كتاب الجهاد والسير من المحرر في الحديث - 04

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

 قال الإمام ابن عبد الهادي -يرحمه الله تعالى- في كتابه المحرر:

وعن يزيد بن أبي حبيب قال: حدثني أسلم أبو عمران مولى لكِنْدة قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفًّا عظيمًا من الروم.."

الحديث الذي قبله.

حديث جابر يا شيخ؟ عفا الله عنك.

"وعن جابر بن عتيك أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: «من الغَيْرَة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله -عز وجل- فالغَيْرَة في الرِّيْب..»"

في الرِّيْبَة.

"«فالغيرة في الرِّيبة، وأما الغيرة التي يَبغضها الله»."

يُبغضها.

"«وأما الغَيرة التي يُبغِضُها فالغَيرة في غير رِيْبَة، وإن من الخُيَلاء ما يَبغض الله»"

يُبغِض.

"«ما يُبغِض الله»"

من الرباعي أَبْغَضَ.

عفا الله عنك.

"«وإن من الخيلاء ما يُبغِض الله، ومنها ما يحب الله، فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل من نفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله -عز وجل- فاختياله في البغي والفخر»، رواه أحمد وأبو داود والنسائي وأبو حاتم البستي.

 وعن يزيد بن أبي حبيب قال: حدثني أسلم أبو عمران مولى لكِنْدَة قال: كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفًّا عظيمًا من الروم، وخرج إليه مثله أو أكثر، وعلى أهل مصر عقبة، وعلى أهلِ مصر عقبة بن عامر صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح به الناس وقالوا: سبحان الله، يُلْقِي بيده إلى التهلكة، فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: إنكم تؤولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار، إنا لما أعز الله الإسلام، وكثر ناصريه.."

ناصروه.

عندنا: ناصريه يا شيخ.

إذا كانت ناصريه فهي كَثَّر.

وكَثَّر؟ عفا الله عنك.

"وكثَّر ناصريه قلنا بعضنا لبعض سرًّا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، وأعز ناصريه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم- يرد علينا ما قلنا: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة:195]، فكانت التهلكة الإقامة في أموالنا وإصلاحها، وتركنا الغزو قال: مازال أبو أيوب شاخصًا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم، رواه أبو يعلى الموصلي، وهذا لفظه وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وابن حبان والحاكم.

 وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قطع نخل بني النضير، وحرّق، ولها يقول حساب بن ثابت- رضي الله عنه-:

وهان على سراة بني لؤي

 

حريق بالبويرة مستطير

وفي ذلك نزلت: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} [سورة الحشر:5] الآية، متفق عليه.

 وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعث فقال لنا: «إن لقيتم فلانًا وفلانًا- لرجلين من قريش سماهما- فحرقوهما بالنار»، قال: ثم أتينا نودّعه حين أردنا الخروج فقال: «إني كنت أمرتكم، إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا بالنار، وإن النار لا يعذِّب بها إلا الله، فإن أخذتموهما فاقتلوهما»، رواه البخاري.

 وعن عوف بن مالك قال: قتل رجل من حِمْيَر رجلاً من العدو فأراد سلْبه.."

سلَبه.

"فأراد سلَبه، فمنعه خالد بن الوليد، وكان واليًا عليهم، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عوف بن مالك فأخبره فقال لخالد: «ما منعك أن تعطيه سلَبه؟»، قال: استكثرته يا رسول الله، قال: «ادفعه إليه، فمر خالد بعوف فجر بردائه ثم قال: هل أنجزتُ لك ما ذكرته لك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فسمعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستُغضِب فقال: «لا تعطه يا خالد، لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركو لي أمرائي؟ إنما مثلكم ومثلهم كمثل رجل استرعى إبلاً أو غنمًا فرعاها، ثم تحيَّن سقيها فأوردها حوضًا فشرعت فيه فشربت صفوه وتركت كدره، فصفوه لكم، وكدره عليهم»، رواه مسلم.

 وعن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد أن رسول الله قضى بالسَّلَب للقاتِل، قضى بالسلب للقاتل، ولم يخمس السلب، رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وإسناده صحيح."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "وعن جابر بن عَتِيْك أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول".. أولًا هذا الحديث مخرَّج كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى- عند أحمد، عند أحمد وأبي داود والنسائي وابن حِبَّان، ولكنه لا يثبت، فهو حديث ضعيف، ونأتي على متنه لنرى ضعف المتن، إضافة إلى ضعف الإسناد.

 "أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: « من الغيرة ما يحب الله -عز وجل-، من الغيرة ما يحب الله -عز وجل-»، وفي الحديث الصحيح: «أتعجبون من غَيرة سعد»، ثم بين أنه- عليه الصلاة والسلام- أغير من سعد، وأن الله يغار إذا انتُهِكَت محارمه، فالغيرة على محارم الله وعلى الأعراض وعلى كل ما جاء الشرع بحفظه، هذه صفة المسلم، وهو مصدر غار يغير غيرة، بخلاف أغار يغير إغارة، فالغَيرة، وينطقها كثير من الناس غِيْرَة، هذا الكلام ليس بصحيح، بل هي غَيْرة؛ لأنها مصدر غَار يغير غَيرة.

 من الغَيرة ما يحب الله -عز وجل-، هذا الخبر قلنا: إنه لا يثبت.

 «ومنها ما يبغض الله -عز وجل-» هذا الكلام في الجملة صحيح؛ لأن الغَيْرَة من الصفات المحمودة، لكن قد يتجاوز بها صاحبها الحد الشرعي، فتكون مذمومة، أو يقصر بها عن الحد الشرعي، فتكون مذمومة، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، في كثير من الأمور يكون هناك طرفان ووسط، فالطرفان مذمومان، والوسط هو المحبوب، الغيرة إذا كان الشخص عنده غيرة على زوجه أو على بناته أو أولاده، ثم دخلته الشكوك والظنون وصار يسيء الظن بكل أحد، وكل من وقف حول الباب اتهمه، أو اتهم أهله بسببه، وبعضهم يزيد على ذلك، فيضع أجهزة التنصت والتسجيل، هذا يعيش حياة الشقاء.

 نعم إذا وجدت الريبة أو غلب على ظنه وجود شيء مخل فإن عليه أن يتثبت، فالغَيرة إذا زادت عن الحد الشرعي مذمومة بلا شك، شخص أيقظ امرأته لصلاة الفجر، فلما جاء بعد الصلاة وجدها في منامها ما صلت، فضربها ضربًا شديدًا، ثم لما كان من الغد أيقظها لصلاة الفجر، ثم عاد بعد ذلك فضربها بخشبة أودت بحياتها، هذه الغيرة مذمومة أم محمودة؟

مذمومة بكل المقاييس وبجميع الشرائع، ما يمكن أن يقرها عاقل، وقل مثل هذا فيمن ارتكب ولده أو بنته أو زوجته شيئًا مخلًّا، لكنه لا يصل إلى حد القتل، الله -جل وعلا- الحكيم الخبير الذي شرع الحدود، ثم بعد ذلك تحمله الغيرة على القتل، هذا ارتكب محرمًا، وقد يقاد بالمقتول كما في الحديث: الرجل يجد عند أهله رجلاً أيقتله فتقتلونه؟ قال: «نعم»، هذه الغيرة ليست في محلها، يعني الزيادة على الحد المشروع مذموم، كما أن القصور دونه مذموم، والديوث الذي يقر الخبث في أهله هذا- نسأل الله العافية- في النار، والمطلوب الوسط.

 قال: «من الغيرة ما يحب الله- عز وجل-، ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله -عز وجل- فالغيرة في الريبة»، نعم إذا وجد رِيبَة ارتاب الإنسان من بعض الأمور، وأراد أن يتثبت منها، ووضع الاحتياطات لها فهذه غيرة محبوبة؛ لأن لها دافعًا وسببًا، «وأما الغيرة التي يبغضها الله -عز وجل- فالغيرة في غير ريبة» ما هناك أي مبرر للتشكيك أو للاحتياطات الزائدة، إنما هو مجرَّد احتياط في غير محله على حد زعمه أنه احتياط، ولا شك أن مثل هذا الاحتياط الاحتياط في تركه، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: إذا أدى الاحتياط إلى ترك مأمور أو فعل محظور فالاحتياط في ترك هذا الاحتياط.

 «وإن من الخيلاء ما يبغضه الله، ومنها ما يحب، فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل عند القتال»، الاختيال ضرب ونوع أو مركَّب من الكِبْر والعجب، وكلاهما من أدواء القلوب، الاختيال ضرب مركَّب من الكِبْر والعجب، «وبينما رجل يمشي يختال في مشيته خُسِفَ به»، نسأل الله العافية «فهو يتجلجل فيها»، يعني في الإرض، «إلى يوم القيامة».

والعجب فاحذره إن العجب مجترف

 

أعمال صاحبه في سيله العرم

فالفخر والخيلاء والإعجاب بالنفس كل هذا من المحرمات؛ لأنها من أمراض القلوب التي تؤثر في النفوس على نفس صاحبها، وفي تعامله مع غيره فتجده يحتقر الناس ويزدريهم، وهذا هو الكبر، الكبر بطر الحق وغمط الناس.

 «فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل نفسه عند القتال» يعني في الظاهر في الصورة؛ ليغيظ بها الكفار، وأما قلبه وهو مملوء بالتواضع، فإذا كان الاختيال في الظاهر والقصد منه إغاظة الكفار فجاء ما يدل عليه شريطة ألا يصل إلى القلب فيصير وصفًا لازمًا له، «فاختيال الرجل نفسه عند القتال، واختياله عند الصدقة»، كيف الاختيال عند الصدقة؟! ما معنى الاختيال عند الصدقة؟!

يعني المطلوب في الصدقة «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»، فكيف يتصور هذا مع الاختيال؟! يختال في الصدقة؟! الاختيال هذا نقيض الإخلاص، يعني إذا جاءه فقير يطلب منه شيئًا يتصدق به عليه يخرج النقود من جيبه، ويريها الناس، يختال بها؟ هذا نقيض الإخلاص في الصدقة، وإخفاء الصدقة مطلوب، وإعلانها وإظهارها قد يكون هو في الأصل مرجوحًا، لكن قد يعرض له ما يجعله راجحًا كمن يقصد أن يقتدى به كما مدح النبي -عليه الصلاة والسلام- من بادر حينما حث النبي -عليه الصلاة والسلام- على الصدقة، وجاء بمبلغ كبير، وبين يدي الرسول والصحابة ينظرون قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من يعمل بها»، هذا إذا كان القصد منه الاقتداء، يقتدي الناس به، هذا مطلوب، وهذا القصد يجعله راجحًا، وإن كان مرجوحًا في الأصل، وجاء في الحديث عند أبي داود وغيره: «الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسِرُّ بالقرآن كالمسر بالصدقة، الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة»، {إِن تُبْدُواْ الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لُّكُمْ} [سورة البقرة:271]، هذا أرجح بلا شك، لكن مثل ما ذكرنا قد يعرض للمفوق ما يجعله فائقًا راجحًا.

 ولا يكون هذا هو الأصل، الأصل أن إخفاء الصدقة جاء مدحه في السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، «رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»، رجحخ أرجح «والجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة»، وهو مخرج عند أبي داود بإسناد حسن صالح للاحتجاج، ولكن المعنى في هذا الحديث هل المراد به الجهر بالصوت لمقابلته بالإسرار أو المراد به إخفاء القراءة المقابِل للإعلان؛ لأن المناسِب للصدقة الإخفاء والإعلانن فأخفاها، والقرآن وفيه ذكر الجهر والإسرار، والجهر والإسرار من صفات الأصوات، لا من صفات الأفعال، والإخفاء والإعلان من صفات الأفعال، فكيف تتم المطابقة بين الجهر بالقرآن والإسرار بالقرآن مع الجهر بالصدقة والإسرار بالصدقة؟ فهل المراد في مدح الإسرار بالقرآن إخفاء الصوت أو إخفاء القراءة عن أنظار الناس؛ لتتم المطابقة مع إخفاء الصدقة عن أنظار الناس؛ لأن مقابلة الجهر بالإسرار يجعله من صفات الأصوات، والتنظير بالصدقة يجعل المراد الجهر بمعنى الإعلان، والإسرار بمعنى الإخفاء، فأيهما أظهر؟

 {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [سورة الإسراء:110]، وجاء في الخبر أن أبا بكر -رضي الله عنه وأرضاه- كان يسر بقراءته ويقول: أناجي ربي، وهو يعلم حاجتي. وعن عمر أنه كان يجهر بالقراءة ويقول: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، فنزل قوله -جل وعلا-: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [سورة الإسراء:110]، يعني بين الجهر والإسرار، وقيل لأبي بكر: ارفع صوتك قليلاً، وقيل لعمر: أخفض صوتك قليلاً، فالجهر والإسرار بالنسبة للقراءة من صفات الأصوات، لكن التنظير بالجهر بالصدقة والإخفاء والإسرار بالصدقة يجعل المعنى يَنْصَبّ على الإعلان والإخفاء، وعلى كلٍّ منهما موارد ترد على هذا وهذا، مثل ما ذكرنا في الجهر بالصدقة أنه قد يعرض للمفوق ما يجعله فائقًا.

 قد يقول قائل: إننا ما نرى شيوخنا الكبار يجلسون في المساجد يقرؤون القرآن، ما يمكن أن يقال هذا؟ يقولون هذا، وهذا واقع أو ليس بواقع؟ واقع، أو لا يظن أو يظن بهم وهو الواقع بهؤلاء الشيوخ أن أحزابهم وأسباعهم من القرآن يقرؤونها في صلاة الليل، هذا معروف عنهم، ومنهم من يزيد، منهم من يقرأ في سبع القرآن في صلاة الليل، ومنهم من يقرأ في ثلاث، ومنهم من يقرأ أكثر، ومنهم من يقرأ، فليس بحاجة إلى أن يقرأ في وقت يصرفه في نفع متعدٍّ، يصرفه في نفع متعدٍّ، فتجده بعد الصلوات إما في دوامه أو في دروس أو في ارتباطات علمية وما أشبه ذلك، وقد أنجز ما حدده لنفسه من التلاوة، فلا تجده يقرأ، أو يجلس لقراءة القرآن.

 بعض الناس تجده يصعب عليه قيام الليل وإنجاز ما ينبغي أن يقرأ في صلاة الليل وفي جوف الليل، يصعب عليه ذلك، ثم يقرؤه أدبار الصلوات، يجلس بعد صلاة الصبح، ويجلس بعد صلاة الظهر أو العصر ويكمل ورده من القرآن، بعض الشباب من طلاب العلم ما عنده إلا الظاهر، والله شيوخنا ما يقرؤون القرآن باعتبار أنه لا يراهم في المساجد، ويخفى عليه أنهم يقرؤون وردهم من القرآن في صلاة الليل أو في جوف الليل من غير صلاة، ويقومون بالوظائف التي رُتِّبت على المسلم، وعلى العالم أو طالب العلم على وجه الخصوص، بل يذهب بعض الطلاب إلى أبعد من ذلك فيجد العالِم يقرأ القرآن في المسجد ويقول له: يا شيخ أريد أن أقرأ عليك، معي كتاب أقرأ عليك، ويقول له الشيخ: أنا مشغول، ثم يذهب هذا الطالب فيقول: طلبت من الشيخ أن أقرأ عليه وقال لي: مشغول، وهو قاعد يقرأ القرآن.

 وهذا يظن أن وظيفة القرآن لمعلمي القرآن أو لأهل القرآن خاصة، المسلمون كلهم أهل قرآن، وهذه من أعظم الوظائف التي على المسلم وطالب العلم على وجه الخصوص أن يعنى بها، يقول لي: مشغول، وهو قاعد يقرأ القرآن، يعني القرآن ما فيه شغل؟! هذا ليس بشغل، من أهم الأعمال، من أهم الوظائف المرتبة على المسلم.

 على كل حال الذي ينهي ورده في قيام الليل أو في صلاة الليل لا شك أن هذا أفضل، ويتفرغ للأعمال الأخرى في النهار، وإن خشي أن يظن به أو يتساهل طلاب العلم في قراءة القرآن؛ لأنهم لا يرونه، وأبدى شيئًا من ذلك فإنه حينئذ يثاب عليه، لكن لا يظن بمن يجلس في المسجد ويقرأ القرآن وديدنه ذلك أنه أفضل من أولئك الذي يقرؤون ما رتّب من قراءة القرآن بالنسبة لهم من أوراد في صلاة الليل أو جوف الليل، أولئك أفضل بلا شك، لكن الاقتداء إذا اقتدى طلاب العلم بهذا العالم الذي خلصت نيته لله -جل وعلا-، ولم تنخدش بإظهار القراءة، واقتدوا به لا شك أن له مثل أجورهم، أن له مثل أجورهم.

 وعلى كل حال المعول في ذلك على الإخلاص، والإخفاء والإسرار أقرب إلى الإخلاص، لكن الإعلان والجهر إذا ترتب عليه مصلحة راجحة كالاقتداء مثل أولئك الذين اقتدوا بالصحابي الذي جاء بالصرة من الذهب وتصدق بها، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام- في حقه: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»، وجاء الحث على التبكير إلى الصلوات؛ «ولا يزال المسلم في صلاة مادام ينتظر الصلاة»، وإذا جلس بعد الصلاة لا تزال الملائكة تصلي عليه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، مازال في مصلاه ما لم يحدث، ما لم يؤذِ. فالتقدم إلى المسجد قبل الصلاة والجلوس بعد الصلاة كلها مطلوبة، وتستغل بذكر الله.

 ومن أعظم الأذكار قراءة القرآن، وإذا استغلت بتعليم علم أو تعلم علم فهذا أيضًا من أعظم القربات.

 «وأما التي يبغض الله -عز وجل- فاختياله في البغي والفخر»، بعض النسخ: الفجور، بعضها الفجور.

على كل حال الاختيال مذموم إلا في بعض الصور التي هي اختيال في الظاهر لا يصل إلى القلب، إذا أريد به إغاظة العدو، إذا أريد به إغاظة العدو، وذكرنا في الدرس القريب هذا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر الصحابة ورمل في الطواف؛ من أجل إغاظة الأعداء، فإغاظة العدو لا شك أنها مطلب شرعي، وإغاظة الله -جل وعلا- الكفار بالصحابة منصوص عليها في القرآن: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [سورة الفتح:29].

 المقصود أن مثل هذه الأمور الأصل في الفخر والبغي والخيلاء كلها من الأمور الممنوعة إلا إذا كانت في الظاهر باستثناء البغي في الظاهر، ولا تصل إلى القلب؛ من أجل إغاظة العدو، فإنها جاء ما يدل عليها لاسيما في الجهاد.

 وعلى كل حال الحديث على ما قدمنا ضعيف، "رواه أحمد وأبو داود والنسائي وأبو حاتم البستي" المعروف بابن حبان.

 "وعن يزيد بن أبي حبيب قال: حدثني أسلم أبو عمران مولى لكندة قال: كنا بمدينة الروم" الروم التي هي إيش؟ القسطنطينية، هي مدينة الروم، يطلقون عليها مدينة الروم؛ لأنها أشهر مدنهم.

 "كنا بمدينة الروم، فأخرجوا إلينا صفًّا عظيمًا من الروم" صف يقدر بمائة ألف أو أكثر، "فأخرجوا إلينا صفًّا عظيمًا من الروم، وخرج إليه مثله أو أكثر، وخرج إليه مثله أو أكثر" يعني من المسلمين في مقابله مثله "وعلى أهل مصر عقبة بن عامر صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم" عدد هائل من الجيش.

 قال: "فحمل رجل من المسلمين على صف الروم، فحمل رجل من المسلمين على صف الروم" وهذه المسألة تُعرَف بمسألة الانغماس، الانغماس في صف العدو من قِبَل واحد أو جمع يسير، "فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم، فصاح به الناس وقالوا: سبحان الله، يلقي بيده إلى التهلكة"، فما حكم الانغماس؟ على مُفَاد هذا الحديث، وقد أقره أبو أيوب وخطَّأ من استدل بقوله -جل وعلا-: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة:195] على منع صنيعه، خطأهم، الخبر يدل على الجواز، ولا شك أن الأشخاص والأحوال والظروف تختلف، أبو بكرة تدلّى على حصن الطائف ونزل على أهلها من بكرة، وهو شخص واحد، فإذا كان هذا الصنيع من هذا الفرد على هذه الجموع مما يشجع المسلمين، يشجع المسلمين على الثبات عند اللقاء، وعلى الإقدام، فهذا لا شك أنه مقصد حسن، ولو أدى إلى قتله، وإذا كان يفت في عضد المسلمين بأن يكون هذا أشجعهم، ويعولون عليه كثيرًا في رجحان الكفة، فإذا أقدم على هذا العمل مع غلبة الظن أنه يقتل، ويفت هذا في عضد المسلمين فإن هذا يتجه فيه المنع، والمسألة خلافية بين أهل العلم.

 ولا شك أن الانغماس عزيمة، فإذا ارتكبها الإنسان طلبًا للشهادة ولإعلان كلمة الله فالخبر يدل على جوازه، فصاح به الناس وقالوا: سبحان الله! تعجب، يلقي بيده إلى التهلكة؟!

 "فقام أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقال: أيها الناس، إنكم تؤولون هذه الآية على هذا التأويل" يعني الذي ذهبتم إليه، وما فعله هذا الرجل من صُوَره، "قال: أيها الناس إنكم تؤولون هذه الآية على هذا التأويل، وإنما نزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، وإنما نزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار، إنا لما أعز الله الإسلام، وكثَّر ناصريه"، كأن بعضهم قال لبعض: الآن الحمد لله، الإسلام هو ليس بحاجة ماسة إلينا كما كان الأمر في أول الأمر، لما أعز الله الإسلام وكثَّر ناصريه فيقوم بالجهاد غيرنا؛ لأننا أضعنا أموالنا وضِياعنا، ضيعناها، فلو التفتنا إلى أموالنا، والجهاد يقوم به غيرنا، وقد أدينا ما علينا في وقت مسيس الحاجة إلينا فنزلت الآية.

 "لما أعز الله الإسلام وكثّر ناصريه فقال بعضنا لبعض سرًّا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم"- يعني أخفوا هذا الأمر عنه -عليه الصلاة والسلام-: "إن أموالنا قد ضاعت، وإن الله قد أعز الإسلام، وأعز ناصريه، فلو أقمنا في أموالنا فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله على نبيه- صلى الله عليه وسلم- يرد علينا ما قلنا: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}" [سورة البقرة:195].

 والسبب الذي نزلت من أجله الآية الجهاد أو ترك الجهاد؟

طالب: .............

ترك الجهاد، ترك الجهاد، فيدخل هذا السبب دخولاً أوليًّا في الآية دخولاص قطعيًّا، لكنه لا ينفي ما عداه، لا ينفي ما عداه؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلو رأينا إنسانًا يسافر وحده في أرض مسبعة ومفازة بدون طعام ولا شراب دخل في هذه الآية، لو قطع أو أراد قطع هذه المفازة بسيارة أو براحلة لا تبلّغه، السيارة رديئة، وإطارات متهالكة، ومظنة للفساد في الطريق، أو يسرع سرعة تعرّضه للتلف، وتعرّض من معه للتلف، قلنا: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة:195]، ودخل في الآية.

 المقصود أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فاللفظ سببه المناجاة التي حصلت بين الأنصار؛ من أجل الاهتمام بأموالهم وضِياعهم، والقعود عن الجهاد، مع أن الجهاد فيه قتل، وفيه هلاك، فيه قتل، وفيه هلاك؛ لأن القتل والهلاك في الجهاد حياة؛ لأنه شهادة، فليس بتهلكة، فليس بتهلكة؛ لأن الإقدام عليه امتثال لأمر الله وأمر رسوله -عليه الصلاة والسلام-، والجهاد كما هو معروف ذروة سنام الإسلام، ولو انتظر إحدى الحسنيين، وكانت النتيجة أنه يُقتَل في سبيل الله فهذا ليس بميت في الحقيقة، وإنما هو حي.

 "فكانت التهلكة الإقامة في أموالنا وإصلاحها" يعني خلاف ما فهمتم، خلاف ما فهمتم.

 بعض الناس يخاف على ولده أن يعمل في الحِسْبَة ويقول: هذه يا ولدي تهلكة، وأبواب الرزق كثيرة، ما عرفت ما حصل لفلان من ضرب، وما حصل لفلان من التهلكة هنا هل هي في الإقدام على الانضمام إلى أهل الحسبة أو التهلكة في تركهم؟ في تركهم بلا شك، هذه هي التهلكة.

 "فكانت التهلكة الإقامة في أموالنا وإصلاحها، وتركنا الغزو، قال: ومازال أبو أيوب شاخصًا" يعني تاركًا لموطنه مسافرًا من أجل الجهاد وإعلاء كلمة الله، "ومازال أبو أيوب شاخصًا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم" مات هناك -رضي الله عنه وأرضاه-؛ لئلا يقع في التهلكة، لئلا يلقي بيده إلى التهلكة، استمر على الجهاد حتى قتل خشية أن يقع في قوله -جل وعلا-: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [سورة البقرة:195].

 "رواه أبو يعلى الموصلي، وهذا لفظه، وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه ابن حبان والحاكم".

 وعلى كل حال الخبر صحيح.

 "وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قطع نخل بني النضير، وحرَّق، قطع نخل بني النضير، وحرقها"، {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا} [سورة الحشر:5]، هذا فعله -عليه الصلاة والسلام-، وهو المعصوم، وفعله تشريع كقوله، ما يقال: إن هذا إفساد كما قال اليهود: ينهى عن الفساد والإفساد، ويقطع النخل، ويحرق؟! لا.

 المصلحة تقتضي أن يقطع ويحرق، وقد تقتضي المصلحة هدم المنازل وغير ذلك، كما أنها تقتضي قتل الأنفس، هذه طبيعة الجهاد والقتال، لكن جاء عن أبي بكر -رضي الله عنه- نهى عن قطع الشجر وتحريقها، وذلكم محمول على ما إذا غلب على الظن أنها تؤول إلى المسلمين، فإبقاؤها عين المصلحة، أما إذا كان في قطعها وتحريقها فت في عضد أربابها بحيث إذا قطعت وحرّقت تركوا المكان، ما لهم مقام في مكان لا يعيشون فيه، فمثل هذا القطع والتحريق يحملهم على الرحيل وترك المكان. ولا شك أن هذا مقصد شرعي، ومصلحة شرعية راجحة، ولهذا يقول: "ولها يقول حسان بن ثابت -رضي الله تعالى عنه-:

وهان على سراة بني لؤي

 

حريق بالبويرة مستطير

وهان على سراة بني لؤي

 

حريق بالبويرة مستطير"

والسراة هم الرؤساء وأشراف القوم.

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

 

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

"وفي ذلك نزلت: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ}" [سورة الحشر:5]، يعني ما فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- مخالفًا فيه أمر الله -جل وعلا- الذي جاء بمنع الفساد والإفساد إنما هو بإذن الله وأمره، وهذا فعل نبيه -عليه الصلاة والسلام- المأمور بأمر الله.

 "متفق عليه.

 وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بعثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بعث" في غزوة أو سرية، "فقال: «إن لقيتم فلانًا وفلانًا» لرجلين من قريش سماهما"، وكانا ممن بالغ في أذاه -عليه الصلاة والسلام-، والصد عن دينه، وأذى المسلمين، فهؤلاء يحتاجون عقوبة أشد من غيرهم، «إن لقيتم فلانًا وفلانًا» لرجلين من قريش سماهما، «فحرقوهما في النار»؛ نكاية ومبالغة في العقوبة، "ثم أتينا نودعه حين أردنا الخروج فقال: «إني كنت أمرتكم أن تحرقوا فلانًا وفلانًا بالنار، وإن النار لا يعذب بها إلا الله، فإن أخذتموهم فاقتلوهم»".

 نعم التعذيب بالنار، لا يعذّب به إلا الله -جل وعلا-، وفي هذا نسخ للحكم قبل التمكن من الفعل، علماء الأصول يمثِّلون بقصة الذبيح، ويضاف إليها مثل هذا، نسخ للحكم قبل التمكن من الفعل.

 «إن لقيتم فلانًا وفلانًا» لرجلين من قريش «فحرقوهما بالنار»، وحينئذ لا يجوز التحريق بالنار لما فيه روح، لا يجوز التحريق بالنار لما فيه روح، تشاهدون في المساجد آلات تصعق الحشرات المؤذية كالبعوض والذباب وغيرها، تصعقها صعقًا، فهل هي داخلة في التحريق بالنار، أو نقول: إن النار خاصة بذات اللهب المعروفة، وأما الصعْق بالكهرباء فلا يعد نارًا؟

 لا شك أن هذا فيه مجال للبحث، ومن أهل العلم من قال: إنها لا تلحق بالنار، ومنهم من قال: إنه لا فرق بينها وبين النار، وقل مثل هذا في استقبال الدفايات الكهربائية.

طالب: ...........

ماذا فيه؟

طالب: ...........

بعض الناس يقول: إن هذه المدافئ الكهربائية التي تكون بين يدي المصلي وهو يصلي من استقبال النار؛ لأنها بواسطة الكهرباء تحرق هذه الأسلاك من الحديد فتكون كأنها جمر، كأنها جمر، وفعلها فيما يقترب منها فعل النار، ما يختلف، تحرق، ومنهم من يقول: إنها ليست بذات لهب، فلا تشبه النار.

 وعلى كل حال المسألة قابلة للاجتهاد، وكأن الإمام البخاري لا يرى بأسًا في استقبال النار؛ لأنه إن استقبلها من غير استحضار لعبادة من عبدها فهذا لا يؤثر في عقيدته، وإن استحضر عبادة من عبدها، وتشبه به، فإنها تضره ولو بعدت عنه؛ لأن الأمر خطير، فالمسألة تتعلق بالاعتقاد وعبادة وتأله.

 على كل حال البخاري لا يرى بأسًا في استقبال النار في الصلاة، ويرى أن ما ورد فيه من أحاديث أو من أخبار معرَّض أو معارض بما ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- في صلاة الكسوف أن النار مثلت بين يديه، وهذا في الصحيحين.

 «فإن أخذتموهما فاقتلوهما» بالسيف، يعني أو بأي آلة غير التحريق، "رواه البخاري.

 وعن عوف بن مالك" يعني جاء عن بعض الصحابة أنهم حرقوا اللوطية بالنار، فإما أن يكونوا لم يبلغهم النهي، وهذا المظنون بهم، وإلا يرون أن هذا عمل شنيع لا يقاربه ولا يدانيه أي عمل، كما أثر عن بعضهم أنه يلقى من شاهق، وما أشبه ذلك العمل لا شك أنه شنيع، لكن التحريق لا يحرق بالنار إلا الله -جل وعلا-.

 "وعن عوف بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قال: قتل رجل من حمير رجلاً من العدو، قتل رجل من حمير رجلاً من العدو، فأراد سلبه، فمنعه خالد بن الوليد".

 يعني ما مع المقتول وما عليه من ثياب ودروع وسلاح ودوابّ، إذا كانت معه دابة أو شيء كله له يستحقه بقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: «من قتل قتيلاً فله سلبه»، فهذا مستحق بالإذن العام.

 "فأراد سلبه، فمنعه خالد بن الوليد"؛ لأنه معه سلبًا كثيرًا، وكونه يوزَّع على الناس ضمن الغنيمة ينتفع به أكثر من شخص، بينما يأخذه شخص واحد وهو أكثر من حاجته فهذا رأي خالد بن الوليد -رضي الله عنه-.

 "فمنعه خالد بن الوليد، وكان واليًا عليهم" واليًا على هذه الغزوة أو هذه السرية، "فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عوف بن مالك فأخبره" أن فلانًا قتل، أن رجلًا من حمير قتل رجلاً من العدو، فأراد سلبه، وأخبره بالقصة، فمنعه خالد.

 "فقال لخالد: «ما منعك أن تعطيه سلبه؟» قال: استكثرته يا رسول الله" يعني شخص يأخذ من أموال الأعداء أكثر من حاجته، والناس يأخذون الشيء اليسير، وقد تكون الغنائم قليلة، التي توزع عليهم، وهذا كثير.

 "قال: استكثرته يا رسول الله، قال: «ادفعه إليه» يعني هذه الأمور؛ الأموال، وكل ما يتعلق بالدنيا، مهما كثر لا يساوي شيئًا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والدنيا كلها لا تزن عند الله جناح بعوضة، لا يلتفت -عليه الصلاة والسلام-، أعطى رجلاً غنمًا بين جبلين، وأعطى المائة والمائتين من الإبل -عليه الصلاة والسلام-، وما قال: توزع بالسوية، يعطي بعض الناس؛ تأليفًا له، ويكل بعض الناس إلى ما وقر في قلبه من إيمان؛ «إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه» من أجل إيش؟

 قوة الإيمان الذي في قلبه، في حديث سعد في الصحيح: أعطى رهطًا وسعد جالس، فقال سعد: مالك عن فلان يا رسول الله؟ ما لك عن فلان؟ ثم كررها ثم قال: إني لأراه مؤمنًا قال: أوَ مسلمًا، إلى آخر الحديث.

 المقصود أن ولي الأمر ينظر في المصالح والمفاسد، لاسيما المصالح المترتبة على الدين، والتي هي أنفع لدين المسلم، تراعى أكثر مما تراعى أمور الدنيا.

"قال: استكثرته يا رسول الله، قال: «ادفعه إليه»، فمر خالد بعوف بن مالك" الذي أخبر النبي- عليه الصلاة والسلام- "فجره بردائه ثم قال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فسمعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستغضب" عوف له نصيب أو وعده خالد بشيء فأعطاه إياه، فأغضب خالدًا، كأنه طلب منه المزيد أو ألحّ عليه بشيء فأغضبه، "فقال: «لا تعطه يا خالد»" يحرم بسبب هذا الاستغضاب، «لا تعطه يا خالد، لا تعطه يا خالد»، ثلاث مرات، «هل أنتم تاركون لي أمرائي؟».

 خالد أمير، والإمارة لها شأن في الإسلام، والأمير له حقوق في الشرع، فيجب تعظيمه وتوقيره؛ لأنه إذا لم يعظَّم هان على الناس، وهانت أوامره ونواهيه على الناس، ثم يتبع ذلك ضياع الأمور، لا بد أن يعظَّم الأمير، ولا بد أن يطاع في غير معصية الله، في حديث عبادة: بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره، لكن لا يعارض هذا النصح لولاة الأمر، على أن نقول أو نقوم بالحق، لا نخاف في الله لومة لائم. نعم.

على كل حال لهم حقوق، وعليهم واجبات، ولهم شأن في الشرع، وعلى غيرهم ممن يولَّون عليه السمع والطاعة.

 «هل أنتم تاركون لي أمرائي؟ إنما مثلكم ومثلهم كمثل رجل استرعى إبلاً وغنمًا»، يعني أعطاها أحدًا يرعاها أو رعاها أو طلب أحدًا يرعاها، «فرعاها، ثم تحين سقيها فأوردها حوضًا، فشرعت فيه تشرب، فشربت صفوه، وتركت كدره، فصفوه لكم، وكدره عليهم»، يعني هل تظنون أن من تولى أمرًا من أمور المسلمين أنه مرتاح؟!

نعمت المرضعة، وبئست الفاطمة، تجد الذهن مشغولًا باستمرار الرجل العادي يأكل ويشرب وينام مرتاحًا، لكن من حمل أمانة، وقام بها حق القيام، لا شك أنه لا ينام مرتاحًا، ولا يأكل مرتاحًا، ولا يشرب مرتاحًا، كل ما حصل من شيء فإن غيره مباشرة يفزع إليه، وعموم الناس نيام، فصفوه لكم، وكدره عليهم، فصفوه لكم، وكدره عليهم.

 لا شك أن الناس في الظاهر ينظرون إلى الأمراء والرؤساء والملوك وغيرهم ممن تولوا الأمور العامة، ينظرون إليهم في أبهة الملك، وفي أبهة الولاية، على أنهم أسعد الناس، على أنهم أسعد الناس، وهم يعيشون حياة لاسيما المخلص منهم الذي يحوط العامة والرعية بعنايته ونصحه، هذا يتعب تعبًا شديدًا. الإنسان في بيته، يعني فرق بين شخص ليس عنده أسرة أصلاً لا زوجة ولا أولاد، هذا ينام في أي مكان، لا حسيب ولا رقيب، شخص عنده امرأة، وليس عنده أولاد، الزوجة تحاسبه، زادت المسؤولية قليلاً، أين رحت؟ أين جئت؟ عنده أولاد، الزوجة تحاسب، والأولاد يحتاجون إلى عناية، هو يبحث عنهم أين راحوا؟ أين جاؤوا؟ لأنهم أمانة في عنقه، والذي عنده واحد أقل تعبًا من الذي عنده اثنان، وهكذا، فكيف الذي عنده الألوف، بل الملايين، ولو عثرت دابة في العراق لسئل عنها عمر؟

 هذه مسؤولية عظيمة، وأمانة، لا تظنون أنهم مرتاحون، يعني أدنى شيء، أدنى خلل يحملون له الهم؛ لأن حفظ الأمن من أعظم المسؤوليات على ولاة الأمر.

 وعلى كل حال مثل ما قال: «وتركت كدره، فصفوه لكم وكدره عليهم»، وهم في مقابل هذا يحتاجون؛ لأن الغنم مع الغرم، والخراج بالضمان، يحتاجون، لهم حقوق أوجبها الشرع على عموم الناس لا تخفى.

 "وعن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قضى بالسلب للقاتل"، يعني كما في الحديث السابق، وهو كأنه خلاصة أو اختصار للحديث السابق.

 "قضى بالسلب للقاتل، ولم يخمس السلب" فليس مثل الأنفال، ليس بنفل من الأنفال، فإنه لا يخمس، وليس مثل الغنائم التي تخمس، {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ} [سورة الأنفال:41]، فالسلب لا يخمس، وهل يكتفى بدعوى القاتل: إنه قتل فلانًا فيستحق بذلك سلبه، أو لا بد من قيام البينة؟ لا شك أنه إذا لم يوجد معارض يتجه القول بقبول قوله، إذا ظهرت عليه علامات الصدق، وعرف بالأمانة لعدم المعارِض، أما إذا وجد المعارض فلا بد من إحضار البينة، «مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً، لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ». "رواه أحمد وأبو داود واللفظ له، وإسناده صحيح."

نكتفي بهذا.

 والله أعلم.

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"