شرح العقيدة الطحاوية (75)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين،

اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمُستمعين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

قال الشارح -رحمه الله تعالى-:

ثُمَّ إِنَّ أَنْوَاعَ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَصْلِ قِسْمَانِ: اخْتِلَافُ تَنَوُّعٍ، وَاخْتِلَافُ تَضَادٍّ:

وَاخْتِلَافُ التَّنَوُّعِ عَلَى وُجُوهٍ:

مِنْهُ مَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ أَوِ الْفِعْلَيْنِ حَقًّا مَشْرُوعًا، كَمَا فِي الْقِرَاءَاتِ الَّتِي اخْتَلَفَت فِيهَا الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، حَتَّى زَجَرَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَالَ: «كِلَاكُمَا مُحْسِنٌ»".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، النوع الأول لاختلاف التنوع، ذكر منه الشارح -رحمه الله تعالى- اختلاف القراءات، يعني كما في القراءات السبع المتواترة، وكلها ثابتة بيقين، مقطوع بثبوتها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مع نوع الاختلاف في الذي قد لا يكون له أثر في المعنى والحكم، لكنه اختلافٌ في اللفظ، وكلاهما صحيح، وكلاهما مقبول في القراءة، ويُقرأ به، ما دام على الحرف الذي اتفق عليه الصحابة في زمن عثمان -رضي الله عنه-. قبل ذلك، القراءات السبع، وكلها صحيحة، وأقرَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- من قرأ بها في وقته -عليه الصلاة والسلام-. ثمَّ في العرضة الأخيرة بين جبريل- عليه السلام- وبين محمد -صلى الله عليه وسلم- التي استقر عليها الأمر من فاتحة الكتاب إلى خاتمته، في آخر رمضان لقي فيه جبريل، استقر الأمر على حرفٍ واحد، على الخلاف بين أهل العلم في المراد بالحرف والأحرف السبعة. على كل حال، ما بين الدفتين، الموجود الآن بجميع القراءات السبعية القطعية، كله حق، يُقرأ به ويُتعبَّد بتلاوته، سواءٌ كان على قراءة الإمام الفلاني أو غيره من الأئمة المعروفين بالقراء السبعة، من القراءات السبع المتواترة. والعلماء يُقررون أنه لا تجوز في الصلاة القراءة بقراءةٍ خارجةٍ عن مصحف عثمان، كالقراءات التي تُروى عن ابن مسعود وغيره، يعني بعد أن اتفق الصحابة على الموجود في المصحف الإمام، الذي كتبه عثمان وأرسل به إلى الأمصار. وكان الأمر قبل ذلك يجوز، وأقرَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- من قرأ بها، «كلاكما مُحسِن».

ولكن في عهده -صلى الله عليه وسلم- الشقاق والنزاع مضمون، ويُحسم الخلاف، لكن بعده لو بقيت الأحرف السبعة على ما كانت على عهده -صلى الله عليه وسلم- لوُجِدَ الخلاف الذي ينشأ عنه تنافر القلوب، والنزاع الذي حصل بين الأمم السابقة، اختلفوا على أنبيائهم، واختلفوا في كتبهم، فالحمد لله انحسم هذا الخلاف في عهد عثمان -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- لما وُجِدَت حاجة إلى جمعهم على المصحف الموافق للعرضة الأخيرة. ما يُقال: عثمان اجتهد، ونسخ، لا، ما فعل عثمان -رضي الله عنه- شيئًا، إنما جمع المُتفرِّق في مصحفٍ واحد. وهذه من الشُبه التي يُثيرها بعض المُغرضين، والحمد لله ليس لهم فيها مُستَمْسَك. ومن أعظم من يُثيرها ويُشيعها الروافض الذين يختلفون معنا حتى في القرآن، ويزعمون أن القرآن الذي بين أيدينا ناقص. والقرآن مصون من الزيادة والنقصان إجماعًا، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر:9]، تكفَّل الله بحفظه، فصار محفوظًا إلى أن يُرفَع في آخر الزمان.

طالب: ما هي السبع؟

على الخلاف، منهم من يقول: إن الأحرف السبعة هي القراءات، لكن هذا ليس بوارد، غير صحيح. يعني في قراءات أقرها النبي -صلى الله عليه وسلم- في عصره لا توجد في مصحف عثمان، ومنهم من يقول: إن ما يحتمله الرسم وإن اختلف اللفظ هو من القراءات السبع، والأحرف السبع، يتقاربون فيما بينهم.

طالب: ...

هو الثلاثة، على كل حال، السبع التي لا خلاف فيها.

"وَمِثْلُهُ اخْتِلَافُ الْأَنْوَاعِ فِي صِفَةِ الْأَذَانِ، وَالْإِقَامَةِ، وَالِاسْتِفْتَاحِ، وَمَحَلِّ سُجُودِ السَّهْوِ، وَالتَّشَهُّدِ، وَصَلَاةِ الْخَوْفِ، وَتَكْبِيرَاتِ الْعِيدِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، مِمَّا قَدْ شُرِعَ جَمِيعُهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَنْوَاعِهِ أَرْجَحَ أَوْ أَفْضَلَ".

نعم، صفة الأذان، أذان عبد الله بن زيد، وأذان سعد القرض، وأذان أبي محذورة، كلها تختلف في بعض الجمل، لكنها كلها ثابتة وصحيحة، فمن أذَّن بهذا فقد أصاب، ومن أذَّن بهذا فقد أصاب. والأئمة الأربعة كلٌ يختار صيغة من صيغ الأذان التي أشير إليها، وإن كان البلد الواحد الماشي على مذهبٍ واحد، التشويش عليهم برواياتٍ أخرى، بحيث لا تحتمله عقول العامة، هذا مما لا ينبغي. لكن لو قُدِّر أن طلاب علم يعرفون هذه الأمور، واجتمعوا في مكانٍ وأذنوا على أذانٍ غير مألوف في بلدهم، ما فيه ما يمنع من ذلك؛ لزوال المفسدة.

في صيغة الأذان والإقامة والاستفتاح، دعاء الاستفتاح معروف، استفتاح ابن مسعود، واستفتاح ابن عباس، واستفتاح عُمَر، أنواع الاستفتاح المأثورة عنه -صلى الله عليه وسلم- التي صحَّت بها الأسانيد، لو استفتح مُصلٍ بهذا في هذه الصلاة، والصلاة الثانية استفتح بغيره، لا مانع؛ لأن الاختلاف اختلاف تنوُّع لا اختلاف تضاد، وكلها ثابتة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

ومحل سجود السهو، قبل السلام أو بعده، عند من يقول بالإطلاق، ومن يقول إن الزيادة بعد السلام والنقص قبل السلام، ومن يقول كله قبل السلام إلا في صورتين، الأمر في ذلك واسع.

طالب: الإقامة يا شيخ، لها أحكام الأذان؟

نعم، لها أحكام الأذان.

طالب: يُقال بعدها: ...؟

في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «بين كل أذانين صلاة»، مما يدلُّ على أن الإقامة أذان.

طالب: ...

لحظة، دعني أكمل.

على القول بهذا: «بين كل أذانين صلاة»، معناه: أن الإقامة أذان، فيثبُت لها جميع أحكام الأذان، لكن إذا قال المؤذن: "الله أكبر الله أكبر"، هو يشرح الأذان، لا يشرح الإقامة. في هذا الحديث يشرح الأذان، ولم يأتِ مثله في الإقامة. فالمُرجَّح عندي، وإن كان بعض العلماء أو كثيرٌ منهم يرون أنه يُردد وراء المُقيم ويُقال بعده ما يُقال، لكن كأن الحديث اختصاصه بالأذان لا بالإقامة.

وصلاة الخوف صحَّت على ستة أوجه أو سبعة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن لا تُفعَل على حدٍ سواءٍ، يعني: يُخيَّر الإنسان بينها في جميع الحالات، لا، إنما يفعل الصلاة المناسبة للحالة، وعلى الإمام أن يتحرى ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الحراسة.

تكبيرات العيد، المقصود بها بصلاة العيد؟ في الصلاة؟ أو التكبير الذي هو: الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثلاث أو ثنتين؟

طلاب: ...

نعم، لكن الصلاة، السبع والخمس، هذه ما فيها إشكال، صحَّت. وفيها خلاف، هل ثلاث وثلاث عند الحنفية، نقول: تنوُّع، نفعل ثلاثًا أو ثلاثًا في صلاة العيد، والحديث ضعيف؟

طالب: ...

لا، الكلام على احتساب تكبيرة الإحرام وعدم احتسابها، وتكبيرة الانتقال في الثانية وعدم احتسابها، هذا شيء. لكن الأصل: ست.. خمس وسبع، سبع وخمس، لكن ما يسري ذلك على القول الآخر المعمول به عند الحنفية أن ثلاثًا وثلاثًا هذه قبل القراءة، وهذه في الركعة الثانية بعد القراءة، هل نقول هذا من اختلاف التنوُّع؟ ما نفعل؛ لأن الخبر لا يثبُت.

"ثُمَّ تَجِدُ لِكَثِيرٍ مِنَ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ مَا أَوْجَبَ اقْتِتَالَ طَوَائِفَ مِنْهُمْ عَلَى شَفْعِ الْإِقَامَةِ وَإِيتَارِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ! وَهَذَا عَيْنُ الْمُحَرَّمِ. وَكَذَا تَجِدُ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْهَوَى لِأَحَدِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخَرِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ - مَا دَخَلَ بِهِ فِيمَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".

هذا هو الاختلاف المذموم، الذي يصل إلى القلوب، ويوغر الصدور، ويُفرِّقُ الناس شِيَعًا، هذا هو المذموم. أما من عمل بهذا ولم يُثرِّب على الآخر، إذا ثبت عنده الخبر، والآخر عمل بغيره مع عدم التثريب، هذا موجود عند الصحابة، ما وُجِد بينهم نزاع وشقاق. يعني وصل الأمر عند بعض المُتعصبة لما تشهَّد ورفع أصبعه هكذا، جاء واحدٌ من مُتعصبة المذهب الآخر وكسر الأصبع وهو في الصلاة! يعني مثل هذا يصلح؟! نسأل الله العافية، هذا المذموم.

"وَمِنْهُ مَا يَكُونُ كُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ هُوَ فِي الْمَعْنَى الْقَوْلَ الْآخَرَ، لَكِنِ الْعِبَارَتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، كَمَا قَدْ يَخْتَلِفُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي أَلْفَاظِ الْحُدُودِ، وَصوغ الْأَدِلَّةِ، وَالتَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ".

يعني في الحقائق العُرفيَّة، قد تختلف الحقيقة العُرفيَّة لهذه الكلمة من طائفة إلى أخرى، ويكون الاصطلاح الخاص يختلف من فن إلى فن، أو من جهة إلى جهة، فيختلفون واللفظ واحد، ويحصل بهذا، لا سيما عند العامة، اضطراب كبير بسبب اختلاف الحقائق العُرفيَّة. لكن الحقائق الشرعية -ولله الحمد- محفوظة، ولا تختلف، لكن قد يكون للفظ أكثر من حقيقة شرعية، كما قلنا ذلك مرارًا في لفظ: المُفْلِس، «أتدرون من المُفْلِس؟»، قالوا: من لا درهم له ولا متاع، قال: «لا، المُفْلِس من يأتي بأعمالٍ» وفي روايةٍ: «أمثال الجبال، ويأتي قد شتم هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته ...» إلى آخره. هذا مُفلِس حقيقة شرعية، أقره النبي -صلى الله عليه وسلم-، لكن ما رأيكم في باب الحجر والتفليس؟ ألا ينطبق عليه جواب الصحابة؟

طالب: بلى.

هذا مُفْلِس وهذا مُفْلِس، وكلاهما حقيقة شرعية. يعني لو جاء سؤال في الفقه، في باب الحجر والتفليس، ثمَّ قال الأستاذ: عَرِّف المُفْلِس؟ فقال الطالب: من يأتي بأعمالٍ من أمثال الجبال وقد ضرب هذا وشتم هذا ...! ما يكون الجواب؟ خطأ، كما خطَّأ النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: «لا»، الصحابة حينما أجابوا بالمعنى الآخر وهو حقيقةٌ شرعية، مثل هذا أمره واسع.

لكن هناك ألفاظ عُرفيَّة، ويجب على المُفتي أن يتحقق منها. سُئِل واحد من المشايخ عن حكم الزعابة، يمكن أكثركم لا يدرون ما الزعابة؟ تعرف الزعابة؟ ما هي؟ نحن عندنا الزعابة: استخراج الماء من البئر، فأجاب الشيخ إنها لا بأس بها. قال له السائل، الذي هو المذيع: يا شيخ، لو المسألة استخراج ماء من بئر، ما سأل السائل، لكن لابد أن نستثبت، فإذا به كما قال الشيخ، الذبح من الشرك الأكبر -نسأل الله العافية-؛ لأنها اختلفت من عُرف إلى عُرف، فمثل هذه الأمور لابد أن يكون المفتي على علمٍ بها. أقل الأحوال أن يوجد عنده شيء من الحذر والحيطة في مثل هذه الأمور؛ لأن السائل لم يسأل عن شيءٍ مُباح، ظاهر للناس كلها، فهذا يوجِد عنده وقفة يستثبت فيها من المُستفتي.

ما فيه مجاز في النصوص، لكنه مُفْلِس، خلّ المسألة، الخلاف في المجاز معروف، لكن قاله الشارع، ما تقول، وقال لهم: لا، المُفلِس كذا وكذا، ألا نجزم بأن له حقيقتين؟ وكلاهما شرعية؟ باعتبار أنها صدرت من الشرع.

طالب: على قوله: ما فيه مجاز ...

نحن ما نقول إن فيه مجازًا.

طالب: ...

هذا نطق به الشارع -صلى الله عليه وسلم-.

"ثُمَّ الْجَهْلُ أَوِ الظُّلْمُ يحْملُ عَلَى حَمْدِ إِحْدَى الْمَقَالَتَيْنِ وَذَمِّ الْأُخْرَى وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى قَائِلِهَا! وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَأَمَّا اخْتِلَافُ التَّضَادِّ، فَهُوَ الْقَوْلَانِ الْمُتَنَافِيَانِ، إِمَّا فِي الْأُصُولِ، وَإِمَّا فِي الْفُرُوعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْمُصِيبُ وَاحِدٌ. وَالْخَطْبُ فِي هَذَا أَشَدُّ".

لأن اختلاف التنوُّع أمره سهل، سواءٌ قلت بهذا أو قلت بذاك، كلاهما مُصيب، لكن القول باختلاف التضاد لابد أن تعتمد القول الصائب، ولا يجوز الجمع بينهما أو التخيير بينهما؛ لأن الثاني خطأ، إلا إذا اجتهد المُجتهد ولا وفِّق للصواب، وله أجرٌ على اجتهاده، ويُحرَم من أجر الإصابة.

"لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ يَتَنَافَيَانِ، لَكِنْ نَجِدُ كَثِيرًا مِنْ هَؤُلَاءِ قَدْ يَكُونُ الْقَوْلُ الْبَاطِلُ الَّذِي مَعَ مُنَازِعِهِ فِيهِ حَقٌّ مَا، أَوْ مَعَهُ دَلِيلٌ يَقْتَضِي حَقًّا مَا، فَيَرُدُّ الْحَقَّ مَعَ الْبَاطِلِ".

قد يكون القول المرجوح في هذه الصورة له حالٌ يُمكن حمله عليها، فردُّه جُملةً وتفصيلاً، ردٌ للحق في هذه الحال؛ لأنه قد يُقبَل القول في حال، ويُردُّ في بقية الأحوال، فرده مُطلقًا يقتضي رد الحق ولو في صورة من صوره.

"حَتَّى يَبْقَى هَذَا مُبْطِلًا فِي الْبَعْضِ، كَمَا كَانَ الْأَوَّلُ مُبْطِلًا فِي الْأَصْلِ، وَهَذَا يَجْرِي كَثِيرًا لِأَهْلِ السُّنَّةِ.

وَأَمَّا أَهْلُ الْبِدْعَةِ، فَالْأَمْرُ فِيهِمْ ظَاهِرٌ. وَمَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ هِدَايَةً وَنُورًا رَأَى مِنْ هَذَا مَا يُبَيِّنُ لَهُ مَنْفَعَةَ مَا جَاءَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنَ النَّهْيِ عَنْ هَذَا وَأَشْبَاهِهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْقُلُوبُ الصَّحِيحَةُ تُنْكِرُ هَذَا، لَكِنْ نُورٌ عَلَى نُورٍ.

وَالِاخْتِلَافُ الْأَوَّلُ، الَّذِي هُوَ اخْتِلَافُ التَّنَوُّعِ".

القلوب الصحيحة تُنكِر الباطل، هذا في الأصل، لكن إذا وُجِدَ مع ذلك الدليل الصحيح الصريح الذي يُمكن أن يُردُّ به قول الخصم، لا شك أنه نورٌ على نور.

"وَالِاخْتِلَافُ الْأَوَّلُ، الَّذِي هُوَ اخْتِلَافُ التَّنَوُّعِ، الذَّمُّ فِيهِ وَاقِعٌ عَلَى مَنْ بَغَى عَلَى الْآخَرِ فِيهِ. وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى حَمْدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ، إِذَا لَمْ يَحْصُلْ بَغْيٌ".

يعني: لو سَمِعَ شخصٌ آخر يصلي بجواره ويستفتح بسبحانك اللهم وبحمدك ... إلى آخره. قال: لا، وثرَّب عليه، وشدد عليه، قال حديث أبي هريرة في الصحيحين: «اللهمَّ باعد بيني وبين الخطايا ...»، وهذا مُختلفٌ في رفعه، وصارت قضية بينهم، ولم يقبل، وهجره من أجل ذلك، هذا المذموم؛ لأنه اختلاف تنوُّع، هذا يُقال في وقت، وهذا يُقال في وقت، ويُقال في صلاة الليل ما لا يُقال في صلاة النهار، وهكذا.

"كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة الحشر:5]. وَقَدْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ الْأَشْجَارِ، فَقَطَعَ قَوْمٌ، وَتَرَكَ آخَرُونَ".

كله بإذن الله، القطع والترك كله بإذن الله.

"وَكَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (*) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [سورة الْأَنْبِيَاءِ: 78-79] فَخَصَّ سُلَيْمَانَ بِالْفَهْمِ وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ.

وَكَمَا فِي إِقْرَارِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ لِمَنْ صَلَّى الْعَصْرَ فِي وَقْتِهَا، وَلِمَنْ أَخَّرَهَا إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ".

عندما أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بألَّا تُصلى العصر إلا في بني قُريظة، الصحابة بادروا إلى الامتثال، وانطلقوا إلى بني قريظة. فمنهم من صلى العصر في وقتها قبل غروب الشمس، فلاحظ الوقت، وأنه شرط لصحة الصلاة، لكن قبل بني قريظة. ومنهم من التزم الحرفية، حرفية النص ولم يصلِّ إلا في بني قريظة بعد خروج وقتها. أيهم المُصيب؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- ما ثرَّب لا على هؤلاء ولا على هؤلاء.

"وَكَمَا فِي قَوْلِهِ -صلى الله عليه وسلم-: «إِذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ». ونظائر ذلك وَالِاخْتِلَافُ الثَّانِي، هُوَ مَا حُمِدَ فِيهِ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَذُمَّتِ الْأُخْرَى".

هنا المحمودة هي التي عملت بالصواب، والمذمومة التي عملت بالقول الآخر، الذي هو الخطأ. لأنه اختلاف تنوُّع، واحد صواب وواحد خطأ، ما يُمكن العمل بالقولين، لكن مع ذلك من عملت بالصواب هي المحمودة، وهي المُثابة. والتي عملت بالخطأ إن كانت قلدت إمامًا مأجورًا على اجتهاده ولو لم يُصِب، برئت ذمتهم، إذا كان ممن تبرأ الذمة بتقليده. وأما إذا تعمدوا العمل بالخطأ مع علمهم به، أو المُجتهد الذي يستطيع أن يصل إلى القول الصواب ولم يجتهد، بل عمل به من غير نظر ولا اجتهاد، لا شك أن الذم متوجهٌ إليهم.

"كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [سورة الْبَقَرَةِ: 253]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [سورة الْحَجِّ: 19] الْآيَاتِ.

وَأَكْثَرُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي يَؤولُ إِلَى الْأَهْوَاءِ بَيْنَ الْأُمَّةِ - مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَكَذَلِكَ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ وَاسْتِبَاحَةِ الْأَمْوَالِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ؛ لِأَنَّ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَا تَعْتَرِفُ لِلْأُخْرَى بِمَا مَعَهَا مِنَ الْحَقِّ، وَلَا تُنْصِفُهَا، بَلْ تَزِيدُ عَلَى مَا مَعَ نَفْسِهَا مِنَ الْحَقِّ زِيَادَاتٍ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْأُخْرَى كَذَلِكَ. وَلِذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ مَصْدَرَهُ الْبَغْيَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [سورة الْبَقَرَةِ: 213]؛ لِأَنَّ الْبَغْيَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَذُكِرَ هَذَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنَ الْقُرْآنِ لِيَكُونَ عِبْرَةً لِهَذِهِ الْأُمَّةِ".

وهذا موجود بين مُتعصبة المذاهب، الذين يحملهم الجهل مع التعصُّب لمتبوعهم، إلى أن يحصل منهم البغي والعدوان. وكثيرًا ما نقرأ من القصَص في التاريخ أنه حصل شجار، بل حصل ما هو أعظم من ذلك بين أتباع فلان وأتباع فلان من الأئمة، وهذا يذكره المؤرخون، ووجوده لا يعني أنه ظاهرة بحيث يكون كثيرًا غالبًا في المذاهب، لا، لكن العقول تختلف، والجهل يتفاوت، وحب الإنسان لمتبوعه أيضًا يتفاوت، فمنهم من يحبه حبًّا يبلغ به إلى أن يُقدمه على النص، بحيث إنه لو قيل له: الدليل كذا، قال له مع محبته لمتبوعه وعدم انقياده للنص؛ بسبب هذا الغلو، قال: لست بأعرف من فلان، لو كان النص ثابتًا عنده لقال به. مع أن النص يُبيَّن له أنه صحيح، مُخرَّج في الصحيح، ثمَّ بعد ذلك يقول: ولو. المشكلة أن هذا موجود عند بعض أنصاف المُتعلمين، تأتي له بالدليل، يقول: ولو. الإمام أحمد أعرف منك، مالك أدرى منك، وهكذا. المسألة إذا بُيّن الدليل الصحيح الصريح، أقل الأحوال أن لا تُسارع في الإنكار والذم وتعتدي وتبغي، انتظر واسأل من هو أعلم منك وتثبَّت؛ لأنه قد يكون النص مع صحته وصراحته، قد يكون منسوخًا، وقد يكون مُخصصًا، وقد يكون مُقيدًا، إلى غير ذلك من الأجوبة التي يجاوب بها عن أهل العلم.

طالب: ...

فيه نوع من ذلك.

طالب: ...

المقصود إنه فيه منه شيء؛ لأن اختلاف التنوُّع مع جواز الأمرين، هذا لابد أن يحملك على أن تقول بما قال به. إذا ما قَبِلت، حصل النزاع والشقاق، واتسعت الهوة، والتزم بلوازم غير لازمة، وهذه طريقة نشوء البدع. نشوء البدع إنما يكون بالخلاف، والأتباع هم الذين يستوشون هذا الخلاف، ثمَّ يأتي متابع لهذا الإمام أو لهذا القائل بهذا القول،... خلها على أنواع، أو المُبتدع يورد عليه الدليل ويردُّ الدليل بتأويلٍ غير سائغ، ثمَّ بعد ذلك يُلزَم بلوازم، ثمَّ يلتزم بهذه اللوازم؛ تعصبًا لرأيه أو لمتبوعه، ثمَّ يحصل ما يحصل، هذا كثير.

"وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ مَا خَرَّجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ». فَأَمَرَهُمْ بِالْإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُؤْمَرُوا بِهِ، مُعَلِّلًا بِأَنَّ سَبَبَ هَلَاكِ الْأَوَّلِينَ إِنَّمَا كَانَ كَثْرَةَ السُّؤَالِ ثُمَّ الِاخْتِلَافَ عَلَى الرُّسُلِ بِالْمَعْصِيَةِ.

ثُمَّ الِاخْتِلَاف فِي الْكِتَابِ مِنَ الَّذِينَ يُقِرُّونَ بِهِ عَلَى نَوْعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: اخْتِلَافٌ فِي تَنْزِيلِهِ.

وَالثَّانِي: اخْتِلَافٌ فِي تَأْوِيلِهِ. وَكِلَاهُمَا فِيهِ إِيمَانٌ بِبَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ.

فَالْأَوَّلُ كَاخْتِلَافِهِمْ فِي تَكَلُّمِ اللَّهِ بِالْقُرْآنِ وَتَنْزِيلِهِ، فَطَائِفَةٌ قَالَتْ: هَذَا الْكَلَامُ حَصَلَ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، لَكَنِهِ مَخْلُوقًا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقُمْ بِهِ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: بَلْ هُوَ صِفَةٌ لَهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، لَكِنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ. وَكُلٌّ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ جَمَعَتْ فِي كَلَامِهَا بَيْنَ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَآمَنَتْ بِبَعْضِ الْحَقِّ، وَكَذَّبَتْ بِمَا تَقُولُهُ الْأُخْرَى مِنَ الْحَقِّ".

الطائفة الأولى قالت: هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته، هذا حق. لكنه مخلوقٌ في غيره لم يقم به، هذا باطل بلا شك.

الطائفة الثانية قالت: بل هو صفةٌ له، قائمٌ بذاته، ليس بمخلوق، لكنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، يعني الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة، من هذا النوع. فهؤلاء عندهم نوع حق وعندهم باطل، وهؤلاء عندهم نوع حق وعندهم باطل، ولكن أيهما أقرب؟ الأشاعرة أقرب من المعتزلة، وإن كان في النهاية يتقارب القولان.

"وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ.

وَأَمَّا الِاخْتِلَافُ فِي تَأْوِيلِهِ، الَّذِي يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، فَكَثِيرٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُمْ يَخْتَصِمُونَ فِي الْقَدَر، هَذَا يَنْزِعُ بِآيَةٍ وَهَذَا يَنْزِعُ بِآيَةٍ، فَكَأَنَّمَا فُقِئَ فِي وَجْهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ، فَقَالَ: «أَبِهَذَا أُمِرْتُمْ؟ أَمْ بِهَذَا وُكلْتُمْ أَنْ تَضْرِبُوا كِتَابَ اللَّهِ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ؟ انْظُرُوا مَا أُمِرْتُمْ بِهِ فَاتَّبِعُوهُ، وَمَا نُهِيتُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا». وَفِي رِوَايَةٍ: «يَا قَوْمُ بِهَذَا ضَلَّتِ الْأُمَمُ قَبْلَكُمْ، بِاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ وَضَرْبِهِمِ الْكِتَابَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَمْ يَنْزِلْ لِتَضْرِبُوا بَعْضَهُ بِبَعْضٍ، وَلَكِنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، مَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا تَشَابَهَ فَآمِنُوا بِهِ»".

النصوص يأتي منها ما يتمسك به مُبتدع في طرف، ويأتي منها ما يتمسك به المُبتدع في الطرف الآخر، فمن استمسك بالطرف الأول وضرب به دليل الطرف الثاني، والعكس، هؤلاء ضربوا بعض الكتاب ببعض. ولكن الذي وفَّق، وهي طريقة أهل السُّنَّة والجماعة للتوفيق بين هذه النصوص، وعملوا بهذا وعملوا بهذا، ووفقوا بينها، فوُّفِقوا للقول الصائب. كما ذُكِر مرارًا، وذكره شيخ الإسلام في (الواسطية) عن أهل السُّنَّة أنهم وسط بين الطوائف، فمثلاً: هم وسطٌ بين الخوارج والمُرجئة. الخوارج تمسكوا بأدلة من القرآن، وتركوا أدلةً أخرى تمسك بها قومٌ آخرون، وتركوا أدلتهم. وأهل السُّنَّة وفِّقوا ووفَّقوا بين أدلة الفريقين، وخرجوا بالقول الصائب فهم وسطٌ بين الطوائف كلها، كما أن المسلمين وسطٌ بين الملل كلها.

طالب: ...

لكن الفهوم تختلف، من حيث المعنى، يضرب  معنى الآية بمعنىً آخر.

طالب: مذموم هذا؟

نعم، مذموم. إلا إذا كان اللفظ مُحتملًا، يعني مثل حديث: «وعرفة كلها موقف، وارفعوا عن بطن عُرنة»، هذا يستدلُّ به من يقول إن عُرنة ليست من الموقف، وهم الجمهور. وقال آخرون: إنها من الموقف، ويصحُّ الوقوف فيها، مع التحريم. ولولا أنه يصح ما جاء الاستثناء، ما جاء الاستثناء، يعني ما استثنى مزدلفة ولا استثنى منى ولا استثنى ...، إنما استثناها؛ لأنها من الموقف لكن مع الإثم. هذا فهم وهذا فهم، وهذا اجتهاد وهذا اجتهاد، لكن لا شك أن أحدهما صواب، والثاني خطأ، والثاني من يرتكبه باجتهاد معذور باجتهاد.

"وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنَّ الْأُمَمَ قَبْلَكُمْ لَمْ يُلْعَنُوا حَتَّى اخْتَلَفُوا، وَإِنَّ الْمِرَاءَ فِي الْقُرْآنِ كُفْرٌ». وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، مُخَرَّجٌ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ.

وَقَدْ رَوَى أَصْلَ الْحَدِيثِ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: هَجَّرْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا، فَسَمِعَ أَصْوَاتَ رَجُلَيْنِ اخْتَلَفَا فِي آيَةٍ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعْرَفُ فِي وَجْهِهِ الْغَضَبُ، فَقَالَ: «إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِاخْتِلَافِهِمْ فِي الْكِتَابِ»".

ونسمع كثيرًا بين الصحفيين، ومن يخرجون يفتون في القنوات ويُفسرون القرآن، من هذا نوع كثير، يأتون بالجديد الذي لا أصل له، ولا مُستند له، ويأتي من قوم لا يأوون إلى علم ولا إلى رأي، ومع ذلك الأمور مُتاحة لكل أحد.

"وَجَمِيعُ أَهْلِ الْبِدَعِ مُخْتَلِفُونَ فِي تَأْوِيلِهِ، مُؤْمِنُونَ بِبَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ، يُقِرُّونَ بِمَا يُوَافِقُ رَأْيَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ، وَمَا يُخَالِفُهُ: إِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلُوهُ تَأْوِيلًا يُحَرِّفُونَ فِيهِ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَقُولُوا: هَذَا مُتَشَابِهٌ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ مَعْنَاهُ، فَيَجْحَدُونَ مَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ مِنْ مَعَانِيهِ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْكُفْرِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاللَّفْظِ بِلَا مَعْنًى هُوَ مِنْ جِنْسِ إِيمَانِ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [سورة الْجُمُعَةِ: 5]".

وليس من هذا النوع المُتشابه الذي أُمرنا بالكف عن الخوض في تأويله ومعانيه، نقول: آمنا. لكنهم أدخلوا في المُتشابه ما ليس منه، فجعلوا نصوص الصفات من المُتشابه، وعلى هذا فإما أن يفوِّضوا ويصيروا مفوّضة، ويقولون: إن هذه ألفاظ أو كلمات وحروف لا معاني لها، نثبتها كما جاءت، لكن ليس لها معنى. بخلاف طريقة السلف الذين يُثبتون ما أثبته الله لنفسه من غير تأويل ولا تشبيه، إلى آخره، لكنهم يعتقدون أن لها معاني، الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة.

"وَقَالَ تَعَالَى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [سورة الْبَقَرَةِ: 78] أَيْ: إِلَّا تِلَاوَةً مِنْ غَيْرِ فَهْمِ مَعْنَاهُ. وَلَيْسَ هَذَا كَالْمُؤْمِنِ الَّذِي فَهِمَ مَا فَهِمَ مِنَ الْقُرْآنِ فَعَمِلَ بِهِ، وَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ بَعْضُهُ فَوَكَلَ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ، كَمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: «فَمَا عَرَفْتُمْ مِنْهُ فَاعْمَلُوا بِهِ، وَمَا جَهِلْتُمْ مِنْهُ فَرُدُّوهُ إِلَى عَالِمِهِ»، فَامْتَثَلَ مَا أَمَرَ بِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

قَوْلُهُ: (وَدِينُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَاحِدٌ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [سورة آلِ عِمْرَانَ: 19]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [سورة الْمَائِدَةِ: 3].

وَهُوَ بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ، وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ، وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، وَبَيْنَ الْأَمْنِ وَالْإِيَاسِ).

ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ دِينُنَا وَاحِدٌ»".

في روايةٍ: «الأنبياء أولاد علات»، يعني: أمهات مختلفة، والأب واحد.

"وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [سورة آلِ عِمْرَانَ: 85] - عَامٌّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَلَكِنَّ الشَّرَائِعَ تَتَنَوَّعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [سورة الْمَائِدَةِ: 48]".

قال ابن عباس، كما في البخاري: "سبيلاً وسُنَّة" في تفسير الآية. فالشِّرعة: السُّنَّة، والمنهاج: السبيل، من باب اللف والنشر غير المُرتب، الذي يُسميه بعضهم المشوَّش.

"فَدِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعِبَادِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ، وَأُصُولُ هَذَا الدِّينِ وَفُرُوعُهُ مَوْرُوثَةٌ عَنِ الرُّسُلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ غَايَةَ الظُّهُورِ، يُمْكِنُ كُلُّ مُمَيِّزٍ مِنْ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، وَفَصِيحٍ وَأَعْجَم، وَذَكِيٍّ وَبَلِيدٍ - أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ بِأَقْصَرِ زَمَانٍ، وَإِنَّهُ يَقَعُ الْخُرُوجُ مِنْهُ بِأَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ، مِنْ إِنْكَارِ كَلِمَةٍ، أَوْ تَكْذِيبٍ، أَوْ مُعَارَضَةٍ، أَوْ كَذِبٍ عَلَى اللَّهِ، أَوِ ارْتِيَابٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ رَدٍّ لِمَا أَنْزَلَ، أَوْ شَكٍّ فِيمَا نَفَى اللَّهُ عَنْهُ الشَّكَّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا فِي مَعْنَاهُ".

{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [سورة البقرة:2]، {لاَ رَيْبَ فِيهِ}: لا شك فيه. وبعض من يكتب من المُبتدعة، أو من العقلانيين وهم مُبتدعة، يُشكك في بعض النصوص من القرآن، ولا يرى أي مانع ولا تردد عنده في أن ينتقد الكتاب، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [سورة النساء:82]، حتى إن بعضهم أثبت الاختلاف. فتبعًا لذلك ظهرت النتيجة أنه من عند غير الله؛ لأنه أثبت الاختلاف على حد رأيه، وهذا الاختلاف ما خفي على أهل العلم، لكنهم أزالوا هذا الاختلاف بأنواع الجموع المعروفة عند أهل العلم. لكن هذا خالي الذهن، بسرعة رأى أن هذا يُخالف هذا، فظهرت عنده النتيجة أنه من عند غير الله. وهذا كله من فتح باب النظر المُطلق المُرسل فيما سُدَّ فيه النظر، إلا عن طريق محمد -صلى الله عليه وسلم-، يأتي وقد تلقى ثقافته من الغرب والشرق، ثمَّ ينظر في كتاب الله، ثمَّ يقول: لنا عقول ننظر! ما دام هذا الاختلاف موجودًا، والله يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً} [سورة النساء:82]، إذًا الاختلاف موجود، النتيجة أنه من عند غير الله! والله المُستعان. وأمثال هؤلاء موجودون، ونسمع ونقرأ، نسأل الله العافية، نسأل الله الثبات.

وفي هذه الأيام كَثُرَت الزلات ووصلت إلى أمور تُخرج من دين الله، بأنواع الإلحاد، وكَثُر من يخرج من دين الإسلام. ما هي بالكثرة الظاهرة، لكنهم موجودون ويكتبون فيما بيننا، ووسائل الاتصال هذه لهم فيها صولة وجولة. ومع ذلك أبو بكر -رضي الله عنه- في زمن الردة، لما ارتد بعض الناس عن دين الله، قنت في صلاة المغرب بقوله -جلَّ وعلا-: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [سورة آل عمران:8]، هذا زيغ، نسأل الله العافية ونسأل الله الثبات.

"فَقَدْ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى ظُهُورِ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَسُهُولَةِ تَعَلُّمِهِ، وَأَنَّهُ يَتَعَلَّمُهُ الْوَافِدُ ثُمَّ يُوَلِّي فِي وَقْتِهِ".

يأتي ويصلي مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فرضًا واحدًا أو فرضين، أو يجلس يومًا أو يومين، وينصرف إلى قومه، يُعلمهم ما تعلَّم من النبي -صلى الله عليه وسلم-.

"وَاخْتِلَافُ تَعْلِيمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ بِحَسَبِ مَنْ يَتَعَلَّمُ، فَإِنْ كَانَ بَعِيدَ الْوَطَنِ، كَضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ والنَّجْدِيِّ، وَوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، عَلَّمَهُمْ مَا لَا يَسَعُهُمْ جَهْلُهُ، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ دِينَهُ سَيَنْتَشِرُ فِي الْآفَاقِ، وَيُرْسِلُ إِلَيْهِمْ مَنْ يُفَقِّهُهُمْ فِي سَائِرِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، وَمَنْ كَانَ قَرِيبَ الْوَطَنِ يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ كُلَّ وَقْتٍ، بِحَيْثُ يَتَعَلَّمُ عَلَى التَّدْرِيجِ، أَوْ كَانَ قَدْ عَلِمَ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ عَرَفَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ - أَجَابَهُ بِحَسَبِ حَالِهِ وَحَاجَتِهِ عَلَى مَا تَدُلُّ قَرِينَةُ حَالِ السَّائِلِ، كَقَوْلِهِ: «قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ»".

النبي -صلى الله عليه وسلم- لنصحه وتمام نصحه لأمته، مع شدة حرصه على تبليغ ما أُنزل إليه، حصلت مثل هذه الأمور فبلغت القاصي والداني، الذي يأتي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يُعلمه بأبلغ أسلوب وأقصر عبارة، والظرف مناسب ويُساعد؛ لأنهم عرب يفهمون ما يُلقى إليهم، والمُتلقي والمسلم الجديد من حرصه ودخوله في الإسلام دخولاً قويًّا بقوة، يأتي ليتعلَّم. بخلاف حال كثير من المسلمين في بعض الأقطار الإسلامية، تجده خالي الذهن من أي شيءٍ يتعلَّق بالدين. مسألة اجتمع فيها تقصير ممن أُمِرَ بتعليم أمثال هؤلاء، وهؤلاء لا يرفعون به رأسًا. اهتموا بأمور دنياهم، ولا يهمهم أن يتعلموا من دينهم شيئًا ولا يتعلموا. فاجتمع الأمران، فحصل الجهل المُطبق، ونسمع بعض الأمور من جهاتٍ قريبة، ليست بعيدة، سمعنا عمن يُصلي على جنازة كصلاة الصبح، يركع ويسجد، في بلدانٍ قريبة، يعني: أمور مرئية، مُتلقاة بالعمل والتوارث، كلٌّ يرى الناس يصلون على الجنائز، لكن هذا سببه تقصير من يقوم بهذه المهمة من جهة، وتقصيرهم أيضًا في تعلُّم أحكام دينهم، التي أوجبها الله عليهم.

"وَأَمَّا مَنْ شَرَّعَ دِينًا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ أُصُولَهُ الْمُسْتَلْزِمَةَ لَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَنْقُولَةً عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ هُوَ بَاطِلٌ، وَمَلْزُومُ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ، كَمَا أَنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ.

وَقَوْلُهُ: "بَيْنَ الْغُلُوِّ وَالتَّقْصِيرِ" قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [سورة الْمَائِدَةِ: 77]".

وقد غلا أهل الكتاب في دينهم وألَّهوا بعض أنبيائهم، وجاء نهينا أن نفعل ما فعلته النصارى، كغلوهم في عيسى، وفعل بعض من ينتسب إلى الإسلام مثلما فعله النصارى في عيسى، وغالوا في النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعضهم غلا في عبادته، حتى خرج بها عن روحها الشرعية إلى حدٍّ قد يُخرجه منها. يعني: روح الشريعة والعمل المطابق لفعله -صلى الله عليه وسلم-، غلوًا فيه وزادوا أو نقصوا، غلوا من باب الإفراط أو التفريط، وهذا كله موجود مع الأسف، «إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو».

طالب: أحسن الله إليك، يا شيخ، "ملزوم الباطل باطل، كَمَا أَنَّ لَازِمَ الْحَقِّ حَقٌّ" ما الفرق بين الملزوم واللازم؟

هو هو، يعني ما يلزم منه.

"وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (*) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [سورة الْمَائِدَةِ: 87-88].

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَأَلُوا أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ".

مع أنهم رأوه -صلى الله عليه وسلم- يأكل اللحم، ورأوه -صلى الله عليه وسلم- يتزوج النساء، ورأوه ينام، كل هذا رأوه، لكن هم تقالّوا عمله باعتبار أنه مغفورٌ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر، فيحتاجون إلى أن يزيدوا على عمله -صلى الله عليه وسلم- ليصلوا إلى مرتبة المغفرة، لكنهم اخطؤوا في ذلك، وثرَّب عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وبيَّن لهم ما كان عليه -صلى الله عليه وسلم-، «لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رَغِبَ عن سُنتي فليس مني».

"وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ كَذَا وَكَذَا؟! لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَنَامُ وَأَقُومُ، وَآكُلُ اللَّحْمَ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي». وَفِي غَيْرِ الصَّحِيحَيْنِ: سَأَلُوا عَنْ عِبَادَتِهِ فِي السِّرِّ، فَكَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا.

وَذُكِرَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ، وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأَسْوَدِ، وَسَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، فِي أَصْحَابِهِ-  تَبَتَّلُوا، فَجَلَسُوا فِي الْبُيُوتِ، وَاعْتَزَلُوا النِّسَاءَ، وَلَبِسُوا الْمُسُوحَ، وَحَرَّمُوا طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، إِلَّا مَا يَأْكُلُ وَيَلْبَسُ أَهْلُ السِّيَاحَةِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهَمُّوا بِالِاخْتِصَاءِ، وَأَجْمَعُوا لِقِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، فَنَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [سورة الْمَائِدَةِ: 87]، يَقُولُ: لَا تَسِيرُوا بِغَيْرِ سُنَّةِ الْمُسْلِمِينَ، يُرِيدُ مَا حَرَّمُوا مِنَ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ، وَمَا أَجْمَعُوا لَهُ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَصِيَامِ النَّهَارِ، وَمَا هَمُّوا بِهِ مِنَ الِاخْتِصَاءِ، فنَزَلَتْ فِيهِمْ، فبَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: «إِنَّ لِأَنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، وَإِنَّ لِأَعْيُنِكُمْ حَقًّا، صُومُوا وَأَفْطِرُوا، وَصَلُّوا وَنَامُوا، فَلَيْسَ مِنَّا مَنْ تَرَكَ سُنَّتَنَا»، فَقَالُوا: اللَّهُمَّ سَلَّمْنَا وَاتَّبَعْنَا مَا أَنْزَلْتَ".

المؤلف -رحمه الله-، الشارح يقول: ذُكِرَ في سبب النزول، وهذا السبب مذكور عند الطبري وغيره، لكنه مُرسل.

""وَقَوْلُهُ: "وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ"  تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُحِبُّ أَنْ يُوصَفَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ، فَلَا يُقَالُ: سَمْعٌ كَسَمْعِنَا، وَلَا بَصَرٌ كَبَصَرِنَا".

يُحِب أم يَجِب؟

طالب: عندي: "يُحِب"، وفي الحاشية: "يَجِب".

يظهر أنها "يَجِب"، هو يُحِب بلا شك، لكن هذا الحب يقصُر عن الوجوب؟ لا، بل من أوجب الواجبات.

"وَقَوْلُهُ: "وَبَيْنَ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ" - تَقَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يجبُّ أَنْ يُوصَفَ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ، فَلَا يُقَالُ: سَمْعٌ كَسَمْعِنَا، وَلَا بَصَرٌ كَبَصَرِنَا، وَنَحْوُهُ، وَمِنْ غَيْرِ تَعْطِيلٍ، فَلَا يُنْفَى عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ، أَوْ وَصَفَهُ بِهِ أَعْرَفُ النَّاسِ بِهِ: رَسُولُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَإِنَّ ذَلِكَ تَعْطِيلٌ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي هَذَا الْمَعْنَى".

هذه طريقة أهل السُّنَّة والجماعة، وأنهم وسطٌ بين المُعطلة والمُشبهة، المُعطلة من الجهمية وغيرهم، والمُشبهة الذين شبهوا الله بخلقه.

"وَنَظِيرُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ فيما تقدَّم: "وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ، زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ". وَهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [سورة الشُّورَى: 11]. فَقَوْلُهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} - رَدٌّ عَلَى الْمُشَبِّهَةِ، وَقَوْلُهُ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} - رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ.

وَقَوْلُهُ: "وَبَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ" تَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ حَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ وَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ بِالرِّيَاحِ وَغَيْرِهَا، وَلَيْسَتْ مَخْلُوقَةً لِلْعَبْدِ، بَلْ هِيَ فِعْلُ الْعَبْدِ وَكَسْبُهُ وَخَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى".

يعني: وسط أهل السُّنَّة والجماعة، وسطٌ بين الجبرية والقدرية. الجبرية الذين ينفون عن العبد المشيئة والإرادة، والقدرية الذين يثبتون له مشيئة وإرادة مُستقلة، لا ارتباط لها بمشيئة الله ولا قدرته. وأهل السُّنَّة يرون أن للعبد مشيئة واختيارًا وحرية وإرادة، لكنها تابعة لإرادة الله ومشيئته.

"وَقَوْلُهُ: "وَبَيْنَ الْأَمْنِ وَالْإِيَاسِ" تَقَدَّمَ الْكَلَامُ أَيْضًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ خَائِفًا مِنْ عَذَابِ رَبِّهِ، رَاجِيًا رَحْمَتَهُ، وَأَنَّ الْخَوْفَ وَالرَّجَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْجَنَاحَيْنِ لِلْعَبْدِ، فِي سَيْرِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ".

اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد.

"