبيحتان: واحدة ميتة، والثانية مذكاة، كلاهما لحم قُطع ووضع في إناء، أنت ما تفرق بينهما، يفرق أحد بينهما؟

طالب: لا.

وتجزم بأن إحداهما ميتة والأخرى مذكاة. أو اشتبهت أخته بأجنبية، هنا يحصل التشابه: أخته حرام بالإجماع، والأجنبية تحل له بالشروط المعروفة، والميتة حرام بالإجماع، والمذكاة حلال بالإجماع، لكن يحصل الاشتباه عند عدم التمييز بينهما. فلا يرجع الاشتباه لا إلى أصل المسألة ولا إلى دليل المسألة، وإنما يرجع الاشتباه إلى مناط المسألة.

طالب: "فالنهي عن أكل الميتة واضح، والإذن في أكل الذكية كذلك، فإذا اختلطت الميتة بالذكية؛ حصل الاشتباه في المأكول لا في الدليل على تحليله أو تحريمه، لكن جاء الدليل المقتضي لحكمه في اشتباهه، وهو الاتقاء حتى يتبين الأمر، وهو أيضًا واضح لا تشابه فيه، وهكذا سائر ما دخل في هذا النوع، مما يكون محل الاشتباه فيه المناط لا نفس الدليل؛ فلا مدخل له في المسألة.

 فصل: فإذا ثبت هذا، فلنرجع إلى الجواب عن باقي السؤال، فنقول: قد ظهر مما تقدم أن التشابه باعتبار وقوع الأدلة مع ما يعارضها كالعام والخاص وما ذُكر معه قليل، وأن ما عُد منه غير معدود منه".

نعم؛ لأن بعض العلماء يعد بعض المسائل من المتشابه، وهي في الحقيقة ليست منها؛ لأنه وإن صارت عنده من المتشابه لقصوره أو تقصيره في وقت، فقد تكون من المحكم عنده في وقت آخر، وقد تكون في نفس الوقت متشابهًا عند غيره ومحكمًا عنده، والعكس. فمثل هذا لا يعد في المتشابه؛ لأن هذا أمر إضافي يزول مع الوقت ومع مزيد البحث، وكم من إنسان في وقت الطلب يتشابه عليه كثير من المسائل والقضايا؛ لأنه ما نضج إلى الآن، وما تم التصور عنده، ثم بعد ذلك مع الوقت يندرس وتنقص هذه المسائل المتشابهة عنده إلى أن تصل إلى حد يسير جدًّا.

طالب: يعني هو عندما ينفي التشابه في كل هذا ينفي التشابه المطلق يا شيخ ليس النسبي؟

التشابه الحقيقي موجود.

طالب: لا، الإضافي؟

الإضافي موجود أيضًا، لكنه تشابه إضافي بالنسبة لبعض الأشخاص، وبالنسبة لبعض الأوقات.

طالب: "وإنما يُعد منه التشابه الحقيقي خاصةً. وأما مسائل الخلاف وإن كثرت فليست من المتشابهات بإطلاق".

نعم. كم نسبة المسائل المختلف فيها في الشريعة؟ نسبة كبيرة جدًّا، فهل هذا الخلاف يعد من التشابه؟ هو كل من يميل إلى قول فهو محكم عنده على هذا الميل، ويبقى أن ما عداه أيضًا محكم ومرجوح، لكن من يستوي عنده الطرفان ويتوقف على الترجيح فهذا هو المتشابه، والمسائل التي يُتوقف فيها من قبل أهل العلم قليلة جدًّا.

طالب: "بل فيها ما هو منها وهو نادر، كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبه المحجوب أمره عن العباد: كمسائل الاستواء، والنزول، والضحك، واليد، والقدم، والوجه، وأشباه ذلك".

كأن المؤلف -عفا الله عنه- مع من يقول بأن آيات الصفات من المتشابه، لكن هذا القول ليس بصحيح، يُذكر عن مالك -رحمه الله- ولم يثبت عنه، هذا القول ليس بصحيح؛ لأن السلف تكلموا في معناه، فالاستواء معلوم، لكن الكيفية هي المجهولة، الكيف هو المجهول، ولا يمكن لأن يوصل إلى حقيقته؛ لأن الله -جل وعلا- أخفى عنا هذه الحقيقة، ولا يمكن أن نصل إلى الحقيقة إلا من قبل الله -جل وعلا- ومن قبل رسوله، ولم يحصل، فمعناه معلوم. وهذا قول السلف يختلف عن قول أهل التفويض الذين يرون أن الصفات بجملتها من المتشابه، ولا يمكن أن يُتعرض لتأويلها، وتُمر كما جاءت في معانيها وفي حقائقها، حتى المعنى لا يُتعرض له؛ بل يرون أنها لا معاني لها، تعبدنا الله -جل وعلا- بالإيمان بها من غير معنى. فالاستواء ما فسره السلف؟ ما أضيف إليه النزول، معروف، لكن حقيقته وكيفيته مجهولة. النزول من أعلى إلى أسفل معروف في لغة العرب، لكن يبقى أنه كيف ينزل؟ الله أعلم، نقف عند هذا الحد. فعند المفوضة، لأن بعض الناس وقد كُتب في الموضوع ورُوج على بعض أنصاف المتعلمين أن التفويض هو مذهب السلف؛ لأنهم يقولون: أَمِرُّوها كما جاءت، لا نتعرض لتأويلها. نعم، لم يتعرضوا لبيان كُنهها ولا حقائقها، إنما تعرضوا للمعاني من خلال كتب اللغة والغريب، وأما بالنسبة إلى الحقائق فهي مجهولة عندهم، ولا يمكن الوصول إليها؛ لأنها حُجبت عنهم. يعني فرق بين من يسمع عن رجل اسمه زيد في الهند أو في المغرب، في الشرق أو في الغرب، في الجملة زيد مثل الناس له عينان، وله أذنان، وله رأس، وله يدان، وله ما لم يرد وصف بخلاف هذا، لكن كنه هذه الأوصاف طيب عيونه ماذا؟ كبرى أو صغرى؟

أنت في الجملة تتصور هذا، زيد إذا قيل: له عينان، وله رأس، وله يدان، وله رِجلان، وله كذا، ويمشي على رجليه، تصورته أنه مثل الناس، معاني هذه الكلمات تعرفها، هل يمكن أن يلتبس عليك اليد بالرِّجل؟ يمكن؟

طالب: لا.

ما يمكن، لكن كون هذه الألفاظ يده كيف تكون بيضاء أم سوداء، قصيرة أم طويلة؟ ما تدري؟ لكن المفوضة ماذا يقولون؟ يقولون: زيد هذا الذي ما نعرفه في المغرب لا يمكن أن نتأول شيئًا من أوصافه، ما نعرف اليد، وماذا هي؟ هل هي يد أم رجل، يعني ولفظ زيد عندهم كلفظ ديز عكس زيد ما له معنى، هذا كلام معقول؟

طالب: لا.

هذا رأي المفوضة، يقولون: هذه الألفاظ الضحك والبكاء ما ندري ما هي، النزول والاستواء ما ندري ما النزول والاستواء، نقف عند هذا الحد ولا نعرف أنه مثل، ما نتصور النزول أصلاً؛ لأن السلف قالوا: أمروها كما جاءت، يعني نقف عند اللفظ فقط من غير معنى. السلف يقفون عند اللفظ ويعرفون المعنى من خلال ما عندهم في لغة العرب، لكن تطبيق هذا المعنى المناسب للمخلوق يتنزه الله -جل وعلا- عنه؛ لأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، لكن نميز من خلال لغة العرب بين اليد والرِّجل، والمفوضة يقولون: ما ندري هل فيه فرق بين اليد والرجل؟ فرق بين الاستواء والنزول، ما ندري عنه شيء، نقف إلى هذا الحد، فيكون الله- جل وعلا- تعبدنا بألفاظ طلاسم ما ندري ما معناها. أُثر عن أم سلمة وعن عائشة وغيرهما: الاستواء معلوم، هل يتمشى هذا مع قول المفوضة؟ ما يتمشى.

لكن الكيف مجهول؛ لأنه ليس لنا أن نسترسل لتقصي أمور حُجبت عنا، لو أن الإنسان أخذ يبحث عشرات السنين ليعلم ما وراء هذا الجدار، يمكن؟ ما يمكن، لا يمكن أن يصل إلى معرفة ما وراء هذا الجدار، إلا أن يرتكب وسائل أخرى مثلاً يخرج وينظر هذا شيء آخر. لكن ما حُجب عنك لا يمكن وصولك إلى حقيقته، والله -جل وعلا- لا تدركه الأفهام ولا تبلغه الأوهام -جل وعلا-، فنقف على ما وقفنا عليه، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع. لكن عد آيات الصفات من المتشابه هذا على رأي من يرى أنه لا يُتعرض لمعانيها، ولا ما تؤول إليه من كُننها.

طالب: ........

أين؟

طالب: ........

توقفوا على ماذا؟

طالب: ........

لا، الواقفون في الجملة الذين يقفون يُطلقون على الذين يقفون في القرآن، يقولون: لا نقول مخلوق ولا غير مخلوق.

طالب: ........

لا ما يلزم، المعنى معلوم، يعني ما تعرف السلف ما عرفوا الاستواء؟ {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، علا صعد استقر، فسروا هذا.

طالب: ........

لا لا، ما يلزم، هذا نتيجة التشبيه، هذه مرحلة بعد التشبيه، أنك تصورت الخالق مثل المخلوق، امسح هذا التصور.

يبقى أن هناك بعض النصوص التي قد يرد فيها إشكال عند بعض طلاب العلم. أبو هريرة- رضي الله عنه- لما قرأ: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 134]، وضع إصبعًا على عينه وإصبعًا على أذنه، هل نقول: إن هذا تشبيه؟ أو نقول: إن هذا من باب المبالغة في إثبات ما أثبته الله -جل وعلا-، كما أن هذه العين ثابتة للمخلوق، العين التي جاءت في النصوص ثابتة للخالق. وهل من هذا ما نُسب إلى شيخ الإسلام؟ نسب ابن بطوطة في رحلته لشيخ الإسلام أنه لما دخل جامع دمشق وجد شخصًا كثير العلم قليل العقل على منبر المسجد يقرأ حديث النزول وينزل من درج المنبر ويقول: إن الله ينزل كنزولي هذا. هل نقول: إن هذا مثل وضع الإصبع على العين والبصر؟ لا، نحن نقف على موقفنا. أما مثل هذا فلا يجوز بحال، وهذه فرية على شيخ الإسلام، شيخ الإسلام لما دخل ابن بطوطة دمشق كان في السجن، فهو مفترٍ عليه.

طالب: "وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها".

"وترك الخوض في معانيها"، أثبتوا معانيها، أثبتوا لها معاني وفسروها، وأثبتوا لأسمائه -جل وعلا- معانيها وفسروها، لكن ما وراء ذلك يقفون عنده.

طالب: "دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن؛ لأن الكلام فيما لا يحاط به جهل، ولا تكليف يتعلق بمعناها، وما سواها من مسائل الخلاف ليس من أجل تشابه أدلتها؛ فإن البرهان قد دل على خلاف ذلك، بل من جهة نظر المجتهد في مخارجها ومناطاتها، والمجتهد لا تجب إصابته لِما في نفس الأمر".

عليه أن يسلك الوسائل الشرعية لإثبات الحكم، يسلك المسالك الشرعية والمقدمات الشرعية؛ لتخرج له النتيجة شرعية، ولو لم توافق ما في نفس الأمر، كما هو شأن القاضي: «إنما أنا بشر أقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من نار فليأخذها أو ليدعها»، مقدمات، قاضٍ، هات البينة، البينة على المدعي، هات البينة. طيب، ما عندي بينة؟ يحلف المدعى عليه، وقد يكون المدعي صادقًا، لكن ما عنده بينة، صادق والحق له، فيُحكم بالحق للمدعى عليه، وهذا الحكم صحيح سليم، ويؤجر عليه القاضي ولو لم يوافق ما في نفس الأمر؛ لأن القاضي يحكم على نحو ما يسمع، على المقدمات الشرعية، ونتيجته صحيحة. جاء شهود عدول ثقات يشهدون عند الحاكم أنهم رأوا الهلال، سواء كان هلال رمضان أو هلال شوال، فصام الناس وأفطروا على ضوء هذه الشهادة، صيامهم صحيح، مهما قيل ولو قال جميع الفلكيين إن الهلال ما خُلق، ما لنا دخل، بغير المقدمات الشرعية لا ننظر، ونتائجنا شرعية.

لكن الإشكال حينما تكون المقدمات غير شرعية، فكيف ننتظر نتائج شرعية؟ ما يمكن. كيف ننتظر نتائج شرعية من مقدمات غير شرعية؟ وهذا مع اضطراب الأحوال في هذه الظروف التي نعيشها، يعني حينما يكون الأمر مختلطًا على الناس، مرة يُحكمون بالحق، ومرة يُحكمون بباطل، ومرة يُحكمون بشريعة، ومرة يُحكمون بقانون، ومرة بكذا، ثم تطلب نتائج شرعية، ما تجيء. أو شخص يرتكب مخالفات، ثم بعد ذلك يريد أن يكون تصرفاته صحيحة، ما هو بمعقول. يعني يأتي شخص ممن ينقل مدرسات مثلاً إلى خارج الرياض مسافة قصر بدون محارم، ويأتي ويدور في الأحياء من منتصف الليل يجمع هذه المدرسات ليصل إلى محل التدريس قبل الدوام، ثم يأتي يسأل يقول: أنا لا أستطيع أن أقف في الطريق لأصلي صلاة الفجر خوفًا عليهن؟

 نقول: يا أخي، أصل المسألة أصل مقدمك غير شرعية، كيف تطلب نتيجة شرعية؟ كيف تسافر بنساء من غير محارم؟ لو كان معك محارم ما خفت هذا الخوف. فإذا كانت المقدمات شرعية لا يُتوقع أن تكون النتائج شرعية، وإذا كانت المقدمات شرعية فالنتائج شرعية ولو لم تطابق الواقع.

شهد ثلاثة على شخص أنهم رأوه يزني بهذه المرأة، رأوه بلا مرية ولا شك ولا ريب، وكلامهم مطابق للواقع مائة بالمائة، ولم يحضروا رابعًا، هم صادقون أم كاذبون؟

طالب: عند الله كاذبون.

كاذبون؛ لأن هذه نتيجة شرعية والمقدمة شرعية.

طالب: .......

ماذا يقول؟

طالب: .......

أولاً الحكم عند الله -جل وعلا- واحد، والمصيب من المجتهدين واحد، ومن عداه مخطئ. لكن لكل من المصيب والمخطئ نصيبه من الأجر، هذا له أجران، وهذا له أجر واحد، والحق واحد لا يتعدد، فمن أصابه له أجران، ومن أخطأه له أجر واحد. لكن لا يقال: إن حكمك غير شرعي، هذا المخطئ الذي لم نتوصل إلى خطئه لمخالفته نص، هذا ما يمكن أن نقول له: أخطأت؛ لأن الاجتهاد لا يُنقض باجتهاد.

طالب: ........

ما يلزم.

طالب: ........

لا لا: «إنما أنا بشر أقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء....»، الرسول المؤيد بالوحي يقول هذا الكلام، فكيف بغيره؟

طالب: .......

نعم؟

طالب: .......

لا لا ما هو بمستقيم.

طالب: "بل عليه الاجتهاد بمقدار وسعه، والأنظار تختلف باختلاف القرائح والتبحر في علم الشريعة، فلكلٍّ مأخذ يجري عليه وطريق يسلكه بحسبه لا بحسب ما في نفس الأمر".

ولذلك اختلفت الأصول، وُجد اختلاف في الأصول والقواعد التي ينطلق منها أهل الاجتهاد، فتجد الفروع عند هؤلاء الأئمة منتظمة تحت الأصول التي أصَّلوها والقواعد التي قعَّدوها، لكن فيها نوع اختلاف مع الأئمة الآخرين. لكن هذا اجتهاد هذا الإمام، وهو من أهل الاجتهاد، وهو مأجور عليه، لكن عليه أن يرجع إلى ما يوافق الدليل الشرعي مهما خالف ما عنده من قواعد.

طالب: "فخرج المنصوص من الأدلة عن أن يكون متشابهًا بهذا الاعتبار، وإنما قصاراه أن يصير إلى التشابه الإضافي وهو الثاني، أو إلى التشابه الثالث. ويدل على ذلك أنك تأخذ كل عالِم في نفسه وما حصل له من علم الشريعة، فلا تجد عنده من الأدلة المتشابهة والنصوص المجملة إلا النادر القليل؛ لأنه أخذ الشريعة مأخذًا اطردت له فيه واستمرت أدلتها على استقامة، ولو كان وقوع الخلاف في المسائل يستلزم...".

ولذلك لما وضعوا هذه الأصول وهذه القواعد والضوابط انتظمت أمورهم، والخلل الواقع في هذه الفروع إنما هو لوجود خلل في الأصول، يعني حينما يُقدَّم القياس الجلي على خبر الواحد ويطرد هذا عند من يقول به، أو يقدم عمل أهل المدينة، أو يقدم في الأصول المختلف فيها، يعني يطردون في تطبيقها على فروعهم. والخلل في فرع من هذه الفروع لا يرجع لذاته، وإنما يرجع للخلل في أصله.

طالب: "ولو كان وقوع الخلاف في المسائل يستلزم تشابه أدلتها لتشابهت على أكثر الناس، ولم يتخلص منها بالبيان إلا القليل، والأمر على ضد ذلك، وما من مجتهد إلا وهو مقر بوضوح أدلة الشرع وإن وقع الخلاف في مسائلها، ومعترف بأن قوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] على ظاهره من غير شك فيه؛ فيُستقرأ من هذا إجماع على أن المتشابه في الشريعة قليل وإن اعترفوا بكثرة الخلاف".

نعم. لا يعني كثرة الخلاف -وكثير جدًّا، أكثر المسائل مختلف فيها-، لا يعني هذا كثرة المتشابه؛ لأن هذا الخلاف وهذا الاختلاف ليس بالنسبة لشخص واحد، فالقول الراجح عند فلان محكم بالنسبة له ليس بمتشابه، وإن خالفه فيما يقابله المجتهد الثاني ورجح غيره فهو محكم عنده غير متشابه. لكن حينما يحصل الاضطراب من شخص واحد في مسألة واحدة، بعد النظر في أدلتها واستفراغ الوسع والجهد، تكون متشابهة عنده، يحصل التشابه. والتشابه في الاختلاف الكثير هذا يحصل حينما ينظر المتأخر في كلام المتقدمين ولا يستطيع الترجيح بينها، يكون متشابهًا بالنسبة له لا بالنسبة للأئمة.

طالب: ........

أو ثلاث أو أربع روايات، هي مسألة وقت، في الوقت الذي قال فيه بالرواية الأولى هي المحكمة، وفي الوقت الثاني الذي رجع فيه أو كان له قول آخر من غير رجوع؛ لأن المسألة تحتمل، لا يلزم منه التشابه. الذي يلزم منه التشابه حينما يتوقف، إذا توقف تكون المسألة متشابهة عنده.

طالب: "وأيضًا فإن كل خلاف واقع لا يستمر أن يعد في الخلاف، أما أولاً فلما تقدم من أن الفرق الخارجة عن السنة حين لم تجمع بين أطراف الأدلة تشابهت عليها المآخذ فضلت، وما ضلت إلا وهي غير معتبرة القول فيما ضلت فيه؛ فخلافها لا يعد خلافًا".

نعم. لماذا ضلت الفرق؟ لأنهم لم ينظروا إلى النصوص مجتمعة، كأنهم نظروا إلى النصوص بعين واحدة، وكل ينظر إلى النص بما يوافق هواه؛ لأنهم أهل أهواء، فتجد من جُبل على الشدة مثلاً ينظر إلى نصوص الوعيد، ولا ينظر إلى نصوص الوعد، ومن جُبل على خلاف ذلك تجده بالعكس، فإذا نظر إلى نصوص الوعيد فقط اتصف برأي الخوارج، وإذا نظر إلى نصوص الوعد؛ نظرًا لما تمليه عليه نفسه وشيطانه وهواه من الاسترخاء وعدم حمل الأمانة بعزم، تجده ينظر إلى نصوص الوعد، ويسترخي ويترك الأعمال، وذاك يشط ويتطرف ويشدد على نفسه وعلى غيره، فتجدهما على طرفي نقيض، فيأتي من وفقه الله -جل وعلا- فينظر إلى هذه النصوص، وينزلها على أحوال وهذه النصوص، وينزلها على أحوال ويجمع ويوفق بينهما، فيخرج بالقول الوسط.

ونصوص الشرع جاءت لعلاج الأدواء أدواء المجتمعات وأدواء الأفراد، فأنت حينما تخاطب شخصًا تجد عنده شيئًا من التراخي، إنما ترده إلى التوسط بنصوص الوعيد، وإذا وجدت شخصًا يميل إلى شيء من الشدة والغلظة والتشديد على نفسه وعلى الناس ترده إلى حظيرة الوسطية بنصوص الوعد، وهكذا.

طالب: "فخلافها لا يعد خلافًا، وهكذا ما جرى مجراها في الخروج عن الجادة، وإلى ذلك فإن من الخلاف ما هو راجع في المعنى إلى الوفاق، وهذا مذكور في كتاب الاجتهاد، فيسقط بسببه كثير مما يعد في الخلاف، وإذا روجع ما هنالك تبين منه هذا المقصد. ووجه آخر: وهو أن كثيرًا مما ليس بمحتاج إليه في علم الشريعة قد أدخل فيها وصار من مسائلها، ولو فرض رفعه من الوجود رأسًا؛ لما اختل مما يحتاج إليه في الشريعة شيء بدليل ما كان عليه السلف الصالح في فهمها، دع العرب المحفوظة اللسان كالصحابة ومن يليهم من غيرهم".

يعني متى كثرت هذه الاختلافات لا سيما في مسائل الاعتقاد؟ حينما أُدخل في الشريعة ما ليس منها، أُدخل في الشريعة وفي علوم الشرع ما ليس منها، من علوم وافدة مترجمة جيء بها من الأمم الأخرى، وأدخلها من أدخلها -على حد زعمه- ليضبط علوم الشريعة، فتجد مثلاً في علم الكلام الشيء الغث الكثير مما لا علاقة له بنصوص الكتاب والسنة، وجعلوها مقدمات ورتبوا عليها نتائج قدموها على ما جاء في الكتاب والسنة، هذه كوارث بالنسبة للتعامل مع نصوص الكتاب والسنة، واجترفت فئامًا كثيرة من البشر، وأشرب حبها قلوبهم؛ حيث كان هو المعتمد في كثير من الأقطار، ونتائجها هي المعتبرة لديهم، حتى عمت وطمت المذاهب المبتدعة من جهمية ومعتزلة وخوارج ومرجئة وغيرهم، لماذا؟ لأنهم أدخلوا في الشريعة ما ليس منها، واعتمدوها وعولوا عليها. ثم سرى هذا العلم إلى علم الأصول، فحصل فيه ما حصل. ثم أُدخل شيء من علم الأصول المتلوث بهذه العلوم الدخيلة إلى قواعد الحديث، فتجد بعض القواعد المنطقية تُقرر في علم الأصول، وما يتعلق بالسنة منها أيضًا أدخلوه في علوم الحديث؛ ولذا ينادي بعض الغيورين على تنقية كتب الأصول وكتب علوم الحديث من هذه الأمور الدخيلة. لكن الأمر وقد وُجد، وجرى عليها الناس من قرون كثيرة جدًّا، وتعلموا عليها، وميزوا طيبها من خبيثها؛ فلا مانع من أن تُقرأ هذه الكتب وفيها ما فيها ويميَّز بين الأصيل من الدخيل؛ لأنها لما رُتبت وألفت على هذا النسق، لو جردناها اختل ترتيبها، لو جردناها من هذه الأمور الدخيلة اختل ترتيبها، ومتى تجد كتابًا يفي بالغرض كله في أصول الفقه ما فيه شيء من علم الكلام؟

 كلنا نعلم الرسالة للإمام الشافعي، لكن الرسالة للإمام الشافعي يمكن أن يتخرج عليها طالب علم عارف يعرف كيف يتعامل مع النصوص بكل ما تتطلبه آلة هذا التعامل؟ ما يمكن، بينما يمكن أن تتعلم على كتب أخرى مثل المستصفى وما تفرع منه، ومثل الكتب الأخرى عند الحنابلة والشافعية والحنفية والمالكية من كتب الأصول، وأنت بقدرتك وتوفيق الله -جل وعلا- وحرص أستاذك يعلمك أن هذا أصيل، وهذا تحتاج إليه، وهذا ما تحتاج إليه. ولذلك تجدون في كتب الأصول ستة مجلدات، سبعة مجلدات، عشرة مجلدات مثلاً، وأنت ما تحتاج إلى شيء تستطيع أن تعامل به مع النصوص. وقل مثل هذا في علم النحو: هل طلاب العلم كلهم بحاجة إلى أن يقرؤوا في علم النحو شرح المفصل لابن يعيش، كتاب مطول جدًّا، أو كتاب سيبويه وشروحه؟ لا، يحتاجون من علم النحو ما يقوم اللسان، ويصحح العبارة، ويعين على فهم الكلام، والمسألة أقل مما يتصور. وقل مثل هذا في العلوم الأخرى. لكن كيف تتعامل مع كتب الأصول؟ تقتصر على الرسالة ما تكفي، هات مؤلفًا ثانيًا. يفي بالغرض من جميع الجوانب نقي مائة بالمائة ما تجد، طيب في مشاريع لتنقية كتب الأصول من علم الكلام حصل فيها شيء من الخلل؛ لأنه اختل ترتيب هذه الكتب وبعضها مرتب على بعض، فإذا فُقد حلقة من حلقات هذا التسلسل وهذا الترتيب اختل، انهدم البناء.

يعني يطالب كثير من الغيورين إلى تنقية كتب السيرة من الأحاديث الضعيف ومن الأخبار الضعيفة، نقتصر على صحيح السيرة، أنت تقرأ في الكتب المصنفة المرتبة عند المتقدمين حوادث متسلسلة، يرد بينها للربط بينها خبر ضعيف، أنت تبني على هذا الخبر الضعيف حكمًا؟ ما تبني عليه حكمًا، لكن ينير لك شيئًا من تصور المسألة بكاملها، لكن لو حذفته كما حصل عند بعض من نادى بالاقتصار على صحيح السيرة، فيه حلقات مفقودة يكون التصور عندك غير كافٍ، فأنت لا تبني حكمًا على هذا الضعيف، إنما يعينك على فهم الصحيح، وما المانع؟ فالأمور تُدرس بعناية. وأيضًا الأمة سارت على قراءة سيرة ابن هشام، من اثني عشر قرنًا، والأمة تقرأها، ما نادى أحد قال: واللهِ هذا ضعيف، نعم تحقق الكتاب، وتبين أن هذا الخبر ضعيف وهذا الخبر... ما فيه إشكال، لكن إذا بعض الحلقات التي تعينك على فهم ما سبق وتربط به اللاحق إذا حذفته ما صارت المسألة متكاملة الصورة متكاملة.

طالب: "دع العرب المحفوظة اللسان كالصحابة ومن يليهم من غيرهم؛ بل من وُلد بعدما فسد اللسان فاحتاج إلى علم كلام العرب: كمالك والشافعي وأبي حنيفة، ومن قبلهم أو بعدهم من أمثالهم، فلما دخلت تلك الأمور وقع الخلاف بسببها، ولو لم تدخل فيها لم يقع ذلك الخلاف. ومن استقرأ مسائل الشريعة وجد منها في كلام المتأخرين عن تلك الطبقة كثيرًا، وقد مر في المقدمات تنبيه على هذا المعنى، وفي كتاب الاجتهاد معرفة ما يحتاج إليه المجتهد من العلوم المعينة له على اجتهاده، فإذا جمعت هذه الأطراف تبين منها أن المتشابه قليل، وأن المحكم هو الأمر العام الغالب".

يعني من جهل لغة العرب هل يمكن أن يقال: إن المتشابه بالنسبة له قليل؟ يكثر عليه المتشابه. من جهل الشروط أو لم يستوف الشروط التي اشترطها العلماء والأدوات التي افترضها أهل العلم في المجتهد، يكثر عنده المتشابه. يعني لو يخل بباب من أبواب الأصول مثلاً، ما يعرف ناسخ من منسوخ، هذا يستقيم له أمر؟

طالب: لا.

ما يعرف مطلق من مقيد يستقيم له أمر؟ كيف يتعامل مع النصوص؟ وما يعرف هذه الأصول؟ أو لا يعرف لغة العرب كيف يتعامل مع الكتاب الذي أُنزل بلسان عربي مبين، وفي كلام أفصح الخلق وهو لا يعرف لغة العرب؟ والله المستعان.

طالب: .......

نعم؟

طالب: .......

ما هي؟

طالب: .......

الشافعي حجة في اللغة.

طالب: .......

نعم، حجة متى؟ لأنه جلس في البادية وتعلم منهم.

طالب: "المسألة الرابعة: التشابه لا يقع في القواعد الكلية، وإنما يقع في الفروع الجزئية، والدليل على ذلك من وجهين؛ أحدهما: الاستقراء أن الأمر كذلك".

لماذا؟ لأنه لو وقع في القواعد الكلية لقلنا: إن التشابه كثير جدًّا.

طالب: في الفروع.

في الأحكام الشرعية؛ لأنه ما من قاعدة كلية إلا ويندرج تحتها مسائل كثيرة جدًّا، لا نقول: إن التشابه قليل؛ لأنه تشابه في قاعدة واحدة، لا، أنت لا تنظر إلى التشابه في هذه القاعدة؛ لأن القاعدة وراءها ما وراءها من الفروع، كلها سوف يقع فيها التشابه. يعني فرق بين أن تحكم على شخص يتبعه فئام من الناس أنه ضال؛ إذًا كل التبع ضلال، وبين أن تحكم على واحد من أتباعه بأنه ضال، في شيء معين؛ هذا لا يتناول بقية الأتباع، ولا يتناول الأصل. ففرق بين أن تحكم على الأصل، فيكون التشابه كثيرًا جدًّا، وهذا يهدم ما قرره سابقًا، وبين أن تحكم على فرع من هذه الفروع، فلا إشكال في ذلك.

طالب: "أحدهما: الاستقراء أن الأمر كذلك، والثاني: أن الأصول لو دخلها التشابه لكان أكثر الشريعة من المتشابه، وهذا باطل. وبيان ذلك أن الفرع مبني على أصله؛ يصح بصحته، ويفسد بفساده، ويتضح باتضاحه، ويخفى بخفائه.

 وبالجملة: فكل وصف في الأصل مثبت في الفرع؛ إذ كل فرع فيه ما في الأصل، وذلك يقتضي أن الفروع المبنية على الأصول المتشابهة متشابهة، ومعلوم أن الأصول منوط بعضها ببعض في التفريع عليها، فلو وقع في أصل من الأصول اشتباه؛ لزم سريانه في سائرها، فلا يكون المحكم أُم الكتاب، لكنه كذلك؛ فدل على أن المتشابه لا يكون في شيء من أمهات الكتاب".

يعني الإمام أحمد إمام أهل السنة، مقتضى ذلك أن يكون كل من يتبع الإمام أحمد على هذا المنهج. لكن لو وُصف الإمام أحمد وهم يتبعونه، سرت المخالفة على جميعهم. وجود من عنده مخالفة ممن ينتسب إلى الإمام أحمد.

طالب: لا يُنسب للأصل.

لا يؤثر في الإمام ولا في مذهبه ولا في بقية أتباعه، وهذا مثال يوضح ما يذكره المؤلف. يعني فرق بين أن تذكر الإمام، تصف الإمام إمام المذهب والمؤسس له بشيء، أو تصف بعض الأتباع بشيء.

طالب: .......

نعم.

طالب: .......

نعم.

طالب: .......

نعم، لكن لو افترضت أن إمامًا له أتباع كثر، وأتباعه ينسبون إليه، لما سبوا أصحابه هؤلاء الأصحاب لا شك أن منزلتهم من منزلة نبيهم -عليه الصلاة والسلام-، وأثرهم من تأثيره- عليه الصلاة والسلام- فيهم، لكن لما كان أثرهم سيئًا كلهم عند الرافضة.

طالب: ........

يعني لما يقال لك مثلاً: إن فلانًا يدرس ألف طالب، ورسبوا كلهم، هل ممكن أن تقول: المدرس ناجح؟

طالب: لا.

يمكن أن تقول: مدرس ناجح؟ ليس بناجح، فاشل، نعم. فإذا طعنوا في صحابته كلهم فماذا فعل هو؟ نعم لو كانوا في الأصل ما اتبعوه، هم على حد زعمهم أنهم اتبعوه وصدقوه ثم بعد ذلك ارتدوا بعده وغيروا. لكن لو في الأصل ما تبعه أحد، يلام أم ما يلام؟ ما يلام «يأتي النبي وليس معه أحد»، ولا يعد هذا فاشلاً.

يعني لو فرضنا أن مدرسًا يدرس قال الله وقال رسوله، ولا فيه إشكال، لكن لا يحضره إلا طلبة من فئة معينة، هل نقول: إن هذا المدرس بريء مما وُصفوا به؟ لا يحضره إلا هم، فئات أخرى ما يحضرونه. ما الذي جعلهم يتفقون على الحضور عليه إلا أن بينه وبينهم قاسمًا مشتركًا، لكن إذا كان يحضره هؤلاء وهؤلاء وجميع الطبقات وجميع الفئات فما يوصف بوصف معين، إنما يوصف بأنه قبول من الله -جل وعلا-.

طالب: "فإن قيل: فقد وقع في الأصول أيضًا؛ فإن أكثر الزائغين عن الحق إنما زاغوا في الأصول لا في الفروع، ولو كان زيغهم في الفروع لكان الأمر أسهل عليهم؟ فالجواب: أن المراد بالأصول القواعد الكلية، كانت في أصول الدين أو في أصول الفقه، أو في غير ذلك من معاني الشريعة الكلية لا الجزئية، وعند ذلك لا نسلم أن التشابه وقع فيها ألبتة، وإنما وقع في فروعها، فالآيات الموهمة للتشبيه والأحاديث التي جاءت مثلها فروع عن أصل التنزيه الذي هو قاعدة من قواعد العلم الإلهي، كما أن فواتح السور وتشابهها واقع ذلك...".

أولاً هذا الإيراد الذي أورده من اختلاف أهل الأهواء في الأصول لا يرد؛ لأن العبرة بالحق وبنوها على الحق. أما من خالف الحق فلا عبرة به، سواء فارق في أصل أو في فرع. ولذلك أهل العلم لا يعتدون بأقوالهم لا في مسائل الأصول ولا الفروع، يحكون الإجماع مع وجود خلافهم.

طالب: "بل الأمر كذلك أيضًا في التشابه الراجع إلى المناط، كما أن فواتح السور وتشابهها واقع ذلك في بعض فروع من علوم القرآن، بل الأمر كذلك أيضًا في التشابه الراجع إلى المناط؛ فإن الإشكال الحاصل في الذكية المختلطة بالميتة من بعض فروع أصل التحليل والتحريم في المناطات البينة، وهي الأكثر، فإذا اعتُبر هذا المعنى؛ لم يوجد التشابه في قاعدة كلية ولا في أصل عام، اللهم إلا أن يؤخذ التشابه على أنه الإضافي، فعند ذلك لا فرق بين الأصول والفروع في ذلك، ومن تلك الجهة حصل في العقائد الزيغ والضلال، وليس هو المقصود هاهنا، ولا هو مقصود صريح باللفظ وإن كان مقصودًا بالمعنى، والله أعلم؛ لأنه تعالى قال: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7]، فأثبت فيه متشابهًا، وما هو راجع لغلط الناظر لا يُنسب إلى الكتاب حقيقةً، وإن نسب إليه فبالمجاز".

يكفي يكفي، بارك الله فيك.

* * *

يقول: كان الصحابة في غنية عن علم النحو لاستقامة ألسنتهم، لكن بِم استغوا؟ وكذا من بعدهم من القرون ... مسائل علم الأصول؟

أيضًا مع كونهم على الأصل وعلى سليقتهم يعرفون العربية ابتداءً، فهم يعرفون الأصول ابتداءً، لا يحتاجون إلى أصول وقواعد وضوابط يتعاملون بواسطتها مع نصوص الكتاب والسنة، يعرفون المطلق والمقيد والناسخ والمتأخر والمتقدم، وعاصروا النبي -عليه الصلاة والسلام- وعايشوه وعاصروا التنزيل، ليسوا بحاجة إلى مثل هذه العلوم المستحدثة التي اقتضتها الحاجة لفهم النصوص.

"