كتاب الوضوء (41)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،
فيقول الإمام البخاري -رحمة الله عليه-: حدثنا أحمد بن محمد، قُرئ الحديث؟
طالب:...
حدثنا أحمد بن محمد" المروزي المعروف بمردويه، "قال: أخبرنا عبد الله" هو ابن المبارك مروزي أيضًا، "قال: أخبرنا معمر" بن راشد "عن همام" بن منبه، "عن أبي هريرة عن النبي– صلى الله عليه وسلم- قال: «كل كَلمٍ»" يعني جرح، الكَلم الجرح، «يُكلمه المسلم في سبيل الله» يعني يجرحه في سبيل الله ولإعلاء كلمته، وسبيل الله يعمّ كل ما يقرِّب إلى الله، ولكنه في آية مصارف الزكاة المراد به الجهاد، يكلمه في سبيل الله يعني لو جُرح إنسان وهو في طريقه إلى شيء يتقرب به إلى الله، وجاء صيام يومٍ في سبيل الله، أو «من صام يومًا في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفًا» في سبيل الله، هل المراد به الجهاد؟ أو ما هو أعمّ من ذلك مما يتقرب به إلى الله؟
البخاري ذكر الحديث في كتاب الجهاد، مما يدل على أنه يرى أن سبيل الله في الحديث يراد به الجهاد، وسبيل الله في آية المصارف مصارف الزكاة عامة، أهل العلم على أن المراد به الجهاد، المراد به الغزاة المجاهدون في سبيل الله ولإعلاء كلمة الله، وهذا من هذا النوع يمكن أن يرى بعضهم العموم، والأصل في سبيل الله أنه الإطلاق العرفي الشرعي المراد به سبيل الله يعني الجهاد، وجاء الحج في سبيل الله، ولذا أجاز بعضهم أن تصرف الزكاة لمن يريد الحج، ولكن جماهير أهل العلم على أن المراد في سبيل الله الجهاد، وذهب بعضهم إلى ما هو أعم من ذلك، ورأى أن الزكاة تصرف للدعوة إلى الله؛ لأنها في سبيل الله، ولتعليم العلم الشرعي؛ لأنه في سبيل الله، وإذا فتح الباب واستُعمِلَ العموم بهذه الطريقة ما انضبط الأمر، وضُيِّق على سبيل الله الأصلي الذي هو الجهاد في سبيل الله، وجاء في حديث في سنن أبي داود: «الحج في سبيل الله»، ولذا رأى بعضهم أنه يصرف له من الزكاة ما يحجُّ به حج الفريضة، ولكن عامة أهل العلم لا يرون ذلك؛ لأنهم يرون أن في سبيل الله المنصوص عليه في آية المصارف خاص بالجهاد وقالوا: هم الغزاة في سبيل الله، والمسألة طويلة، وتحتاج إلى شيء من التفصيل ولكن ليس هذا محلها.
كل كَلمٍ- جرح- يُكلَمه يعني يجرحه مسلم في سبيل الله تكون الجرحة والكَلْمَة تكون في سبيل الله تكون يوم القيامة يعني في يوم القيامة «كهيئتها إذ طُعِنَت تفجَّرُ دمًا» تنبعث من جديد، تنبعث من جديد، «تكون يوم القيامة كهيئتها كصفتها إذ طُعنت تفجَّر دمًا، اللون لون الدم والعَرف عرف المسك» اللون لون الدم أحمر، والعَرف يعني الرائحة رائحة المسك، وهو من أطيب أنواع الطِيب، واللون لون الدم لون الدم في يوم القيامة، والدم الدم لونه ومَرْآهُ مكروه في عرف الناس، لكن الحكمة في كونه على لونه وهيئته ليتذكر به المكلوم السبب، ويلقى جزاؤه بالرائحة الطيبة والجارح يعرف من ذنبه ما يؤنبه عليه ويعذَّبُ عليه؛ لأنه إذا رآه فكيف يعتذر؟
قد يقول: أنا ما جرحته، ولو كان اللون لون المسك والرائحة رائحة المسك يقول: أنا ما أسأت إليه أنا أحسنت إليه أنا أحسنت إليه، فهذا هو السبب في كون لونه لون الدم، والعرف عرف المسك ليعرف أن هذا الدم الذي خرج من بدنه وإن كان لونه مما تنفر عنه الطباع إلا أن الرائحة رائحة المسك تعطيه شيئًا من الطمأنينة وشيئًا من مقدمات جزائه، وإلا فثوابه وجزاؤه عند الله -جل وعلا- عظيم.
نعم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله.
المناسبة من هذا الحديث للباب الذي تقدَّم ما يقع من النجاسات في السمن والماء، وذكر أشياء حكم عليها بالطهارة، وذكر حديث الباب الذي هو الجرح الذي يثعب دمًا ليستدل به على طهارة الدم، لكن الاستدلال بذلك لا يتمّ إلا لو كان الحاصل في دار الابتلاء في الدنيا ما هو في دار الجزاء.
وعلى كل حال أبدى بعضهم مناسبات بعضها قريب، وبعضها بعيد، سيذكرها الشارح إن شاء الله تعالى.
"قال الإمام الحافظ -رحمه الله تعالى-: " قوله: (حدثنا أحمد بن محمد) أي ابن أبي موسى المروزي المعروف بمردويه، وعبد الله هو ابن المبارك، قوله: (كل كَلْم) بفتح الكاف وإسكان اللام (يُكْلَمه) بضم أوله وإسكان الكاف وفتح اللام أي كل جرح يجرحه. قوله: (في سبيل الله) قيدٌ يخرج ما يصيب المسلم من الجراحات في غير سبيل الله، وزاد في الجهاد من طريق الأعرج عن أبي هريرة -رضي الله عنه-: «والله أعلم بمن يكلم في سبيله»، وفيه إشارة إلى أن ذلك إنما يحصل لمن خلصت نيته".
نعم، أما من ساءت نيته وقصد بجهاده الدنيا أو ليقال: شجاع، فإن هذا يعذَّب ويُعاقَب على جهاده، وأول من تُسَعَّرُ بهم النار ثلاثة منهم من يُقتَل في سبيل الله، فيُجاء به ويُقَال له: ماذا صنعت؟ فيقول: قاتلت في سبيلك حتى قُتلت، فيقال له: كذبت إنما قاتلت ليقال: شجاع وقد قيل، فيُجر على وجهه إلى جهنم، فالذي لا يخلص في هذه كالذي لا يخلص في علمه وتعليمه، وكالذي لا يخلص في نفقته، وإنفاقه ويدعي أنه ينفق في سبيل الله ولله ولوجه الله، ولذلك قال: «الله أعلم بمن يُكَلم في سبيله»؛ لأن النية لا يطلع عليها إلا الله -جل وعلا- لا يطلع على ما في القلوب إلا علام الغيوب، الناس شهدوا لمن رأوا منه الشجاعة والغَناء في الجهاد شهدوا له بأنه أبلى بلاءً حسنًا وهم لا يعرفون نيته، ولا قصده، ولذلك قال النبي -عليه الصلاة والسلام- «هو في النار»، بوحي وإلا فالرسول -عليه الصلاة والسلام- لا يعلم ما في الغيب.
"قوله: (تكون كهيئتها) أعاد الضمير مؤنثًا لإرادة الجراحة، ويوضحه رواية القابسي عن أبي زيد المروزي عن الفِرَبْرَي: «كل كَلْمَةٍ يُكْلَمُهَا»، وكذا هو في رواية ابن عساكر. قوله: (تفجَّر) بفتح الجيم المشددة".
«كل كَلْمَةٍ يُكْلَمُهَا» في الحديث حديث الباب: «كل كَلْمٍ يُكْلَمُه في سبيل الله تكون يوم القيامة كهيئتها» كأنها جاءت في سياق «كل كَلْمَةٍ يُكْلَمُهَا» لذلك قال: كهيئتها.
"قوله: (تفجَّر) بفتح الجيم المشددة، وحذف التاء الأولى؛ إذ أصله تتفجر. قوله: (والعَرْف) بفتح المهملة وسكون الراء: الريح، والحكمة في كون الدم يأتي يوم القيامة على هيئته أنه يشهد لصاحبه بفضله، وعلى ظالمه بفعله، وفائدة رائحته الطيبة أن تنتشر في أهل الموقف إظهارًا لفضيلته أيضًا، ومن ثم لم يشرع غسل الشهيد في المعركة. وقد استشكل إيراد المصنف لهذا الحديث في هذا الباب فقال الإسماعيلي: هذا الحديث لا يدخل في طهارة الدم ولا نجاسته، وإنما ورد في فضل المطعون في سبيل الله. وأُجيب بأن مقصود المصنف بإيراده تأكيد مذهبه في أن الماء لا يتنجس بمجرد الملاقاة ما لم يتغير، فاستدل بهذا الحديث على أن تبدل الصفة يؤثر في الموصوف، فكما أن تغير صفة الدم بالرائحة الطيبة، أخرجه من الذم إلى المدح".
ومعلوم أن الصفات المؤثرة ثلاث: اللون والطعم والريح، فانتفت صفة، هل يرتفع الحكم؟ لو أن ماءً تغيرت صفاته الثلاث بنجاسة، ثم ارتفعت صفة هل ينتقل إلى الطهارة؟ أو لا بد من انتقال الصفات الثلاث؟ لا بد، لو بقيت واحدة أثرت، وهنا يقول: واستدل بالحديث وأجيب أن المقصود إيراده بإيراده تأكيد مذهبه في أن الماء لا يتنجس بمجرد ملاقاته ما لم يتغير، فاستدل بهذا الحديث على أن تبدل الصفة يؤثر في الموصوف، هنا تأثر تغيرت الرائحة، وبقي اللون، وبقي اللون، فكما أن تغير صفة الدم بالرائحة الطيبة أخرجه من الذم إلى المدح، فكذلك تغير صفة الماء إذا تغير بالنجاسة يخرجه عن صفة الطهارة إلى النجاسة، لكن هذا بالطرد، لكن بالعكس يعني لو اتصف بصفات لو تغيَّر بالمؤثرات الثلاثة اللون والطعم والريح، ثم زالت صفة واحدة كما هو هنا هل يحكم بطهارته؟
طالب:...
ماذا؟
طالب:...
هذا على سبيل التنزل على كلامهم وإلا فالكلام في الدم ونجاسته وطهارته معروف عند أهل العلم، والمذهب عند الحنابلة أنهم يلحقونه بالخارج الفاحش من النجس من البدن فهو من النجاسات، ويكون مؤثرًا في الطهارة إذا كثر.
"فكذلك تغيُّرُ صفة الماء إذا تغير بالنجاسة يخرجه عن صفة الطهارة إلى النجاسة. وتُعُقِّبَ بأن الغرض إثبات انحصار التنجيس بالتغير، وما ذكر يدل على أن التنجيس يحصل بالتغير وهو وفاق لا أنه لا يحصل إلا به، وهو موضع النزاع".
يعني التغيُّر محل اتفاق بين أهل العلم إذا تغيرت أحد أوصافه فهو نجس بالإجماع، وهذا لا ينازعون فيه. لكن النزاع في أنه لا ينجس إلا بالتغيُّر، يعني ليست هناك منجسات غير التغيُّر.
على كل حال كلٌّ على مذهبه، وأما القول بتنجيس المتغيِّر فهذا محل اتفاق. لا أنه لا يحصل إلا به إلا بالتغير، يعني هناك أمور منجسة غير التغير؟ بمجرد الملاقاة عند من يقول به.
"وقال بعضهم: مقصود البخاري أن يبين طهارة المسك ردًّا على من يقول بنجاسته؛ لكونه دمًا انعقد فلما تغير عن الحالة المكروهة من الدم وهي الزهم وقبح الرائحة إلى الحالة الممدوحة، وهي طيب رائحة المسك دخل عليه الحل، وانتقل من حالة النجاسة إلى حالة الطهارة، كالخمرة إذا تخللت".
يقول: مقصود البخاري أن يبين طهارة المسك ردًّا على من يقول بنجاسته؛ لكونه دمًا انعقد، والعلماء يقولون: وما أُبين من حيٍ فهو كميتته، والمسك في فأرته يبان من الغزال وهي حية، استثنوا هذه الصورة، إلا مسكًا في فأرته والطريدة، استثنوها من القاعدة العامة: كل ما أُبين من حي فهو كميتته، استثنوا هذا، وقال الشارح شارح الزاد: وستأتي والطريدة وستأتي، يعني في كتاب الصيد وما جاءت، قالوا: السبب في ذلك أنه لم يقل إن شاء الله، لم يقل إن شاء الله ما جاء.
"وقال ابن رُشَيد: مراده أن انتقال الدم إلى الرائحة الطيبة هو الذي نقله من حالة الذم إلى حالة المدح، فحصل من هذا تغليب وصف واحد وهو الرائحة على وصفين وهما الطعم واللون، فيستنبط منه أنه متى تغير أحد الأوصاف الثلاثة بصلاح أو فساد تبعه الوصفان الباقيان".
تبعه الوصفان الباقيان، حكمًا أم حقيقة؟
طالب:...
ماذا؟
طالب:...
حكمًا وإلا فحقيقةً ما تغيَّر اللون في حديث الباب.
"وكأنه أشار بذلك إلى ردِّ ما نقل عن ربيعة وغيره أن تغير الوصف الواحد لا يؤثر حتى يجتمع وصفان، قال: ويمكن أن يستدل به على أن الماء إذا تغير ريحه بشيء طيب لا يسلبه اسم الماء، كما أن الدم لم ينتقل عن اسم الدم مع تغير رائحته إلى رائحة المسك؛ لأنه قد سماه دمًا مع تغير الريح، فما دام الاسم واقعًا على المسمى فالحكم تابع له. انتهى كلامه".
يعني لو أن ماءً تغيَّرت رائحته ولم يتغير لونه مطابقة لحديث الباب، هل يُحكَم بنجاسته؟
طالب:...
لا ليس برائحة طيبة.
طالب:...
يحكم بنجاسته بلا شك، وكلام ابن رُشيد هنا كما أن الدم لم ينتقل عن اسم الدم مع تغير رائحته إلى رائحة المسك، الاسم لا يتغير، الماء إذا تغيرت رائحته فهو باقٍ، ولم يتغير لونه ولا طعمه هو باقٍ على اسمه ماء، لكنه ماء نجس، وليس بطاهر؛ لأنه تغيرت رائحته بنجاسة نعم. يقول: فما دام الاسم واقعًا على المسمى فالحكم تابع له، فالحكم تابع له، لو تغيَّر لون الماء، لو تغيَّر لون الماء ورائحته تغيرت من طول المكث لا من وقوع نجاسة فيه، تغير لونه، تغير طعمه؛ لأنه لو وضعت ماءً في برميل لمدة سنة وجئت إليه وجدته أصفر، تغير لونه، ورائحته أيضًا، هو البرميل مغلق لا يتخلله الهواء، فإنه حينئذٍ تتغير رائحته أيضًا، ويمكن أن يطيَّب بأن يؤخذ منه في إناء ويعاد إليه يرفع فوق يتخلله الهواء والأكسجين ويعاد إليه فينتقل بذلك إلى لونه الطبيعي، ولذلك الماء الآجن المتغيِّر لطول مكثه تصحُّ الطهارة به في بالإجماع، ولم يخالف في ذلك إلا ابن سيرين فقال بكراهته.
"ويَرُدُّ على الأول أنه يلزم منه أن الماء إذا كانت أوصافه الثلاثة".
ويَرُدُّ أم وَيَرِدُ؟
"ويَرِدُ على الأول". يُرَدّ يا شيخ.
هذه إيرادات على كلام ابن رُشيد.
"ويُرَدُّ على الأول".
إيرادات وهي في حقيقتها ردود. ماشٍ الأمر سهل.
"أنه يلزم منه أن الماء إذا كانت أوصافه الثلاثة فاسدة، ثم تغيرت صفة واحدة منها إلى صلاح أنه يُحكَمُ بصلاحه كله، وهو ظاهر الفساد. وعلى الثاني أنه لا يلزم من كونه لم يسلب اسم الماء أن لا يكون موصوفًا بصفة تمنع من استعماله مع بقاء اسم الماء عليه، والله أعلم.
وقال ابن دقيقٍ العيد لما نقل قول من قال".
وعلى الثاني أنه لا يلزم من كونه لم يسلَب اسم الماء أن لا يكون موصوفًا بصفة تمنع من استعماله مع بقاء اسم الماء عليه، لو بال شخصٌ في ماء ولم يتغير فيه شيء فاسمه باقٍ أم غير باقٍ؟ باقٍ، لكن هل يمنع الوصف أم ما يمنع الوصف الطهورية؟ نعم يمنع، ولا يجوز التطهر به.
"وقال ابن دقيقٍ العيد لما نقل قول من قال: إن الدم لما انتقل بطيب رائحته من حكم النجاسة إلى الطهارة، ومن حكم القذارة إلى الطيب؛ لتغير رائحته حتى حكم له بحكم المسك، وبالطيب للشهيد فكذلك الماء ينتقل بتغير رائحته من الطهارة إلى النجاسة، قال: هذا ضعيف مع تكلّفه".
أصل إيراد الحديث في هذا الباب فيه بعد، فيه بُعد؛ لأنه في غير دار التكليف، فلا يتكَّلف اعتباره ومناسبته، والدلالة الأصلية التي سيق الحديث من أجلها التي سيق الحديث من أجلها بيان فضل الجهاد وفضل من يقتَل في سبيل الله هذا الذي سيق له أريد الذي هو سبب إيراد الحديث من قِبَله -عليه الصلاة والسلام-.
طالب:...
التبعية ما له علاقة، لولا أن البخاري جاء به هنا ما أحد يفكر فيه.
طالب:...
نعم؟ طيب.
طالب: ....
نعم، يسجدون، هذا سجود تكليف؟
طالب:...
لكن هل هو سجود تكليف تطلب له جميع الأحكام المطلوبة في الدنيا؟ نقول: هذا الذي فيه دم لا يسجد وعليه؟ لا لا، لا لا بعيد كل البُعد.
نعم.
قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: "باب الماء الدائم.
حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب قال: أخبرنا أبو الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «نحن الآخرون السابقون».
وبإسناده قال: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه»".
يقول الإمام البخاري –رحمة الله عليه-: باب الماء، "باب البول في الماء الدائم"، "باب البول في الماء الدائم أي ما حكمه، وأورد الحديث: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه».
يقول -رحمه الله-: "حدثنا أبو اليمان" الحكم بن نافع، "قال: أخبرنا شعيب" وهو ابن أبي حمزة، "قال: أخبرنا أبو الزناد" عبد الله بن ذكوان، "أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة أنه سمع أبا هريرة أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «نحن الآخرون السابقون»" نحن الآخرون يعني في الدنيا، فأمة محمد -عليه الصلاة والسلام- آخر الأمم لكنهم السابقون يوم القيامة، «نحن الآخرون السابقون»، "وبإسناده" يعني المتقدِّم، "قال يقول: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه»" ما علاقة الجملة الأولى «نحن الآخرون السابقون»؟
هذه الجملة جاءت في صدر صحيفة كاملة تشتمل على أكثر من مائة وثلاثين جملة، تشتمل على أكثر من مائة وثلاثين جملة، يعني في المسند مائة واثنين وثلاثين جملة، هذه الجمل أورد منها البخاري ما يريد، ومسلم كذلك، أورد منها ما يحتاج إليه، البخاري طريقته في الأخذ من هذه الصحيفة والاقتصار على ما يريد منها يصدِّر ما يريد بقوله: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» الذي هو صدر تلك الصحيفة، ثم يأتي بالجملة التي يريدها، ومذهبه -رحمة الله عليه- جواز تقطيع الحديث، فهو يقطع الحديث الواحد إلى جمل، ويضع كل جملة في مكانها المناسب لها، ويترجم عليها بحكم شرعي يستنبطه منها، هذه طريقته -رحمة الله عليه-، وطريقته في الأخذ من هذه الصحيفة أن يصدِّر ما يريد بقوله: «نحن الآخرون السابقون»، وأما مسلم فيقتصر من هذه الصحيفة على ما يريد، وإن كانت جمله أطول من جمل البخاري- رحمه الله- فيقول: عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول، فذكر أحاديث، منها كذا، فذكر أحاديث منها كذا، والبخاري ما يقول ذكر أحاديث ولا شيء، يذكر الجملة الأولى، ثم يتبعها بما يريد، وتقطيع الحديث واختصار الحديث جائز عند جماهير المحدثين جائز عند جماهير المحدثين شريطة أن لا يترك شيئًا يتعلق به الموجود، ويتوقف فهمه عليه، ويتوقف فهمه عليه، ما يترك استثناءً ما يترك شرطًا، ما يترك وصفًا مؤثرًا يتوقف فهم الموجود عليه، وإذا توافرت هذه الشروط فإن اختصار الحديث جائز، اختصار الحديث جائز عند جماهير المحدثين، ويفعلونه بكثرة، وهو في البخاري ظاهر، يعني الحديث الواحد قد يورده البخاري مقطعًا في عشرين موضعًا.
وإذا جاز ذلك في القرآن، من أراد أن يستدل بآية من كتاب الله على أمر يريد الاستدلال عليه هل يلزمه أن يورد الآية كلها، أو يقتصر على موضع الشاهد؟
يعني من أراد أن يتحدث عن الأمانة فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [سورة النساء: 58] هل يلزمه أن يقول: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [سورة النساء: 58]؟ فجوازه في الحديث من باب أولى بالشرط المتقدِّم، بالشرط المتقدِّم.
طالب:...
نعم، لا بد، يترك شيئًا يتوقف فهم الموجود عليه هذا ما يصير، تستطيع أن تقول: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} [سورة الماعون: 4]؟ لا.
«نحن الآخرون السابقون» بعضهم أورد مناسبة لهذا الكلام يقولون: آخر ما يوضع في الإناء أول ما يخرَج منه، وآخر من يدفن في الأرض هذه الأمة فأول من يبعث منها هذه الأمة، لكن التنظير مطابق أم غير مطابق؟
طالب: ....
هذا لو كان بعضهم يدفن فوق بعض مثل ما يوضع في الإناء، مطابق أم غير مطابق؟ المطابقة لو كان بعضهم يدفن فوق بعض، فالأخير الذي دفن هو أول من يبعث، لكن الآن؟ طالب: ....
ماذا؟
طالب:...
نعم، زمانية، لكن الكلام على التنظير بما يوضع في الإناء.
طالب:...
بما يوضع في الإناء، أنت إذا وضعت إذا وضعت أشياء في الثلاجة وهي رفوف، لا يترتب بعضها على بعض، ولا يبنى بعضها فوق بعض، هل يلزم أن تأخذ آخر، إذا فتحت تأخذ آخر ما وضعت؟ لا، ما يلزم، لكن هذا مجرد توجيه لما جاء، وإلا فالأصل معروف، هذه الأمة آخر الأمم، وجاء ما يدل على أنها أول من يبعث ومن يحاسب، وأول من تنشق عنه الأرض النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، فيجد موسى آخذًا بقائمة العرش، فيجد موسى آخذًا فيقول- عليه الصلاة والسلام-: «ما أدري هل بعث قبلي، أم جوزي بصعقة الطور» المراد الأمة بفروعها، أمة محمد كلها، لكن السياق مساق المدح في الحديث لا يتناول أمة الدعوة؛ لأن السياق سياق مدح.
طالب:...
قد يموت معها، لا بعدها، المراد الجنس كل الأمة، المقصود أنه يموت معها من الأمم الأخرى، يعني ممن يعتنق الديانات، لكن المراد: نحن الآخرون في بعثة نبينا -عليه الصلاة والسلام- نحن آخر الأمم التي بعث إليها رسول من الله -جل وعلا-، ونحن السابقون في الحساب ودخول الجنة كما هو معلوم.
وبإسناده قال، يعني بالإسناد المتقدِّم قال: «لا يبولن أحدكم»، «لا يبولن» لا ناهية، ويبولن فعل مضارع مجزوم بلا الناهية، وهو مبني على الفتح؛ لاتصاله بنون التأكيد الثقيلة، والنون نون التوكيد، أحدكم فاعل يبولن، إلى آخره، «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري» الدائم الساكن الراكد، والدائم في الأصل من الأضداد وذكره ابن الأنباري في كتابه الأضداد وقال: يطلق على الساكن وعلى المتحرك، دوَّم الطائر في رأسه دوام يعني دوار. وعلى كل حال المراد به الذي لا يجري الساكن، فتعيَّن أحد معنيي المشترك بقوله: لا يجري، ثم يغتسل فيه.
قوله: «الذي لا يجري» يفيد أن هناك فرقًا بين الماء الساكن والذي يجري، وفي قواعد ابن رجب هل الماء الجاري كالساكن أو كل جرية لها حكم الماء المنفصل؟
طالب:...
ماذا؟
طالب:...
ما تدري ما يترتب على هذا الكلام؟ خلاص إذا وقعت في هذه الجرية لا يتأثر ما قبلها وما بعدها.
طالب:...
يعني هل هذه النجاسة التي وقعت في هذه الجرية، وما الحد الذي يتأثر بالنجاسة من الجريات؟ يعين الجرية هل هذه الجرية منفصلة عن التي قبلها والتي بعدها؟
طالب: ....
إذًا حكمها حكم الساكن، أُورد هذا وأُورد هذا، وقيل بهذا وقيل بهذا، ولو كانت قواعد ابن رجب بين أيدينا لرأيتم الفروق والمسائل المترتبة على ذلك، ولعله يُحضَر في الدرس اللاحق إن شاء الله تعالى.
الذي لا يجري ثم يغتسل فيه، ثم يغتسل فيه، الفعل الأول مجزوم بلا الناهية، عطف عليه الثاني فكان يقتضي أن يجزم أيضًا ثم يغتسلْ؛ لأنه مضارع معطوف على فعل مضارع مجزوم فيجزم، ولكنه رُفِعَ هنا، ورد الجزم، ورد الجزم في رواية، وهنا مرفوع؛ لأنه لبيان المآل كأنه قال: لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يحتاج إليه فيغتسل إليه، كما جاء: «لا يضربن أحدكم امرأته ضرب الأمة ثم يضاجعها» ثم يضاجعها هذا الحديث في الصحيح، يضربن مجزوم بلا الناهية، ثم يحتاج إليها في المساء أو في النوم فتمتنع منه؛ لأنه ضربها وأساء إليها، فيحتاج إليها.
هذا توجيه ثم هو يغتسل فيه، ولذلك في الحديث الآخر: ثم هو يضاجعها، وجوَّز بعضهم النصب: ثم يغتسلَ فيه، ورُدَّ بأن الفعل المضارع ما يجزم بأن المحذوفة تقدر قبله أن إلا مع الواو، إلا مع الواو، فيكون منصوبًا بأن المضمرة بعد الواو، قال بعضهم: لا مانع أن تتناوب وتتقارض الحروف، فتكون ثم بمثابة الواو بمكانها، ورد أن التناوب والتقارض في الحروف كما هو معلوم، لكن يترتب عليه على رواية النصب إن صحت إن صحت بها الرواية أن الحديث لا يتوجه النهي فيه إلا على من جمع بينهما، فتكون الواو واو المعية، ثم التي هي بمعنى الواو للمعية، فلا يتجه النهي إلا إذا بال واغتسل، أجاب بعضهم عن ذلك أنه لا يمنع أن يستفاد الجمع من هذه الرواية إن صحت رواية النصب، ويستفاد النهي بمفرده من رواية ويستفاد الاغتسال بالماء الذي بِيل فيه من الرواية الأخرى، والله أعلم.
نعم.
طالب:...
ماذا فيه؟
طالب: قواعد ابن رجب.
هات، أو اقرأ أنت.
"قال -رحمه الله تعالى-: القاعدة الأولى: الماء الجاري هل هو كالراكد؟ الماء الجاري هل هو كالراكد أو كل جرية منه لها حكم الماء المنفرد؟ فيه خلاف في المذهب ينبني عليه مسائل، أحدها: لو وقعت فيه نجاسة فهل يعتبر مجموعه؟ فإن كان كثيرًا لم ينجس بدون تغيُّر وإلا نجس؟ أو تعتبر كل جرية بانفرادها فإن بلغت قلتين لم ينجس وإلا نجست؟ فيه روايتان حكاهما الشيرازي وغيره، والثانية المذهب عند القاضي".
يعني الرواية الثانية هي المذهب عند القاضي.
"المسألة الثانية: والثانية لو غُمس الإناء النجس في ماء جارٍ، ومرت عليه سبع جرياتٍ، فهل ذلك غسلة واحدة أو سبع غسلات؟ على وجهين حكاهما أبو الحسن".
إناء ولغ فيه كلب فغُمس في ماء جارٍ، هل تعتبر غسلة واحدة أو إذا مر عليه سبع جريات قلنا: سبع غسلات؟
"حكاهما أبو الحسن بن الغازي تلميذ الآمدي، وذكر أن ظاهر كلام الأصحاب أن ذلك غسلة واحدة، وفي شرح المذهب للقاضي أن كلام أحمد يدل عليه، وكذلك لو كان ثوبًا ونحوه عصبه عقيب كل جرية، الثالثة: لو انغمس المحدِث حدثًا أصغر في ماء جارٍ للوضوء، ومرت عليه أربع جريات متتالية فهل يرتفع بذلك حدثه أم لا؟ على وجهين".
إذا اعتبرنا الجرية الأولى غسلت الوجه، والثانية غسلت اليدين، والثالثة مسحت الرأس، والرابعة غسلت الرجلين؛ لأن كل جرية لها حكم الماء المنفصل.
"على وجهين أشهرهما عند الأصحاب أنه يرتفع حدثه، وقال أبو الخطاب في الانتصار: ظاهر كلام أحمد أنه لا يرتفع حدثه؛ لأنه لم يفرِّق بين الجاري والراكد، قلت: بل نصّ أحمد على التسوية بينهما في رواية محمد بن الحكم، وأنه إذا".
التسوية بين الجاري والراكد حكمهما واحد.
"وأنه إذا انغمس في دجلة فإنه لا يرتفع حدثه حتى يخرج حتى يخرج".
مرتِّبًا.
طالب:...
ماذا؟
طالب:...
كيف زيادة؟
"فإنه لا يرتفع حدثه حتى يخرج حدثه مرتبًا".
لا لا حدثه لا، حتى يخرج مرتِّبًا، يعني فروض الوضوء.
"فإنه لا يرتفع حدثه حتى يخرج مُرتِّبًا، والرابعة: لو حلف لا يقف في هذا الماء وكان جاريًا لم يحنث عند أبي الخطاب وغيره؛ لأن الجاري".
لأن الذي حلف عليه ذهب، والموجود غيره، وإذا قلنا حكمه حكم الراكد حنث.
"لأن الجاري تبدَّل ويستخلفُ شيئًا فشيئًا، فلا يتصور الوقوف فيه، وقياس المنصوص أنه يحنث لا سيما والعرف يشهد له".
قياس المنصوص أنه يحنث؛ لأن المنصوص عن الإمام أنه يسوي بين الجاري والراكد.
"والأيمان مرجعها إلى العرف".
الأيمان مرجعها إلى الأعراف، مرجعها إلى العرف عند جمهور أهل العلم، وعند مالك إلى النيات.
"انتهت يقول: ثم وجدت في القاعدة".
في القاعدة التي بعدها يعني ذكر أنه لو حلف ألا يمس شاة فوضع يده على ظهرها، هل يحنث أو لا يحنث؟ الشعر في حكم المتصل، أو في حكم المنفصل يترتب عليه ذلك، لكن الأيمان مبنية على الأعراف، فيحنث، ولو قلنا: إن الشعر في حكم المنفصل..
كمِّل.
قال الحافظ -رحمه الله-: "(باب البول في الماء الدائم) أي الساكن، يقال: دوَّم الطائر تدويمًا إذا صفَّ جناحيه في الهواء فلم يحركهما، وفي رواية الأصيلي: «باب لا تبولوا في الماء الدائم» وهي بالمعنى".
بالمعنى؛ لأن اللفظ: «لا يبولن أحدكم».
"قوله: (الأعرج) كذا رواه شعيب، ووافقه ابن عيينة فيما رواه الشافعي عنه عن أبي الزناد، وكذا أخرجه الإسماعيلي، ورواه أكثر أصحاب ابن عيينة عنه عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة، ومن هذا الوجه أخرجه النسائي، وكذا أخرجه أحمد من طريق الثوري عن أبي الزناد، والطحاوي من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه والطريقان معًا صحيحان، ولأبي الزناد فيه شيخان ولفظهما في سياق المتن مختلف كما سنشير إليه".
رواية الشافعي في الأم هل هي موافقة لما نسبه الحافظ إليه؟
طالب:...
ماذا يقول؟
"الذي في الأم للشافعي ابن عيينة عن أبي الزناد عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة، وأما موافقة ابن عيينة لشعيب فهي بالإضافة إلى الإسماعيلي عند ابن خزيمة في صحيحه".
نعم.
"قوله: «نحن الآخرون السابقون» اختُلِفَ في الحكمة في تقديم هذه الجملة على الحديث المقصود، فقال ابن بطال: يحتمل أن يكون أبو هريرة سمع ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- مع ما بعده في نسق واحد، فحدث بهما جميعًا، ويحتمل أن يكون همام فعل ذلك؛ لأنه سمعهما من أبي هريرة وإلا فليس في الحديث مناسبة للترجمة".
قصد بالحديث الجملة الأولى، ليس فيها مناسبة للترجمة، وإن تكلف بعضهم إيراد مناسبة.
"قلتُ: جزم ابن التين بالأول، وهو متعقب فإنه لو كان حديثًا واحدًا ما فصله المصنف بقوله: وبإسناده، وأيضًا فقوله: «نحن الآخرون السابقون» طرف من حديث مشهور في ذكر يوم الجمعة سيأتي الكلام عليه هناك، إن شاء الله تعالى".
وما جاء في الجمعة بعد قوله: «نحن الآخرون السابقون» هو جملة من حديث همام اسمه صحيفة همام، التي خرجها الإمام أحمد في موضع واحد؛ لأن كتابه مبني على الرواة، وهو من رواية أبي هريرة فأورده في جملة أحاديث أبي هريرة ولا يحتاج إلى التفريق، ليس مثل من يرتب على الأبواب.
"فلو راعى البخاري ما ادعاه لساق المتن بتمامه. وأيضًا فحديث الباب مروي بطرق متعددة عن أبي هريرة في دواوين الأئمة وليس في طريق منها في أوله: «نحن الآخرون السابقون»، وقد أخرجه أبو نعيم في المستخرج من طريق أبي اليمان شيخ البخاري بدون هذه الجملة. وقول ابن بطال: ويحتمل أن يكون همام وَهْمٌ وتبعه عليه جماعة، وليس لهمام ذكر في هذا الإسناد".
لكن الجملة موجودة في صحيفة همام تابعه عليها من ذُكِر في هذا الحديث وفي غيره من المواضع وإلا فالأصل صحيفة همام.
طالب:...
ما هي؟
طالب:...
صحيفة همام؟
طالب:...
بلى، عند الإمام أحمد فيها هذه الجملة.
طالب:...
"وقوله: إنه ليس في الحديث مناسبة للترجمة صحيح وإن كان غيره تكلف فأبدى بينهما مناسبة كما سنذكره، والصواب أن البخاري في الغالب يذكر الشيء كما سمعه جملة لتضمنه موضع الدلالة المطلوبة منه، وإن لم يكن باقيه مقصودًا، كما صنع في حديث عروة البارقي في شراء الشاة كما سيأتي بيانه في الجهاد، وأمثلة ذلك في كتابه كثيرة. وقد وقع لمالك نحو هذا في الموطأ، إذ أخرج في باب صلاة الصبح والعتمة متونًا بسند واحد، أولها: "مرَّ رجل بغصن شوكٍ"، وآخرها: «لو يعلمون ما في الصبح والعتمة لأتوهما ولو حبوًا»، وليس غرضه منها إلا الحديث الأخير، لكنه أداها على الوجه الذي سمعه. قال ابن العربي في القبس: نرى الجهال يتعبون في تأويلها، ولا تعلق للأول منها بالباب أصلاً".
إنما تُذكر الجمل التي لا تعلق لها بالباب من باب الأمانة من الراوي من باب الأمانة من الراوي، أنه يذكر هذه الجملة؛ ليُبيِّن أنها وردت في الحديث الطويل الذي أوله هذه الجملة.
"وقال غيره: وجه المناسبة بينهما أن هذه الأمة آخر من يدفن من الأمم في الأرض، وأول من يخرج منها؛ لأن الوعاء آخر ما يُوضع فيه أول ما يخرج منه، فكذلك الماء الراكد آخر ما يقع فيه من البول أول ما يصادف أعضاء المتطهر، فينبغي أن يجتنب ذلك. ولا يخفى ما فيه.
وقيل: وجه المناسبة أن بني إسرائيل وإن سبقوا في الزمان، لكن هذه الأمة سبقتهم باجتناب الماء الراكد إذا وقع البول فيه، فلعلهم كانوا لا يجتنبونه.
وتُعُقِّبَ بأن بني إسرائيل كانوا أشد مبالغة في اجتناب النجاسة بحيث كانت النجاسة إذا أصابت جلد أحدهم قرضه، فكيف يظن بهم التساهل في هذا؟ وهو استبعاد لا يستلزم رفع الاحتمال المذكور، وما قررناه أولى. وقد وقع للبخاري في كتاب التعبير من حديث أورده من طريق همام عن أبي هريرة مثل هذا، صدَّره أيضًا بقوله: «نحن الآخرون السابقون» قال: وبإسناده. ولا يتأتى فيه المناسبة المذكورة مع ما فيها من التكلف. والظاهر أن نسخة أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة كنسخة معمر عن همام عنه؛ ولهذا قلَّ حديث يوجد في هذه إلا وهو في الأخرى، وقد اشتملتا على أحاديث كثيرة، أخرج الشيخان غالبها".
على أحاديث كثيرة تزيد على مائة وثلاثين حديثًا، وهي مجموعة في موضع واحد في مسند الإمام أحمد، وقلنا لأن الإمام أحمد يخرِّج الأحاديث على الرواة الصحابة ولا حاجة له إلى تقطيع هذه الصحيفة.
"وقد اشتملتا على أحاديث كثيرة، أخرج الشيخان غالبها وابتداء كل نسخة منهما حديث: «نحن الآخرون السابقون»، فلهذا صدَّر به البخاري فيما أخرجه من كل منهما، وسلك مسلم في نسخة همام طريقًا أخرى، فيقول في كل حديث أخرجه منها: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذكر أحاديث منها، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيذكر الحديث الذي يريده، يشير بذلك إلى أنه من أثناء النسخة لا أولها والله أعلم.
قوله: (الذي لا يجري) قيل: هو تفسير للدائم وإيضاح لمعناه، وقيل: احترز به عن راكد يجري بعضه كالبرك، وقيل: احترز به عن الماء الدائم؛ لأنه جارٍ من حيث الصورة ساكن من حيث المعنى، ولهذا لم يذكر هذا القيد في رواية أبي عثمان عن أبي هريرة التي تقدمت الإشارة إليها، حيث جاء فيها بلفظ «الراكد» بدل الدائم".
الآن الماء الذي في النوافير هل حكمه حكم الجاري أو حكم الراكد؟ بمعنى أن الجاري يعود ثانية إلى مكانه، ويعود ثالثة ورابعة وخامسة، وهكذا، هو جارٍ أم راكد؟
طالب:...
ماذا؟
طالب:...
لأنه غير متجدد، لأنه غير متجدد، لكن إذا كان سبب التأثير في الجاري حركته، وتخلل الهواء فيه من أجل أن المتغيرة رائحته برائحة نتنة بالهواء يطيَّب، فهذه النوافير لا شك أنها تدير الماء، وتجعل الماء يتخلله الهواء.
"ولهذا لم يذكر هذا القيد في رواية أبي عثمان عن أبي هريرة التي تقدمت الإشارة إليها، حيث جاء فيها بلفظ «الراكد» بدل الدائم، وكذا أخرجه مسلم من حديث جابر، وقال ابن الأنباري: الدائم من حروف الأضداد، يقال للساكن والدائر".
ابن الأنباري له كتاب في الأضداد مطبوع ومشهور، وهو مفيد لطالب العلم.
"ومنه أصاب الرأس دوام أي دُوار، وعلى هذا فقوله «الذي لا يجري» صفة".
مخصصِّة.
"صفة مُخصصِّة لأحد معنيي المشترك، وقيل الدائم والراكد مقابلان للجاري".
مقابلان للجاري كالقعود والجلوس مقابلان للقائم.
"لكن الدائم الذي له نبع، والراكد الذي لا نبع له. قوله: (ثم يغتسلُ) بضم اللام على المشهور، وقال ابن مالك: يجوز الجزم عطفًا على يبولن؛ لأنه مجزوم الموضع بلا الناهية".
مجزوم الموضع، هو مجزوم بلا الناهية، والعلامة لا تظهر؛ لأنه مبني، والمبني لا تظهر عليه العلامة لاتصاله بنون التوكيد.
"ولكنه بني على الفتح لتوكيده بالنون. ومنع ذلك القرطبي فقال: لو أراد النهي لقال: ثم لا يغتسلن، فحينئذ يتساوى الأمران في النهي عنهما؛ لأن المحل الذي تواردا عليه شيء واحد وهو الماء".
لكن لا يلزم من عطف الفعل على مثله المؤكَّد أن يُؤكد الثاني، قد يؤكد واحد، ولا يؤكد المعطوف عليه، وقد يؤكد يكون الأول غير مؤكد، والثاني مؤكد؛ لاختلاف ما يشتمل عليه النهيان فالنهي الأول أشد من الثاني، النهي الأول أشد من الثاني فاحتاج إلى التأكيد.
"قال: فعدوله عن ذلك يدل على أنه لم يرد العطف، بل نبَّه على مآل الحال، والمعنى أنه إذا بال فيه قد يُحتاج إليه فيمتنع عليه استعماله. ومثَّله بقوله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يضربن أحدكم امرأته ضرب الأمة ثم يضاجعها» فإنه لم يروه أحد بالجزم؛ لأن المراد النهي عن الضرب؛ لأنه يُحتاج في مآل".
يَحتاج.
"لأنه يحتاج في مآل حاله إلى مضاجعتها، فتمتنع لإساءته إليها، فلا يحصل له مقصوده. وتقدير اللفظ: ثم هو يضاجعها. وفي حديث الباب: «ثم هو يغتسل منه» وتُعُقِّبَ بأنه لا يلزم من تأكيد النهي أن لا يعطف عليه نهي آخر غير مؤكدٍ؛ لاحتمال أن يكون للتأكيد في أحدهما معنى ليس للآخر. قال القرطبي: ويجوز النصب إذ لا تضمر أن".
ولا يجوز النصب.
طالب: نعم يا شيخ؟
ولا يجوز النصب.
"قال القرطبي: لا، ويجوز النصب؛ إذ لا تضمر أن بعد ثم، وأجازه ابن مالك بإعطاء ثم حكم الواو، وتعقبه النووي بأن ذلك يقتضي أن يكون المنهي عنه الجمع بين الأمرين دون إفراد أحدهما، وضعَّفه ابن دقيقٍ العيد بأنه لا يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة لفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الجمع بينهما من هذا الحديث إن ثبتت رواية النصب، ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر.
قلت: وهو ما رواه مسلم من حديث جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه "نهى عن البول في الماء الراكد"، وعنده من طريق أبي السائب عن أبي هريرة بلفظ: «لا يغتسلْ أحدكم في الماء الدائم وهو جنب»، وروى أبو داود النهي عنهما في حديث واحد، ولفظه: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسل فيه من الجنابة»".
ولا، النهي عنهما ولا يغتسلْ نهي مثل الأول.
"ولفظه: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا»".
ولا يغتسلْ.
طالب: نفس رواية أبي داود؟
نعم.
طالب:...
وروى أبو داود النهي عنهما، مقتضى النهي الجزم في الموضعين.
طالب:...
نعم.
"وروى أبو داوود النهي عنهما في حديث واحد ولفظه: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسلْ فيه من الجنابة»، واستدل به بعض الحنفية على تنجيس الماء المستعمل".
لأن الأول «لا يبولن أحدكم» يقتضي التنجيس، فليكن الثاني مثله يقتضي التنجيس الذي هو الاغتسال، وهذا استدلال بدلالة الاقتران، وهي ضعيفة عندهم.
"واستدل به بعض الحنفية على تنجيس الماء المستعمل؛ لأن البول ينجس الماء، فكذلك الاغتسال، وقد نهى عنهما معًا، وهو للتحريم، فيدل على النجاسة فيهما، ورُدَّ بأنها دلالة اقتران، وهي ضعيفة، وعلى تقدير تسليمها فلا يلزم التسوية، فيكون النهي عن البول لئلا ينجسه، وعن الاغتسال فيه لئلا يسلبه الطهورية. ويزيد ذلك وضوحًا قوله في رواية مسلم: "كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً"، فدلَّ على أن المنع من الانغماس فيه لئلا يصير مستعملاً، فيمتنع على الغير الانتفاع به، والصحابي أعلم بموارد الخطاب من غيره. وهذا من أقوى الأدلة على أن المستعمل غير طَهُور".
فينتقل من الطهورية إلى الطهارة كما هو مذهب الجمهور خلافًا لمالك.
"وقد تقدمت الأدلة على طهارته، ولا فرق في الماء الذي لا يجري في الحكم المذكور بين بول الآدمي وغيره، خلافًا لبعض الحنابلة".
استثنوا بول الآدمي الذي يقع في الماء الكثير أنه ينجسه، استثنوا بول الآدمي وعذرته المائعة، قالوا: إنه ينجس ولو كان الماء كثيرًا.
"وقد تقدمت الأدلة على طهارته، ولا فرق في الماء الذي لا يجري في الحكم المذكور بين بول الآدمي وغيره، خلافًا لبعض الحنابلة، ولا بين أن يبول في الماء أو يبول في إناء ثم يصبه فيه خلافًا للظاهرية".
أو يبول قربَه وينساب البول إلى هذا الماء، هذا عند الظاهرية ما يؤثر، ونُقل عنهم ما هو أشد من ذلك أنه لو بال فيه تأثر، ولو تغوط فيه لم يتأثر، وهذا من جمودهم على الظاهر إن ثبت عنهم، إن لم يكن من باب الإلزام.
"وهذا كله محمول على الماء القليل عند أهل العلم على اختلافهم في حد القليل. وقد تقدَّم قول من لا يعتبر إلا التغير وعدمُه".
عدَمَه.
"وعدَمَه، وهو قوي، لكن الفصل بالقلتين أقوى؛ لصحة الحديث فيه".
هذا عند مالك، وشيخ الإسلام يرجح هذا، والغزالي وهو من فقهاء الشافعية تمنى أن لو كان مذهب الإمام الشافعي مثل مذهب مالك، طيب أنت فقيه، ولديك أهلية النظر في الأدلة، رجِّح قول مالك، وينتهي الإشكال، لكنه الالتزام بالتمذهب، ما يقدر.
"لكن الفصل بالقلتين أقوى؛ لصحة الحديث فيه، وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك، لكنه اعتذر عن القول به".
يعني اعترف بصحة حديث القلتين، ولكنه اعتذر عن القول به والعمل به؛ للاضطراب، ثم إذا وجد الاضطراب تثبت الصحة؟ المضطرب من نوع الضعيف؛ لأنه اضطُرِبَ في سنده ومتنه، نعم.
"وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك، لكنه اعتذر عن القول به بأن القلة في العرف تطلق على الكبيرة والصغيرة كالجرة، ولم يثبت من الحديث تقديرهما، فيكون مجملاً، فلا يُعمَل به، وقواه ابن دقيقٍ العيد، لكن استدل له غيرهما، فقال أبو عُبيد القاسم بن سلام".
له كتاب اسمه الطهور، كتاب الطهور تكلم فيه على مسائل الطهارة.
"فقال أبو عُبيد القاسم بن سلام: المراد القلة الكبيرة؛ إذ لو أراد الصغيرة لم يحتج لذكر العدد".
لم يحتج لذكر العدد يقول: جدرة واحدة كبيرة، قلة واحدة كبيرة ويكفي، بدل أن يقول: قلتين صغار، لو أراد الصغار لم يحتج إلى ذكر العدد.
"فإن الصغيرتين قدرُ واحدة كبيرة، ويرجع في الكبيرة إلى العرف عند أهل الحجاز. والظاهر أن الشارع -عليه السلام- ترك تحديدهما على سبيل التوسعة، والعلم محيط بأنه ما خاطب الصحابة إلا بما يفهمون، فانتفى الإجمال، لكن لعدم التحديد وقع الخُلف بين السلف في مقدارهما على تسعة أقوال حكاها ابن المنذر".
ترك التحديد بدقة مع اعتماد القول بمقتضى حديث القلتين مآله إلى التضييق لا إلى التوسعة، ومن أراد حقيقة هذا الأمر فليرجع إلى ما ذكره النووي في المجموع في المسألة، يجد أنواعًا من الحرج لتطبيق هذا القول، ولذلك تمنى لما ذكر هذا الحرج الغزالي في الإحياء ذكر هذا الحرج العظيم الواقع عند الشافعية والحنابلة مثلهم، تمنى أن لو كان مذهب الشافعي مثل مذهب مالك وقال: لا ينجس إلا إذا تغير، وانتهى الإشكال.
"ثم حدث بعد ذلك تحديدهما بالأرطال، واختُلِفَ فيه أيضًا. ونُقِل عن مالك أنه حمل النهي على التنزيه فيما لا يتغير، وهو قول الباقين في الكثير، وقال القرطبي: يمكن حمله على التحريم مطلقًا على قاعدة سد الذريعة؛ لأنه يفضي إلى تنجيس الماء".
التحريم مطلقًا سواء كان كثيرًا أو قليلاً يحمل على التحريم، النهي الأصل فيه التحريم؛ لأنه إن لم ينجس حقيقة فقد قذَّره بالنسبة للناس، من يريد أن يستعمل هذا الماء ولو لم يرد فيه شيء من أوصاف النجاسة، وهو يرى شخص يبول فيه، ولو كان كثيرًا؟
"قوله: «ثم يغتسل فيه» كذا هنا، وفي رواية ابن عيينة عن أبي الزناد: «ثم يغتسل منه» وكذا لمسلم من طريق ابن سيرين، وكلٌّ من اللفظين يفيد حكمًا بالنص وحكمًا بالاستنباط، قاله ابن دقيق العيد، ووجهه أن الرواية بلفظ: فيه، تدل على منع الانغماس بالنصّ، وعلى منع التناول بالاستنباط".
إذ لا فرق، إذا انغمس فيه وقد وُجدت فيه هذه النجاسة هي البول بالنصّ، من رواية: «ثم يغتسلُ فيه» يعني ينغمس فيه، وإذا كان المنع من الانغماس فيه من أجل تأثره بالبول فالاغتراف منه ثم يغتسل منه يعني بالاغتراف لا يختلف في الحكم، لكن فيه بالنصّ تدل على انغماس بالنصّ، وعلى الاغتراف بالاستنباط، ورواية منه بالعكس.
"والرواية بلفظ منه بعكس ذلك، وكله مبني على أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة، والله أعلم".
اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه.
"