التعليق على الموافقات (1432) - 13

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طالب: أحسن الله إليك.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

 فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "المسألة السادسة عشرة: قد تقدم أن الأوامر والنواهي في التأكيد ليست على رتبة واحدة في الطلب الفعلي أو التركي، وإنما ذلك بحسب تفاوت المصالح الناشئة عن امتثال الأوامر واجتناب النواهي، والمفاسد الناشئة عن مخالفة ذلك. وعلى ذلك التقدير يُتصور انقسام الاقتضاء إلى أربعة أقسام، وهي: الوجوب، والندب، والكراهة، والتحريم".

رأينا مع هذه القسمة الرباعية الأوامر ودلالتها على الوجوب أو الندب متفاوتة تفاوتًا كبيرًا، فالواجبات متفاوتة، والمندوبات متفاوتة، كما أن المكروهات متفاوتة، ليست على درجة واحدة، والمحرمات كذلك. ولا يمكن أن يقال: إن هذا الواجب إثم تركه كإثم من ترك الواجب الفلاني، أو هذا المحظور إثم فعله مساوٍ لفعل المحظور الفلاني. فهي متفاوتة تفاوتًا لا يمكن حصرها؛ إذ قد تكون بعدد هذه المأمورات وعدد هذه المنهيات، لكن هذه القسمة حاصرة نوعًا ما للأجناس، ومع ذلك هي متفاوتة، ولا يمكن أن يقال: إن كل أمر يرد في خطاب الشرع من كتاب أو سنة مساوٍ للأمر الثاني، بل قد يكون هذا أمرًا مع حتم الفعل فيكون واجبًا، وأمرًا من غير تحتم لفعله فيكون مندوبًا. هذا بالنظر إلى المأمورات، وقل مثل هذا في المنهيات. وإذا نظرنا إلى أن الآمر واحد، وهو الله -جل وعلا-، وأن النهي واحد، كما يقول بعضهم: انظر إلى قدر من عصيت، ولا تنظر إلى قدر المعصية.

 ولذا يرى بعض من ينحى منحى التعبد والزهد أنك لا تنظر إلى المعصية باعتبارها معصية، إنما انظر إلى الله -جل وعلا- الذي أمرك، فلم تأتمر سواء كان المأمور به واجبًا أو مستحبًّا، أو نهاك عن فِعل هذا فلم تنته سواء كان المنهي عنه محرمًا أو مكروهًا، ولا شك أن الأجور متفاوتة على قدر عِظم العمل، وأيضًا الأوزار متفاوتة، فليس تارك الصلاة مثل تارك الزكاة، وليس تارك الزكاة أو الصيام أو الحج وغيرها من الأركان مثل تارك واجبات أخرى، حتى إنه يتنازع فيما قرب من المستحب من الواجبات، وما قرب من الواجبات من المستحبات هل تلحق بهذا أو هذا؟

المقصود أننا نلحظ مثل هذا، وعلى حسب المصالح والمفاسد المرتبة على هذه الواجبات أو ترك هذه المحظورات. فلا شك أن النهي عن الزنا مثلاً أشد من النهي عن مثلاً الاستمناء الذي يسمونه العادة السرية، هذا فرق كبير، نعم، وإن كان كل منهما محرمًا، وكل منهما عدوانًا: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى} انظر يقول: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 5 - 7]، {ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} يتناول الزنا، ويتناول أيضًا الاستمناء، لكن هل الاستمناء والمفاسد المترتبة عليه مثل ما يترتب على الزنا؟

لا شك أن هذه أمور متفاوتة جدًّا، وبعضهم يُضرب عن هذا صفحًا، وينظر إلى قدر من عصيت، ويرى أن هذه الذنوب واحدة؛ لأن الله -جل وعلا- نهاك فلم تنته. لكن النصوص دلت على أن الله يعذب الزناة بعذاب نجزم بأنه لا يصل إليه من استمنى بيده؛ لأن من أهل العلم من قال بالكراهة فقط في هذه المسألة، ومنهم من أجازه، لكن المقصود أنه على أي حال حتى لو قلنا بتحريمه، وهو المرجح لا يمكن أن يصل إلى جريمة الزنا -نسأل الله العافية-، وقل مثل هذا في المعاصي كلها.

طالب: "وثَم اعتبار آخر لا ينقسم فيه ذلك الانقسام، بل يبقى الحكم تابعًا لمجرد الاقتضاء، وليس للاقتضاء إلا وجهان؛ أحدهما: اقتضاء الفعل".

ويدخل فيه الوجوب والندب، والثاني: "اقتضاء الترك" ويدخل فيه الكراهة والتحريم.

طالب: "والآخر: اقتضاء الترك. فلا فرق في مقتضى الطلب بين واجب ومندوب، ولا بين مكروه ومحرم، وهذا الاعتبار جرى عليه أرباب الأحوال من الصوفية، ومن حذا حذوهم ممن اطرح مطالب الدنيا جملة، وأخذ بالحزم والعزم في سلوك طريق الآخرة؛ إذ لم يفرقوا بين واجب ومندوب في العمل بهما، ولا بين مكروه ومحرم في ترك العمل بهما، بل ربما أطلق بعضهم على المندوب أنه واجب على السالك، وعلى المكروه أنه محرم، وهؤلاء هم الذين عدُّوا المباحات من قبيل الرخص كما مر في أحكام الرخص، وإنما أخذوا هذا المأخذ من طريقين".

قد يكون مثل هذا الكلام مقبولاً، أن الله -جل وعلا- إذا أمرك بشيء فلا تنظر إلى قدر هذا الأمر، أو نهاك عن شيء لا تنظر إلى قدر هذا المنهي عنه؛ انظر إلى تعظيم الله -جل وعلا- الآمر والناهي، قد يكون هذا مقبولًا مع عدم المعارضة. لكن إذا وُجد تعارض بين واجبات، وضاق الوقت عليها تقول: كلها مأمور بها؟ ما يمكن أن تحققها جميعًا، أو ابتلي الإنسان، وأكره على مكروه من المكروهات، أو على محرم من المحرمات، على منهي من المنهيات على هذا أو ذاك، هل نقول: اتركها جميعًا وأنت مكره على أحدها، حينئذ يجب أن تفرق بين هذه المأمورات على حسب قوتها وضعفها، وعلى هذه المنهيات كذلك.

طالب: "وهؤلاء هم الذين عدوا المباحات من قبيل الرخص كما مر في أحكام الرخص، وإنما أخذوا هذا المأخذ من طريقين؛ أحدهما: من جهة الآمر، وهو رأي من لم يعتبر في الأوامر والنواهي إلا مجرد الاقتضاء، وهو شامل للأقسام كلها، والمخالفةُ فيها كلها مخالفة للآمر والناهي، وذلك قبيح شرعًا، دع القبيح عادةً، وليس النظر هنا فيما يترتب على المخالفة من ذم أو عقاب؛ بل النظر إلى مواجهة الآمر بالمخالفة. ومن هؤلاء من بالغ في الحكم بهذا الاعتبار، حتى لم يفرق بين الكبائر والصغائر من المخالفات، وعدَّ كل مخالفة كبيرة، وهذا رأي أبي المعالي في الإرشاد، فإنه لم ير الانقسام إلى الصغائر والكبائر بالنسبة إلى مخالفة الآمر والناهي، وإنما صح عنده الانقسام بالنسبة إلى المخالفات في أنفسها، مع قطع النظر عن الآمر والناهي، وما رآه يصح في الاعتبار".

لا يختلف كلام أبي المعالي عن كلام غيره، كلهم يتفقون على أن المعاصي بالنسبة إلى الناهي إلى الله -جل وعلا- أنها تشتمل على شيء من الاستخفاف بالأمر والنهي، ومن هذه الحيثية إذا نظرت إليها من هذه الحيثية فهي واحدة. لكن هو أيضًا يعترف: "وإنما صح عنده الانقسام بالنسبة إلى المخالفات في أنفسها"، إذا نظرت إلى المخالفات بمفرداتها وجدت أن بينها تفاوتًا.

طالب: "والثاني: من جهة معنى الأمر والنهي، وله اعتبارات؛ أحدها: النظر إلى قصد التقرب بمقتضاها، فإن امتثال الأوامر واجتناب النواهي من حيث هي تقتضي التقرب من المتوجه إليه، كما أن المخالفة تقتضي ضد ذلك، فطالب القُرْب لا فرق عنده بين ما هو واجب وبين ما هو مندوب؛ لأن الجميع يقتضيه حسبما دلت عليه الشريعة، كما أنه لا فرق بين المكروه والمحرم عنده؛ لأن الجميع يقتضي نقيض القُرَب".

أو "القُرْب".

طالب: أو "القُرْب"؟

نعم.

طالب: "نقيض القُرْب، وهو إما البعد، وإما الوقوف عن زيادة القُرْب، والتمادي في القرب"، كلها "القُرْب" يا شيخ؟

نعم.

طالب: "والتمادي في القُرْب هو المطلوب، فحصل من تلك أن الجميع على وزان واحد في قصد التقرب والهرب عن البُعْد. والثاني: النظر إلى ما تضمنته الأوامر والنواهي".

كلها تقرب إلى الله -جل وعلا-، أعني جميع المأمورات من واجبات ومستحبات كلها تقرب إلى الله -جل وعلا-، فأنت إذا نظرت إليها من هذه الحيثية، من أجل تحقيق القُرْب من الله -جل وعلا- لم تفرق بين الواجبات ولا المندوبات: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل، حتى أحبه»، لا تفرط في النوافل تقول: واللهِ ما عليها عقاب، لكنها تقربك إلى الله -جل وعلا-، نعم.

طالب: "والثاني: النظر إلى ما تضمنته الأوامر والنواهي من جلب المصالح ودرء المفاسد عند الامتثال، وضد ذلك عند المخالفة، فإنه قد مر أن الشريعة وُضعت لجلب المصالح ودرء المفاسد، فالباني على مقتضى ذلك لا يفترق عنده طلب من طلب، كالأول في القصد إلى التقرب. وأيضًا، فإذا كان التفاوت في مراتب الأوامر والنواهي راجعًا إلى تكميل خادم ومكمل مخدوم، وما هو كالصفة والموصوف، فمتى حصلت المندوبات كملت الواجبات".

"تكميل خادم ومكمل مخدوم"، يعني كأنه يقصد بذلك الوسائل والغايات، الوسائل تخدم الغايات، الوسائل خادمة، والغايات مخدومة بالوسائل.

طالب: "فمتى حصلت المندوبات كملت الواجبات، وبالضد، فالأمر راجع إلى كون الضروريات آتية على أكمل وجوهها، فكان الافتقار إلى المندوبات كالمضطر إليه في أداء الواجبات، فزاحمت المندوبات الواجبات في هذا الوجه من الافتقار، فحكم عليها بحكم واحد".

لكن لا شك أنه عند المزاحمة وضيق الوقت أنه يُقدَّم الواجب على المندوب: «وما تقرب إلي أحد بأحب إلي مما افترضت عليه»، هذا هو المهم: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل...»، إلى آخر الحديث.

وقلنا في مناسبات أن من خيار الناس من يحرص على إبراء الذمة من الواجبات والخروج من عهدتها، وإن لم يكثر من المندوبات، ومن الناس من يفعل الواجبات وقد يحصل فيها شيء من التقصير، وعنده من المندوبات من جنس هذه الواجبات ما يرفو هذا النقص. فالأول معوله على: «وما تقرب إلي أحد بأحب إلي مما افترضت عليه»، والثاني معوله على: «انظروا هل لعبدي من تطوع»، فتجده في الواجبات، تجد شخصًا عالمًا من أهل العلم يقصر، قد يتأخر عن الدوام الرسمي الواجب عليه، وقد يخرج قبل نهايته ليتأهب إلى درس في آخر النهار. هل نقول: إن هذا ترك الواجب من أجل مندوب، أو نقول: إنه يكمل هذا النقص بفعل المندوب: «انظروا هل لعبدي من تطوع»، يُنظر إلى الصلاة فإن كان فيها خلل «انظروا إلى عبدي هل لعبدي من تطوع»، أعظم أركان الإسلام، الزكاة كذلك، الصيام كذلك، «انظروا»، فيكمل هذا النقص من هذه المندوبات، وهذا موجود عند العلماء قديمًا وحديثًا.

 لكن لا شك أن إبراء الذمة من عهدة الواجب لا شك أنه أهم من الإكثار من التطوعات. وبعض الناس ليس عنده أي قدر زائد على الواجبات، تجده يدرس بالأجرة في كلية شرعية يحضر من أول المحاضرة وينتهي مع نهايتها، وليس له أي جهد ولا نشاط غير هذا، يقول هذا انتهى برأت ذمته من عهدة الواجب. لكن تجد آخر تأخر عن المحاضرة خمس دقائق، طيب أين أنت يا فلان عن المحاضرة؟ قال: ماسك بطالب يوجهه وينصحه ويسدي إليه نصيحة، رأى عليه تقصيرًا. هل نقول: إن هذا أفضل أم ذاك؟

طالب: كل من وجه.

ماذا؟

طالب: كل من وجه.

كلهم على خير إن شاء الله. أو مثلاً قصر في آخر المحاضرة ورأى شخصًا عليه ملاحظة أو شيء وتكلم في خارج الدرس الذي اتفق عليه معه من باب إرشاد الطلاب وتوجيههم و... الكل على خير إن شاء الله تعالى.

طالب: "وعلى هذا الترتيب يُنظر في المكروهات مع المحرمات من حيث كانت رائدًا لها وأنسًا بها، فإن الأنس بمخالفة ما يوجب بمقتضى العادة الأنس بما فوقها، حتى قيل: المعاصي بريد الكفر. ودل على ذلك قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]".

جاء في بعض الأخبار أن «الحسنة تقول: أختي أختي»، والسيئة كذلك، يعني السيئة تدعو إلى سيئة بعدها؛ بل تدعو إلى ما هو أكبر منها، والحسنة تدعو إلى ما فوقها من الحسنات؛ لأن الشخص إذا فعل المعصية يعاقَب فيفعل معصية أخرى، والثاني إذا فعل حسنة يثاب عليها ويوفّق لعمل حسنة أخرى، وإذا تأملنا إلى ما جاء عن بني إسرائيل وغيرهم أنهم ضربت عليهم الذلة والمسكنة، لماذا؟ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} [آل عمران: 112]..

طالب: .......

هذا في النهاية ما كانوا، لا.

طالب: .......

{وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ}، {يَكْفُرُونَ} {وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ} [آل عمران: 112]، لكن متى وصلوا إلى حد الكفر وقتل الأنبياء؟ بعد أن تجاوزوا المرحلة الأولى وهي المعاصي: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]، {عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} ثم وصلوا إلى مرحلة الكفر وقتل الأنبياء، ثم بعد ذلك ضُربت عليهم الذلة والمسكنة. فتجد في بعض كلام المصنفين كلامًا تقول: كيف يقول هذا عاقل؟ لكنك تجزم أنه ما هو بأول كلام قاله، يعني الذي قال: (سبحان ربي الأسفل) لن يقولها أول كلمة هذه، لا يمكن أن يقولها، والذي قال: (ألا بذكر الله تزداد الذنوب وتنطمس البصائر والقلوب) ما يمكن أن يقول أول مرة يقول هذا الكلام ولا مجنون، لكنه قال كلامًا وقال كلامًا ورقق له ثم الثاني، ثم عوقب بما هو أعظم إلى أن وصل إلى هذا الحد، نسأل الله السلامة والعافية.

طالب: "وتفسيره في الحديث. وحديث: «الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات...» إلخ، فقوله: «كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه»، وفي قسم الامتثال قوله: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه» الحديث.

والثالث: النظر إلى مقابلة النعمة بالشكران أو بالكفران، من حيث كان امتثال الأوامر واجتناب النواهي شكرانًا على الإطلاق".

لأنه يستعمل هذه النعم التي امتن الله بها عليه فيما يقربه إلى الله -جل وعلا- فتكون شكرانًا، وإن استعملها في غير ذلك كانت كفرانًا للنعمة.

طالب: "وكان خلاف ذلك كفرانًا على الإطلاق، فإذا كانت النعمة على العبد ممدودةً من العرش إلى الفرش بحسب الارتباط الحكمي وما دل عليه قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13]، وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ...} [إبراهيم: 32] إلى قوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34]، وأشباه ذلك.

فتصريف النعمة في مقتضى الأمر شكران لكل نعمة وصلت إليك، أو كانت سببًا في وصولها إليك، والأسباب الموصلة ذلك إليك لا تختص بسبب دون سبب ولا خادم دون خادم، فحصل شكر النعم التي في السماوات والأرض وما بينهما وتصريفها في مخالفة الأمر كفران لكل نعمة وصلت إليك أو كانت سببًا فيها كذلك أيضًا".

يعني لما يعطى الإنسان نعمة السمع أو نعمة البصر، فيستعمل هذا السمع أو ذلك البصر فيما يقربه إلى الله -جل وعلا- أو فيما يثاب عليه، فهذا شكر هذه النعمة وشكر غيرها من النعم، كما أنه إذا استعملها في سماع ما حرم الله والنظر إلى ما حرم الله؛ لا شك أن هذا كفر لهذه النعمة وغيرها.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: "من العرش إلى الفرش".

نعم.

طالب: الأرض؟

الأرض نعم، والأرض فراش.

طالب: "وهذا النظر ذكره الغزالي في الإحياء، وهو يقتضي أن لا فرق بين أمر وأمر ولا بين نهي ونهي، فامتثال كل أمر شكران على الإطلاق، ومخالفة كل أمر كفران على الإطلاق، وثَم أوجه أخر يكفي منها ما ذُكر، وهذا النظر راجع إلى مجرد اصطلاح لا إلى معنًى يُختلف فيه؛ إذ لا ينكر أصحاب هذا النظر انقسام الأوامر والنواهي كما يقوله الجمهور بحسب التصور النظري".

ويدل عليه كلام الجويني السابق في الإرشاد، يسوي بين المعاصي ثم يقول: إن بينها تفاوتًا باعتبار ذاتها، فهم لا يختلفون في أن المعصي هو الله -جل وعلا- وهو واحد، فالذي أمرك بالتوحيد وأمرك بالصلاة وأمرك ببر الوالدين وأمرك بالجهاد وأمرك بمندوبات: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، فأمرك بالإحسان وهو مندوب في كثير من صوره، هو الذي أمرك بالصلاة وهو الذي أمرك بالتوحيد. فالآمر واحد، إن نظرت إليها من هذه الحيثية فأنت عصيت ربًّا واحدًا بغض النظر عن المعصية، وإن نظرت إلى أن مخالفة هذه الأوامر بمفرداتها أن هذا الأمر يترتب عليه شيء وهو الخروج من الدين: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، لو خالفت هذا خرجت من الدين، نسأل الله العافية. لكن لو خالفت بعض الأوامر التي لا ترتقي إلى الوجوب، أو ارتكبت بعض النواهي التي لا ترتقي إلى التحريم، فالأمر لا شك أن فيه شيئًا من السعة. لكن في الجملة: إذا أمرك الله فائتمر وإذا نهاك فانتهِ.

طالب: "وإنما أُخذوا في نمط آخر، وهو أنه لا يليق بمن يقال له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] أن يقوم بغير التعبد وبذل المجهود في التوجه إلى الواحد المعبود، وإنما النظر في مراتب الأوامر والنواهي يشبه الميل إلى مشاحة العبد لسيده في طلب حقوقه، وهذا غير لائق بمن لا يملك لنفسه شيئًا في الدنيا ولا في الآخرة؛ إذ ليس للعبد حق على السيد من حيث هو عبد، بل عليه بذل المجهود، والرب يفعل ما يريد".

سبحانه لا إله إلا هو.

طالب: "فصل: ويقتضي هذا النظر التوبة عن كل مخالفة تحصل بترك المأمور به أو فعل المنهي عنه، فإنه إذا ثبت أن مخالفةَ الشارع قبيحةٌ شرعًا، ثبت أن المخالف مطلوب بالتوبة عن تلك المخالفة، من حيث هي مخالفة الأمر أو النهي، أو من حيث ناقضت التقرب، أو من حيث ناقضت وضع المصالح، أو من حيث كانت كفرانًا للنعمة. ويندرج هنا المباح على طريقة هؤلاء من حيث جرى عندهم مجرى الرخص، ومذهبهم الأخذ بالعزائم، وقد تقدم أن الأَوْلى ترك الرخص فيما استطاع المكلف".

ومثل ما يُنقل عن السلف: أنهم تركوا تسعة أعشار الحلال؛ خشية أن يقعوا في الحرام؛ لأن النفس إذا ألفت هذا المباح قد تبحث عنه في يوم من الأيام فلا تجده إلا بطريق فيه شبهة أو فيه كراهة، ثم بعد ذلك تتجاوز النفس إلى طلب هذا المألوف، ولو كان من جهة محرمة.

طالب: "فيحصل من ذلك أن العمل بالمباح مرجوح على ذلك الوجه، وإذا كان مرجوحًا، فالراجح الأخذ بما يضاده من المأمورات، وترك شيء من المأمورات مع الاستطاعة مخالفة، فالنزول إلى المباح على هذا الوجه مخالفة في الجملة، وإن لم تكن مخالفةً في الحقيقة. وبهذا التقرير يتبين معنى قوله -عليه الصلاة والسلام-: «يا أيها الناس توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم سبعين مرة»".

لأن الخلل لا بد أن يقع من البشر، قصدوا ذلك أو لم يقصدوا، شعروا به أو لم يشعروا به، فكون الإنسان يتوب، ويستغفر، ويجعل الاستغفار على لسانه باستمرار لا شك أنه يعينه على القرب من الله -جل وعلا-، ويمحو أثر ما قد يقترفه من أشياء لا يلقي لها بالاً.

طالب: "وقوله: «إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله» الحديث، ويشمله عموم قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31]. ولأجله أيضًا جعل الصوفية بعض مراتب الكمال إذا اقتصر السالك عليها دون ما فوقها نقصًا وحرمانًا، فإن ما تقتضيه المرتبة العليا فوق ما تقضيه المرتبة التي دونها، والعاقل لا يرضى بالدون، ولذلك أُمر بالاستباق إلى الخيرات مطلقًا، وقسم المكلفون إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال والسابقين، وإن كان السابقون من أصحاب اليمين، وقال تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 88 - 90] الآية، فكان من شأنهم أن يتجاروا في ميدان الفضائل، حتى يعدوا من لم يكن في ازدياد ناقصًا، ومن لم يعمر أنفاسه بطالاً. وهذا مجال لا مقال فيه، وعليه أيضًا نبَّه حديث".

ولا شك أن تقسيم الناس إلى علماء وإلى عباد، هذا بالنظر إلى واقع الناس، وإلا فالأصل التلازم بين العلم والعبادة، وأن العلم الذي لا يصدقه العمل هذا ليس بعلم، والعبادة التي لا تستند إلى علم هذه أيضًا يحصل بها الخلل الكبير، وقد يقارنها ما يبطلها، فلا بد أن يكون العالم عاملاً، والعامل لا يعمل إلا على بينة وبصيرة من الله -جل وعلا-، لكن واقع الناس هكذا: تجد من أهل العلم من هو عنده من العلم والمحفوظ والمفهوم الشيء الكثير، لكنه في جانب العمل أقل، وتجد من الناس من يتجه إلى العبادة مع تقصير وقصور وخلل في التحصيل العلمي، هذا الواقع موجود وقديم ما هو بجديد، لكن من جمع بينهما هو الموفق، والله المستعان.

طالب: "وهذا مجال لا مقال فيه، وعليه أيضًا نبه حديث الندامة يوم القيامة".

"الندامة" إذا حضره الموت ندم أيًّا كان محسنًا كان أو مسيئًا؛ لأن المحسن يندم على عدم الاستزادة من هذا الباب، والمسيء يندم على إساءته.

طالب: الحديث يصح يا شيخ؟

ماذا؟

طالب: الحديث؟

لا، ما هو بالحديث الذي... ما هو بهذا اللفظ.

طالب: نعم.

الندم يوم القيامة.

طالب: الشرح...

نعم، «ما من أحد يموت إلا يندم كان محسنًا»، له طرق، وله مفردات وليست صحيحة، لكن بمجموعه في مثل هذا الباب يُقبل.

طالب: "حيث تعم الخلائق كلهم، فيندم المسيء أن لا يكون قد أحسن، والمحسن أن لا يكون قد ازداد إحسانًا. فإن قيل: هذا إثبات للنقص في مراتب الكمال، وقد تقدم أن مراتب الكمال لا نقص فيها؟".

لأنها هي كمال، فكيف تقترن بالنقص وهي كمال؟ قل: الكمال درجات، يعني مثل الدرجات المرتبة على التحصيل العلمي، يعني لا شك أن الامتياز كمال، لكن الامتياز له درجات، لو افترضنا أنه من تسعين إلى مائة، فالكمال من التسعين إلى المائة، لكن درجاته متفاوتة، فواحد وتسعين ما هي مثل تسعة وتسعين، إذا تصورنا هذا تصورنا أو سهل علينا تصور كلام المؤلف -رحمه الله-. نعم. والذي ما يأخذ إلا عشر درجات لا شك أنه في حيز النقص الكبير والخلل الكبير، لكنه أفضل من الذي يأخذ درجة واحدة، نعم، هذا ينفع عند ما يسمونه بالمعدل التراكمي ينفع، وإن كانت تسوية كلهم رسوب، ولا بد أن يعيدوا السنة، ويعيدوا الفصل هذا يتساوون فيه، فالدرجات متفاوتة والدركات متفاوتة.

طالب: "فالجواب: إنه ليس بإثبات نقص على الإطلاق، وإنما هو إثبات راجح وأرجح، وهذا موجود. وقد ثبت أن الجنة مائة درجة، ولا شك في تفاوتها في الأكملية والأرجحية، وقال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ} [البقرة: 253]".

نعم، الجنة كلها كمال، لكنها درجات، مائة درجة، هل يستوي من في الدرجة الأولى ومن في الدرجة المائة، مع أن كلهم في الجنة منعمون؟ ومثلهم الأنبياء كلهم أفضل البشر، لكن هل يستوي محمد -عليه الصلاة والسلام- مع غيره من الأنبياء؟ أو هل يستوي إبراهيم مع من دونه من الأنبياء، أو موسى أو عيسى ونوح، أولي العزم؟

على كل حال: منهم من قال الأنبياء في درجة واحدة، ويستن في ذلك: «لا تفضلوا بين الأنبياء»، لكن النص القطعي: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، التفضيل موجود، والنهي عن التفضيل ثابت في الصحيح: «لا تفضلوا بين الأنبياء»، «لا تفضلوني على يونس بن متى»، هذا إذا اقترن بالتفضيل شيء من التنقص، فإنه حينئذٍ يُضرب عن التفضيل صفحًا، ولا يجوز أن يفضل بينهم. الآن تجدون من طلاب العلم في مجالسهم يتعرضون للعلماء: فلان واللهِ أفضل من فلان، فلان واللهِ أعلم من فلان، فلان أكثر فائدة من فلان، هذا حاصل وواقع، لكن قد يتسبب مثل هذا الكلام بالنسبة لبعض الأتباع أن ينال من المفضل إذا كان ليس شيخًا له أو ما أشبه ذلك أو مفضولًا عنده، قد يتناوله بلسانه، وقد يقع في عرضه.

 وهذا موجود في القدم، حتى من أتباع الأئمة من وضعوا أحاديث في التقليل من غير إمامهم، ووضعوا أحاديث في تفضيل إمامه على غيره، ومشكلة الأتباع من القدم مشكلة، ما تجد خلافًا كبيرًا بين الأئمة وبين أهل العلم، وإذا وُجد خلاف فهو خلاف علمي يتناولونه بالأدلة، ولا يصل إلى قلوبهم، لكن تجد الأتباع يصل بينهم الأمر إلى الضرب والأذى، هذا يوجد بين الأتباع، والله المستعان.

طالب: "وقال: {فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55]. ومعلوم أن لا نقص في مراتب النبوة، إلا أن المسارعة في الخيرات تقتضي المطالبة بأقصى المراتب بحسب الإمكان عادة، فلا يليق بصاحبها الاقتصار على مرتبة دون ما فوقها، فلذلك قد تستنقص النفوس الإقامة ببعض المراتب مع إمكان الرقي، وتتحسر إذا رأت شفوف ما فوقها عليها، كما يتحسر أصحاب النقص حقيقةً".

لكن هذا لا يمكن أن يوجد في الجنة، مثل هذا التحسر لا يمكن؛ لأنه ينافي النعيم المطلق، وأيضًا: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43]، لا يمكن أن يوجد مثل هذا في الجنة، وإن وجد التفاوت الكبير بينهم.

طالب: "كما يتحسر أصحاب النقص حقيقةً إذا رأوا مراتب الكمال، كالكفار وأصحاب الكبائر من المسلمين، وما أشبه ذلك. ولما فضَّل رسول الله بين دور الأنصار وقال: «في كل دور الأنصار خير»، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! خُير دور الأنصار فجُعلنا آخرًا. فقال: «أوَليس بحسبكم أن تكونوا من الخيار؟»، وفي حديث آخر: «قد فضلكم على كثير». فهذا يشير إلى أن رتب الكمال تجتمع في مطلق الكمال، وإن كان لها مراتب أيضًا، فلا تعارض بينهما، والله أعلم. وقد يقال: إن قول من قال: (حسنات الأبرار سيئات المقربين) راجع إلى هذا المعنى، وهو ظاهر فيه، والله أعلم".

وهذا معروف عند أهل العلم باعتبار أن المقربين أفضل من الأبرار، وهم كلهم على خير وفي خير، وفي دائرة التفضيل على غيرهم، لكن لا شك أن المقربين أفضل من الأبرار، فحسناتهم التي يأتون بها وهم أبرار إذا اقتصر عليه المقربون صارت نقصًا في حقه، ولا شك أن النظر يتفاوت من شخص إلى آخر. الناس أمام التشريع سواء، لكن يبقى أن الأفراد بصفاتهم تتفاوت مسؤولياتهم، فليس لوم العامي مثل لوم العالم عند المخالفة، يعني لو أُعلن عن مساهمة في شيء، وهذه المساهمة فيها شبهة، وسجل فيها الناس عامة وعلماء، أخيار وفساق، اللوم يتجه على من؟ على العلماء. طيب كلهم بنو آدم، وكلهم محاسبون مجزيون أمام الله -جل وعلا-، إذا التفت الإمام بعد الفراغ من فريضة من الفرائض، ووجد شخصًا فاتته ركعة، وآخر فاتته أربع ركعات، يمكن أن يلوم هذا الذي فاتته ركعة، ويشكر ويدعو لمن فاتته الأربع الركعات؛ لأن هذا طالب علم قدوة، فكيف يفوته ركعة، وذاك الحمد لله الذي جاءه، وصلى مع الجماعة. فالناس لا شك أنهم يتفاوتون، وإن كانوا في الأصل أمام التشريع كلهم مطالب بالواجبات، وبترك المحرمات.

 والله أعلم.