شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (110)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أيها الإخوة والأخوات، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، لا زلنا في كتاب العلم من هذا الكتاب، يتولى شرح هذا الكتاب فضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: قال المصنف -رحمه الله-: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: «قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: وقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: هي النخلة».

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فراوي الحديث عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- سبق الكلام عنه، والحديث ترجم عليه البخاري ترجمتين: أولاهما: باب قول المحدث: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا، وقال لنا الحميدي: كان عند ابن عيينة حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت واحدًا، والثانية الترجمة الثانية: باب طرح الإمام المسألة على أصحابه؛ ليختبر ما عندهم من العلم.

 ومناسبة الحديث للترجمة الأولى قال ابن حجر: تستفاد من اختلاف ألفاظ الحديث المذكور، ويظهر ذلك إذا اجتمعت طرقه، فإن لفظ رواية عبد الله بن دينار المذكور في الباب «فحدثوني ما هي؟»، وفي رواية نافع عند المؤلف تفسير أخبروني، وفي رواية عند الإسماعيلي: أنبئوني، رواية حدثوني، ورواية أخبروني، ورواية أنبئوني، وفي رواية مالك عند المصنف: «حدثوني ما هي؟»، وقال فيها: «فقالوا: أخبرنا بها» حدثوني فقالوا: أخبرنا بها، في رواية حديث الباب: فحدثوني ثم قالوا: حدثنا، فدل على أن التحديث والإخبار والإنباء عندهم سواء، وهذا لا خلاف فيه عند أهل العلم بالنسبة إلى أصل الكلمات الثلاث، يعني من حيث اللغة، الإنباء والإخبار والتحديث كلها بمعنى واحد، وإن وجد بينها فروق دقيقة، فالذي يخبرك قد أنبأك، والذي يحدثك قد أخبرك، والذي يخبرك قد حدثك، هذا في الجملة في المعنى الذي يُظن فيه الترادف، وإن وُجد من حيث الفروق اللغوية الدقيقة التي يقررها جمع من أهل العلم، حيث ينفون الترادف من كل وجه، أن الإخبار أوسع من دائرة التحديث، بدليل أن من قال لعبيده: من حدثني بكذا فهو حر، فجاء أحدهم فقال كذا، من حدثني بقدوم زيد فهو حر.

المقدم: فجاء أحدهم.

فجاء أحدهم وقال: قدم زيد، يعتق، لكن لو قال، كتب ورقة أنه قدم زيد، يقول ما حدثهم، لكن لو كانت الصيغة من أخبرني بقدوم زيد عتق من كتب.

المقدم: سواء كتب أو حدّث.

لأن الإخبار أوسع، أوسع من دائرة التحديث، يشمل اللفظ، ويشمل الكتابة، ويشمل الإشارة، ويشمل العلامة، الإخبار يحصل بهذا كله، هذه من الفروق التي يثبتها من ينفي الترادف في اللغة، لكن هي في الجملة معنى واحد في الأصل، وكذلك الإنباء، ومن أصرح الأدلة في ذلك قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة:4]، تحدث أخبارها، {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:14]، فجاء التحديث مع الإخبار، وجاء الإنباء مع الإخبار، وأما بالنسبة للاصطلاح ففيه الخلاف، منهم من استمر على أصل اللغة، وهذا رأي الزهري ومالك وابن عيينة ويحيى القطان وأكثر الحجازيين والكوفيين، وعليه استمر عمل المغاربة، ورجحه ابن الحاجب في مختصره، ونقل الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة، استمر على أصل اللغة، فيروي عن شيخه يقول: أخبرنا، ويقول: حدثنا، ويقول: أنبأنا لا فرق، سواء كان طريق التحمل السماع أو العرض الذي هو القراءة على الشيخ أو غير ذلك، يؤدي بأي صيغة من هذه الصيغ تحديث وإخبار وإنباء بمعنى واحد، وعليه عمل الإمام البخاري-رحمه الله تعالى-.

 فالإمام البخاري يرى أنه لا فرق بين هذه الصيغ، ولا يرى التفريق، ولا ينبه على الفروق بين الرواة في هذا بدليل أنه ترجم على الحديث بقوله: باب قول المحدث: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا، التقدير واحد، ورجح ذلك كما هي عادته بنقلها عن الحميدي، وقال لنا الحميدي: كان عند ابن عيينة حدثنا وأخبرنا وأنبأنا وسمعت واحدًا، فدل على أنه يرى ذلك، وقد مر بنا مرارًا أن البخاري إذا أردف الترجمة التي لم يحسمها بأثر فهو يرجح مقتضى ذلك الأثر، مر بنا هذا مرارًا، ومنهم من رأى إطلاق ذلك، حيث يقرأ الشيخ من لفظه وتقييده حيث يُقرأ عليه، وهو مذهب إسحاق بن راهويه والنسائي وابن حبان وابن مندة وغيره، إطلاق ذلك حيث يطلق الشيخ من لفظه، وتقييده حيث يقرأ عليه، ما معنى ذلك؟

يقول: حدثنا إذا سمع من لفظه، أخبرنا إذا سمع من لفظه، أنبأنا إذا سمع من لفظه، لكن في حال العرض أو القراءة على الشيخ يقول: حدثنا قراءة عليه، يأتي بمقيد، أخبرنا قراءة عليه، أنبأنا قراءة عليه، وهكذا، يقول: منهم من رأى إطلاق ذلك حيث يقرأ الشيخ من لفظه، وتقييده حيث يُقرأ عليه. يعني يقيده بما يدل على المراد، بما يشرح حقيقة الحال، وهو مذهب إسحاق بن راهويه والنسائي وابن حبان وابن مندة وغيرهم، والمعروف عن إسحاق أنه لا يُحدث إلا بالإخبار، نعم وقع في أول "كتاب الصلاة" من صحيح مسلم قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال: حدثنا. وهذا نادر، أما إسحاق فالمعروف عنه أنه لا يُحدث إلا بإخبار يرد هذا الموضع من صحيح مسلم، لكنه لا، هو به يفسر المبهم، إذا قيل إسحاق حدثنا إسحاق من دون نسبة، قال أخبرنا يظنون أنه.

المقدم: إسحاق هذا.

إسحاق بن راهويه..

المقدم: لأنه لا..

لا يحدث إلا بإخبار، ومنهم من رأى التفرقة بين الصيغ بحسب افتراق التحمل، فيخصون التحديث بما يلفظ به الشيخ، والإخبار بما يقرأ عليه، وهذا مذهب ابن جريج والأوزاعي والشافعي وابن وهب وجمهور أهل المشرق، وخصوا الإنباء بالإجازة، وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل، وظن بعضهم أن ذلك على سبيل الوجوب فتكلفوا في الاحتجاج له عليه بما لا طائل تحته، نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور؛ لئلا يختلط الأمر، المتأخرون اعتمدوا التفريق، وجمهور أهل المشرق اعتمدوا التفريق بين الصيغ، وجعلوا حدثنا وسمعت لما يُسمع من لفظ الشيخ، وجعلوا أخبرنا لمن روى بطريق العرض، القراءة على الشيخ، وأنبأنا بالإجازة؛ فلئلا يقع الخلط بين طرق التحمل ينبغي أن يفرق بين صيغ الأداء، ومعروف ما بين السماع من لفظ الشيخ، وما بين الإجازة من بوْن شاسع؛ لأن السماع من لفظ الشيخ مجمع على العمل به، وهو الأصل في التحمل، وأيضًا القراءة على الشيخ مجمع على العمل به، وإن شذ من شذ، لكن الإجازة الخلاف فيها معروف، فإذا قال: أنبأنا، وقد سمع من لفظ الشيخ أوقع في إيهام أن الشيخ تحمل، أنه تحمله عن الشيخ بطريق الإجازة؛ لأن الاصطلاح استقر على هذا، فينبغي أن يعتنى بذلك.

 وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل، وظن بعضهم أن ذلك على سبيل الوجوب، فتكلفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته، نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور؛ لئلا يختلط الأمر؛ لأنه صار حقيقة عرفية عندهم، يعني الحقيقة اللغوية لا فرق، الحقيقة الشرعية أيضًا لا فرق، فجاءت في الحديث بهذا وهذا، جاءت هذه في موضع هذه في الحديث، وإن كان للقائل أن يقول إن النبي-عليه الصلاة والسلام- ما قال إلا لفظة واحدة، والرواة تصرفوا، المقصود أن التفريق حقيقة عرفية، والخلط في صيغ الأداء إذا لم نعرف اصطلاح الرجل؛ لأن ما يمكن أن نقول إن البخاري خلط، البخاري إمام، وله رأيه المعتبر، ولا يُلزم برأي غيره، لكن ممن أتى بعده ممن يعتمد على الكتب، ينقل على صحيح مسلم ثم يخلط في صيغ الأداء لا يمكن؛ لأنه يؤدي إلى الخلط في طرق التحمل.

 يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور؛ لئلا يختلط الأمر؛ لأنه صار حقيقة عرفية عندهم، فمن تجوَّز عنها احتاج إلى الإتيان بقرينة تدل على مراده، وإلا فلا يؤمن اختلاط المسموع بالمجاز، يعني إذا قال: أنبأنا السامع يظن ماذا؟ إجازة، وهو قد تحمله بطريق السماع الذي هو أعلى الطرق وأقواها، بعد تقرير فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين.

 وقلنا إن اختيار الإمام البخاري، وعمله على عدم التفريق، وإيراده قول ابن عيينة دون غيره دال على أنه يختاره، واختيار مسلم وعمله على التفريق بدقة، ولذا تجد كثيرًا ما يقول: حدثنا فلان وفلان وفلان، قال فلان: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا. كثيرًا ما يقول هذا. ومناسبة الحديث..

سائل: الإمام مسلم على هذه الألفاظ التحمل ما يدل على أن الخلاف كان بين المتقدمين في هذه الألفاظ ألفاظ التحمل حدثنا وأخبرنا.

مسلم -رحمه الله- يرى التفريق، ولذلك ينقل الصيغة كما هي كما سمع، والخلاف معروف في وقت مسلم، معروف الخلاف، ولذا مسلم ممن يرى، بل قبل مسلم، يعني أول من عُرف عنه التفريق بين التحديث والإخبار ابن وهب، سواء قيل على الإطلاق أو بمصر على وجه الخصوص، ابن وهب متقدم، وبذلك قال الشافعي وجمع من أهل العلم.

 المقصود أن الخلاف معروف قديمًا قبل مسلم، ومسلم ممن يفرق بدقة، يعني عجب يأتي بالفروق وإن كانت لا أثر لها، ويعتني بألفاظ الشيوخ عناية فائقة، والإمام البخاري -رحمه الله- قد لا يهتم بهذا بقدر ما يهتم بالمعاني والاستنباط الذي هو الهدف الأصلي من الرواية؛ لأن بعضهم قد يسمع مثل هذا الكلام وفيه تميز الإمام مسلم بالدقة والتنبيه على الفروق بدقة، فيرجح صحيح مسلم على البخاري، وقد فعله بعض المغاربة من هذه الحيثية، وإلا فترجيح صحيح الإمام البخاري من وجوه معروفة عند أهل العلم، وهو قول جماهير أهل العلم، خلافًا لأبي علي النيسابوري وبعض المغاربة، وقد سبق شرح المسألة في أوائل الكتاب.

 مناسبة الحديث للترجمة الثانية: باب طرح الإمام المسألة على الأصحاب ليختبر ما عندهم من العلم. ظاهرة من حيث إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- ماذا قال؟ «إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، فحدثوني ما هي»؟ طرح هذه المسألة على أصحابه؛ ليختبر ما عندهم، المناسبة ظاهرة، قال العيني: المناسبة بين البابين ظاهرة، فإن الحديث فيهما واحد عن صحابي واحد، المناسبة بين البابين باب ماذا؟ باب قول المحدث: حدثنا وأخبرنا.

المقدم: وأنبأنا.  

نعم، وبين الباب الذي يليه، باب على طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم، يقول: المناسبة ظاهره فإن الحديث فيهما واحد عن صحابي واحد، غير أن الاختلاف في الترجمة، فلذلك أعاد الحديث، وأما التفاوت في نفس متن الحديث فشيء يسير، وهو وجود الفاء في فحدثوني في الباب، وها هنا بلا فاء.

المقدم: حدثوني في الباب الأول بالفاء؟

نعم.

المقدم: وفي حديث هذا باب طرح الإمام المسألة على أصحابه بدون فاء؟

بدون فاء.

المقدم: يعني هنا في نسختنا بالفاء.

في الموضع الأول فحدثوني، وفي الموضع الثاني: حدثوني ما هي.

المقدم: إذًا نقل الحديث بالنسبة للمحقق مخطئ فيه.

نعم بلا شك؛ لأنه في الموضع الأول بالفاء، وفي الثاني بدون الفاء، قد يقول قائل: هل تكرار الحديث مناسب وليس فيه من اختلاف إلا هذه الفاء؟ الحافظ ابن حجر -رحمه الله- يقول: عُرف بالاستقراء من صنيع الإمام البخاري أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضعين على وجهين إلا في مواضع يسيرة، نحو عشرين موضعًا، عرف بالاستقراء من صنيع البخاري -رحمه الله- أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضعين على وجهين، نقول: لقد عُني بعض من لقيت بتتبع ذلك، فحصل منه نحو عشرين موضعاً، في الجزء الأول صفحة 16، وقد عرف بالاستقراء من صنيعه أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضعين على وجهين، بل كان له أكثر من سند على.... إلى آخره، إلى أن قال: ولا يوجد فيه حديث واحد- وهذا المهم- ولا يوجد فيه حديث واحد مذكور بتمامه سندًا ومتنًا في موضعين أو أكثر إلا نادرًا، وقد عُني بعض من لقيت بتتبع ذلك، وحصل نحو عشرين موضعًا، يعني يعيد الحديث بسنده ومتنه، وهذه المواضع العشرون لم يبينها الحافظ في فتح الباري، وإنما بينها القسطلاني في شرحه في المقدمة، ولم يذكر منها هذا الحديث، لماذا؟

المقدم: فيه اختلاف.

فيه اختلاف كبير في الإسناد، ليست المسألة مسألة الفاء، الإسناد مختلف؛ لأنه في الموضع الأول البخاري يرويه عن قتيبة، وفي الثاني يرويه عن خالد بن مخلد، وقتيبة يرويه عن إسماعيل بن جعفر، وخالد بن مخلد يرويه عن سليمان، المقصود أن هناك اختلافًا، والمنفي كونه يورد الحديث بسنده ومتنه.

 يقول الكرماني: فإن قلت: فما فائدة إعادة هذا الحديث؛ إذ لا تفاوت بينهما إلا بزيادة هذه الفاء، وزيادة الالتماس من الرسول -عليه الصلاة والسلام- بلفظ حدثنا؟ بلفظ ماذا؟ بلفظ حدِّثنا، التماس الصحابة من الرسول -عليه الصلاة والسلام- بلفظ حدِّثنا.

قلت: أعاد لاستفادة الترجمة التي عقد الباب لها منه. يعني أعاده البخاري ليستنبط منه، البخاري يكرر بل يقطع الأحاديث بحسب ما يستنبط من الحديث من أحكام، فيترجم بهذه الأحكام على ما يُورِده من الحديث، يقول: فإن قلت: ما الفائدة في تغيير رجال الإسناد؟ وهذه مسألة مهمة جدًّا، فإن قلت: ما الفائدة في تغيير رجال الإسناد؟ قلت: المقامات مختلفة، فرواية قتيبة للبخاري إنما كانت في مقام بيان معنى التحديث، ورواية خالد في مقام بيان طرح المسألة، فلهذا ذكر البخاري في كل موضع شيخه الذي روى له الحديث لذلك الأمر الذي روى لأجله مع ما فيه من التأكيد وغيره؛ ما معنى كلام الكرماني؟

كلام الكرماني يقول: إن قتيبة هو الذين بيَّن للبخاري اختلاف الصيغ، ولذلك ترجم البخاري على مقتضى توجيه شيخه، وفي الموضع الثاني خالد شيخ البخاري هو الذي وضح للبخاري هذه الفائدة، وهي طرح الإمام المسألة، ولذلك ترجم بها البخاري، وعلى هذا كأن الكرماني وقد ردد هذه مرارًا يومئ إلى أن البخاري يقتفي أثر شيوخه في هذه التراجم، هذه التراجم يستفيدها من شيوخه، قال ابن حجر: أورد فيه يعني في الباب حديث ابن عمر بلفظ قريب من لفظ الذي قبله، وإنما أورده بإسناد آخر؛ إيثارًا لابتداء فائدة تدفع اعتراض من يدعي عليه التكرير بلا فائدة، وأما دعوى الكرماني أنه لمراعاة صنيع مشايخه في تراجمهم ومنصفاتهم هذه رددها مرارًا، وأن رواية قتيبة كانت هنا، كانت في بيان معنى التحديث والإخبار، ورواية خالد كانت في بيان طرح الإمام المسألة، فذكر الحديث في كل موضع عن شيخه الذي روى له الحديث لذلك الأمر فإنها غير مقبولة، ولم نجد عن أحدٍ ممن عرف حال البخاري وسعة علمه وجودة تصرفه حكى عنه أنه كان يقلد في التراجم، ولو كان كذلك لم يكن له مزية على غيره، لكان تلقى من شيوخه الترجمة والحديث ما صارت مزية صار مجرد جامع، ولو كان كذلك لم يكن له مزية على غيره.

 وقد توارد النقل عن كثير من الأئمة أن من جملة ما امتاز به كتاب البخاري دقة نظره في تصرفه في تراجم أبوابه، والذي ادعاه الكرماني يقتضي أنه لا مزية له في ذلك؛ لأنه مقلد فيه لمشايخه، ووراء ذلك أن كلًّا من قتيبة وخالد بن مخلد لم يذكر لأحد منهما أو لم يُذكر لأحد منهما ممن صنف ببيان حالهما، يعني من ترجم لهما ما ذكر في ترجمته أن له تصنيفًا على الأبواب، فضلًا عن التدقيق في التراجم، وقد أعاد الكرماني هذا الكلام في شرحه مرارًا، ولم أجد له سلفًا في ذلك، والله المستعان.

الكرماني أحيانًا لا يأتي بالأدب المطلوب مع صاحب الكتاب الإمام البخاري على جلالته وعظمته -رحمه الله-، أحيانًا يصل به إلى أن يسيء الأدب، إذا لم يفهم الرابط بين الحديث والترجمة، قال: الكتاب لم يبين أو هذا تعجرف، أو لا يمكن أن يوجد رابط، ووجود هذا الحديث تحت هذه الترجمة قد يكون غلطًا أو سهوًا أو...  كله إساءة أدب مع الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-، والكرماني إنما أوتي من ضعف فهمه في بعض الأحيان لا يفهم دقة نظر البخاري وشفوفه في بعض الأحيان، ثم يقول ما يقول تبعًا لقصوره في الفهم، أو لتقصيره في التفهم.

سائل: أحسن الله إليكم يا شيخ، الكرماني هل وقف على شيء يفيد أن قتيبة بن سعيد أو خالد بن مخلد نص على أنهما من التراجم، تراجم البخاري خاصة في أحد الحديثين أو أنه تخمين من الكرماني؟

لا هو مجرد توجيه واسترواح من الكرماني من أجل أن يحل الإشكال الذي أمامه، لكنه حله بطريقة غير مرضية واستعمل هذا في مواضع يرى أن الذي استنبط الحكم وترجم به شيخه البخاري، لكن إذا نظرنا إلى أن الشيخين المذكورين هنا لم يذكر من ترجم لهما وبين حالهما أنه له كتاب مصنف على الأبواب ليكون الإمام البخاري اقتفى أثر شيخه، فضلًا على أن يكون مصنفًا ومترجم بهذه الدقة المتناهية.

 قوله: «إن من الشجر شجرة» أي من جنس الشجر، وهو من قبيل ما يميز فيه عن واحده بالتاء نحو: تمر، وتمرة، سدر وسدرة، ونبق ونبقة، زاد في رواية مجاهد عن المصنف في باب الفهم في العلم قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة، فقال: كنا عند النبي-صلى الله عليه وسلم- فأوتي بجمّار وقال: «إن من الشجر»، وله في البيوع: «كنت عند النبي -عليه الصلاة والسلام- وهو يأكل جُمارًا» والجمار معروف، شحم النخل.حأحأيي

المقدم: يأكلونه يا شيخ؟

يأكلونه وما زال يؤكل، وهو لذيذ، وشجرة من نصب اسم إن وخبرها الجار والمجرور، و"من" للتبعيض، لا يسقط ورقها في محل نصب صفة لشجرة، وهي صفة سلبية تبين أن موصوفها مختص بها دون غيره، «لا يسقط ورقها» بينما بقية الأشجار كلها يسقط ورقها، صفة سلبية، المراد بالسليبة أنها مصدَّرة بالنفي، وهذا هو المعنى الأصلي لهذه الكلمة، بخلاف الاستعمال العرفي للسلبية المقابل للإيجابية، فالسلبية في العرف تستعمل في المذموم، والإيجابية في الممدوح، يقولون: صفة سلبية، ولو جاءت بصيغة الإثبات، ويقولون: إيجابية فيما يمدح ولو جاءت بصيغة النفي، هذا استعمال عرفي.

 لكن الاستعمال الأصلي السلبية الجملة المُصدرة بالنفي كما هنا، والورَق بفتح الراء، وأما الورِق بكسر الراء فهو الدراهم المضروبة، وأنها مثل المسلم في رواية أبي ذر بكسر ميم مثل وإسكان المثلثة، وفي رواية الأصيلي وكريمة بفتحهما، وهما بمعنى، قال الجوهري: مِثله ومَثله كلمة تسوية.

المقدم: بفتح إن أم بكسرها؟

 أين؟

 المقدم: وأنها مثل أم وإنها أولى في سياق الحديث؟

وأنها.

المقدم: بالفتح يا شيخ؟

نعم؟ ماذا عندك؟

المقدم: عندنا بالكسر، وإنها مثل المسلم.

نعم خلونا نشوف السياق وإنها، إن من الشجر وإنها بالكسر بلا شك، لا لا الفتح مثل هذا وهم، وإنها مثل مسلم في رواية أبي ذر بكسر الميم، ميم مثل وإسكان المثلثة، وفي رواية الأصيل وكريمة بفتحهما، وهما بمعنى، قال الجوهري: مِثله ومَثله كلمة تسوية كما يقال: شِبهه وشَبهه بمعنى، قال: والمثل بالتحريك أيضًا ما يضرب من الأمثال، انتهى.

المقدم: أحسن الله إليكم، لعلنا نستكمل أيضًا ما تبقى من ألفاظ هذا الحديث بإذن الله وما فيه من أحكام في حلقة قادمة وأنتم على خير. أيها الإخوة والأخوات نلقاكم مع حلقة قادمة لاستكمال ألفاظ هذا الحديث في كتاب العلم من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، شكرًا لطيب متابعتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.