التعليق على الموافقات (1431) - 04

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فما زلنا في كتاب المؤلف الشاطبي -رحمه الله تعالى- في النظر الأول في كليات الأدلة على الجُملة: "المسألة السابعة: كل دليل".

السابعة أم الثامنة؟

طالب: ما قرأنا السابعة.

الثامنة.

"المسألة الثامنة: فنقول: إذا رأيت في المدنيات أصلاً كليًّا فتأمله، تجده جزئيًّا بالنسبة إلى ما هو أعم منه، أو تكميلاً لأصلٍ كلي، وبيان ذلك أن الأصول الكلية التي جاءت الشريعة بحفظها خمسة: وهي الدين والنفس والعقل والنسل والمال، أما الدين: فهو أصل ما دعا إليه القرآن والسُّنَّة وما نشأ عنهما، وهو أول ما نزل بمكة، وأما النفس فظاهرٌ إنزال حفظها بمكة، كقوله: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}[الأنعام:151]، {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير8 :9]، {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}[الأنعام:119] وأشباه ذلك، وأما العقل فهو وإن لم يرد إن لم يُرِد تحريم".

يرِد يرِد.

"وإن لم يرِد تحريم ما يفسده".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في المسألة الثامنة: إذا رأيت في المدنيات أصلاً كليًّا تجده فتأمله تجده جزئيًّا؛ لأن الأصول أصول الدين والضرورات التي جاءت الشرائع بحفظها وحمايتها كلها لأهميتها قُرِّرت في أول الأمر بمكة، ثم فُصِّلت وفُرِّعت، وذُكِرت أجزاؤها وتراكيبها بالمدينة، فإذا وجدت أصلاً بمعنى أنه أمرٌ يقرره الشرع لأول مرة تسمعه إذا تأملته وجدت له أصلاً فيما نزل بمكة، وجدت له أصلاً فيما نزل بمكة، فأصول العقائد وأصول الديانات والضرورات كلها نزلت بمكة، وكُمِّلت فروعها وجزئياتها، وتم تصويرها تصويرًا دقيقًا ببيان ما أُجمِل منه بالمدينة، وهذا ما قرره المؤلف، وضرب لذلك مثلاً بالكليات الضرورات الخمس.

 أما الدين أصل الدين الذي جاءت الشرائع بحفظه والدعوة إليه فهذا هل يماري أحد في أنه أوّل ما قُرِّر ببعثته -عليه الصلاة والسلام-؟ وأما النفس فلا شك أن تفاصيل هذه المسألة جاءت بالمدينة، لكن أصل حفظ النفس {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}[الأنعام:151] سورة الأنعام وهي مكية، {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}[التكوير8 :9] هذا أيضًا حفظٌ للنفس في سورة التكوير وهي مكية، إلى غير ذلك، ثم بيَّن ما يتعلق بالعقل، وهو الأمر الثالث من هذه الضروريات الخمس قد يقول قائل: إن الشرع حفظ العقل بتحريم الخمر، وتحريم الخمر إنما نزل بالمدينة، الشارح وهو المؤلف -رحمه الله- يُبيِّن أن أصل المسألة لا الجزئية المتعلقة بالخمر، إنما المتعلق بحفظ العقل باعتباره جزءًا من أجزاء البدن نزلت المحافظة عليه كالمحافظة على النفس، باعتباره جزءًا منها، فالذي لا يحافظ على عقله لم يحافظ على نفسه، الذي لا يحافظ على جزء من أجزائه كيده ورجله، وسمعه وبصره، ما حافظ على نفسه وهو مأمورٌ بالمحافظة على النفس، فهو يُقرِّر هذه المسألة هذه هذا القسم أو هذا النوع من هذه الحيثية وإلا فمعلومٌ أن تحريم الخمر الذي فيه زوال العقل ولو مؤقتًا إنما نزل بالمدينة.

"وأما العقل فهو وإن لم يرد تحريم ما يفسده وهو الخمر إلا بالمدينة فقد ورد في المكيات مجملاً، إذ هو داخلٌ في حرمة حفظ النفس كسائر الأعضاء، ومنافعها من السمع والبصر وغيرهما، وكذلك منافعها، فالعقل محفوظٌ شرعًا في الأصول المكية عما يزيله رأسًا كسائر الأعضاء وإنما استدرك بالمدينة حفظه عما يزيله ساعة أو لحظة".

يعني مؤقتًا نعم.

"ثم يعود كأنه غُطِّي ثم كشف عنه، وأيضًا فإن حفظه على هذا الوجه من المكملات لأن شرب الخمر قد بيَّن الله مثالبها في القرآن حيث قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}[المائدة:91] إلى آخر الآية فظهر أنها من العون على الإثم والعدوان، وأما النسل فقد ورد المكي من القرآن بتحريم الزنى والأمر بحفظ الفروج، إلا على الأزواج أو ملك اليمين، وأما المال فورد فيه تحريم الظلم وأكل مال اليتيم والإسراف والبغي ونقص المكيال والميزان والفساد في الأرض، وما دار بهذا المعنى، وأما العرض الملحق بها فداخلٌ تحت النهي عن إذايات النفوس، ولم ترِد هذه الأمور في الحفظ من جانب العدم، إلا وحفظها من جانب".

نعم جاءت النصوص بمنع الضرر المتعدي عمومًا، أذية الناس جاءت ترهيبًا وجاءت الترغيب بضدها، السعي على مصالح الناس مفهومه النهي عن أذاهم، والعِرض الطعن فيه من هذا الباب لأنه يؤذي، وإذا جاء النهي عن سبِّ الأموات؛ لأنه يؤذي الأحياء فلأن يُنهى عن سبِّ الأحياؤ وأذية الأحياء من باب أولى، والقذف لا شك أنه من أعم ما يؤذى به الإنسان وجاء عليه الحدّ وإن كان متأخرًا إلا أن العمومات تشمل كل ما يتأذى به الإنسان، ثم جاء التفصيل والتفريع بعد ذلك في المدينة.

"ولم ترِد هذه الأمور في الحفظ من جانب العدم إلا وحفظها من جانب الوجود حاصل ففي الأربعة الأواخر ظاهر، وأما الدين فراجعٌ إلى التصديق بالقلب والانقياد بالجوارح، والتصديق بالقلب آتٍ بالمقصود في الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، ليتفرع عن ذلك كل ما جاء مفصلاً في المدني، فالأصل وارد في المكي والانقياد بالجوارح حاصل بوجه واحد، ويكون ما زاد على ذلك تكميلاً، وقد جاء في المكي من ذلك النطق بالشهادتين والصلاة والزكاة، وذلك يحصل به معنى الانقياد".

نعم الانقياد بالجوارح حاصلٌ بوجه واحد، يعني إذا قلنا: إن العام العمل داخل في مسمى الإيمان ولم تكمل الأعمال إلا في آخر عهده -عليه الصلاة والسلام-، بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3]، والعمل داخل في الإيمان والإيمان أصل، كيف يقول: إن الأصل بُيِّن ووُضِّح بمكة؟ نقول: نعم، العمل جنس، يشمل ولو واحدًا مما أُمِر به في أول الأمر، والزيادات على ذلك زيادات في متعلقات الإيمان لا في أصله.

"وقد جاء في المكي من ذلك النطق بالشهادتين والصلاة والزكاة، وذلك يحصل به معنى الانقياد، وأما الصوم والحج فمدنيان من باب التكميل على أن الحج كان من فعل العرب أولاً وراثة عن أبيهم إبراهيم، فجاء الإسلام فأصلح منه ما أفسدوا وردهم فيه إلى مشاعرهم".

نعم، النبي -عليه الصلاة والسلام- حجَّ قبل حجة الوداع، والخلاف في كونه حجَّ قبل الهجرة أو لا، لكنه حجَّ قبل حجة الإسلام، قبل حجة الوداع؛ لأن الحجّ مما ورثه العرب من دين أبيهم إبراهيم، نعم غيّروا فيه وبدلوا وحرّفوا، لكن جاء الشرع بتصحيح ما بدلوه، وما أفسدوه.

"وكذلك الصيام أيضًا، فقد كانت الجاهلية تصوم يوم عاشوراء، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصومه أيضًا حين قدم المدينة صامه، وأمر بصيامه حتى نسخه رمضان، وانظر في حديث عائشة في صيام يوم عاشوراء، فأحكمه".

أول ما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة وجد الناس يصومون، وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، وقالوا: إنه يوم نجا الله فيه موسى وقومه، وأهلك فيه فرعون وقومه ونحن نصومه قال: «نحن أحق بموسى منكم» فصام عاشوراء من السنة الثانية، إلى التاسعة، أو العاشرة، حينما قال: «لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع» الحادية عشرة؛ لأنه صام عاشوراء السنة الحادية عشرة، «لئن بقيت إلى  قابل لأصومن التاسع»، «خالفوا اليهود صوموا يومًا قبله أو بعده» يعني مكث عشر سنوات وما خالف اليهود، ثم في آخر سنة يقول: خالفوا اليهود؟ نعم، كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يحب موافقتهم، تأليفًا لهم علّهم أن يسلموا، فلما أيِس منهم أمر بمخالفتهم كفرق الشعر.

"وانظر في حديث عائشة في صيام يوم عاشوراء فأحكمهما التشريع المدني وأقرهما على ما أراد الله تعالى من التمام الذي بينه في اليوم الذي هو أعظم أيامه، حين قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3] الآية، فلهما أصلٌ في المكي على الجُملة، والجهاد الذي شُرع بالمدينة فرعٌ من فروع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو مُقرَّر بمكة كقوله: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ}[لقمان:17] وما أشبه ذلك".

نعم.

"المسألة التاسعة: كل دليلٍ شرعيٍ يمكن أخذه كليًّا وسواءً علينا أكان كليًّا أم جزئيًّا إلا ما خصّه الدليل كقوله تعالى: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِين}[الأحزاب:50] وأشباه ذلك".

يعني أخذه كليًّا يعني عامًّا لجميع الأمة، فما جاء في حقه -عليه الصلاة والسلام- ولو وُجِّه الخطاب إليه فإنه عامٌّ له ولأمته من بعده ولكل من يصحُّ توجيه الخطاب إليه، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}[التوبة:103] هل نقول: إن الصدقة مرتبطة به -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه هو المخاطب بهذا الأمر؟ لا، {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ}[النساء:102] هل نقول: إن صلاة الخوف خاصّة به -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن الخطاب متجه إليه؟ لا، يؤخذ كليًّا إلا إذا دلّ الدليل على اختصاصه به -عليه الصلاة والسلام- فإنه يُحمل عليه.

"والدليل على ذلك أن المستند إما أن يكون كليًّا أو جزئيًّا فإن كان كليًّا فهو المطلوب، وإن كان جزئيًّا فبحسب النازلة لا بحسب التشريع في الأصل بأدلة، منها عموم التشريع في الأصل كقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}[الأعراف:158]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا}[سبأ:28]، { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل:44]، وهذا معنىً مقطوع به لا يخرم القطعَ بما جاء به".

به.

"لا يخرم القطع به ما جاء من شهادة خزيمة وعناق أبي بردة".

وعَناق.

"وعَناق أبي بردة، وقد جاء في الحديث: «بعثت إلى الأحمر والأسود»".

شهادة خزيمة التي جعلها النبي -عليه الصلاة والسلام- بشهادة اثنين حين شهد له في عقد وهو لم يحضر، هذا خاصٌّ به، {وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ}[الطلاق:2] هذا الأصل للناس كلهم، لكن جاء ما يخصّ خزيمة بعينه لقصة وقضية عينٍ وقعت له دون غيره، لا يشبهه فيها غيره، الآن خزيمة شهد للنبي -عليه الصلاة والسلام- بالعقد ولم يحضر، فجعل شهادته عن اثنين، وأبو بكر -رضي الله عنه- صدَّقه في قوله أنه أُسري به وعُرِج به إلى السماء وهو لم يحضر، لماذا لم تُجعل شهادة أبي بكر عن اثنين، وجُعلت شهادة خزيمة عن اثنين؟

طالب:...

نعم، النصّ هو الذي حدَّد هذا، لكن من حيث النظر والمعنى، أليس المعنى الموجود في خزيمة موجود في أبي بكر بل بل أزيد، أشد.

طالب:...

صديقية.

طالب:...

نعم، أُعطي ما أعظم مما أُعطي غيره، وتفضيل إنسانٍ بخصلةٍ لا يعني تفضيله على غيره مطلقًا، يعني كون خزيمة تُقبَل شهادته منفردًا لا يعني أنه أفضل ممن هو أفضل منه من الصحابة لأنه فُضِّل بهذه الخصيصة، لكن لا يعني أنه أفضل في بقية الخصال، وكون إبراهيم عليه السلام أولى من يُكسى يوم القيامة لا يعني أنه أفضل من محمد -عليه الصلاة والسلام- وإن كُسي قبله؛ لأن الفضائل مجتمعة في محمد -عليه الصلاة والسلام- أعظم بكثير من هذه الخصلة، وكون موسى -عليه السلام- في الحديث الصحيح أوّل من تنشق أو «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة» يقول: «فإذا موسى آخذٌ بقائمة العرش لا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور»، لكن لا يعني أن موسى أفضل منه -عليه الصلاة والسلام- وإن فاقه في هذه الخصلة.

"ومنها أصل شرعية".

عَناق أبي بردة هذه العَناق أبو بردة ذبح أضحيته قبل الصلاة، قبل صلاة الإمام وأخبره النبي- عليه الصلاة والسلام- أن شاته شاة لحم، فقال: والله ما عندي إلا عَناق، يعني لا تجزئ في الأضحية، قال: «اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك»، فتخصيصه بهذا واضح من النصّ.

"ومنها أصل شرعية القياس؛ إذ لا معنى له إلا جعل الخاص الصيغة كالعام الصيغة في المعنى".

لأنه يُعدّى الحكم إلى غيره باتفاق العلة.

"وهو معنى متفق عليه، ولو لم يكن أخذ الدليل كليًّا بإطلاق لما ساغ ذلك، ومنها: أن الله تعالى قال: { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا}[الأحزاب:37] الآية، فإن نفس التزويج لا صيغة له تقتضي عمومًا أو غيره، ولكن الله تعالى بيّن أنه أمر به نبيه لأجل التأسي، فقال: {لِكَيْ لا} ولذلك قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[الأحزاب:21] هذا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد خصّه الله بأشياء".

لا سيما في باب النكاح، فالخصائص النبوية كثيرة في هذا الباب دون غيره من الأبواب.

"قد خصّه الله بأشياء كهبة المرأة نفسها له، وتحريم نكاح أزواجه من بعده، والزيادة على أربع، فذلك لم يخرجه عن شمول الأدلة فيما سوى ذلك المستثنى، فغيره أحقُّ أن تكون الأدلة بالنسبة إليه مقصودة العموم، وإن لم يكن لها صيغ عموم، وهكذا الصيغ المطلقة تجري في الحكم مجرى العامة، ومنها: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بيّن ذلك بقوله وفعله، فالقول كقوله: «حكمي على الواحد حكمي على الجماعة»".

العلماء في كتب التخريج يرون أن هذا الحديث بهذا اللفظ لا أصل له، لا أصل له، وقد صرح بذلك ابن كثير والمزِّي والذهبي والسبكي وابن حجر، جمع من أهل العلم قالوا: إنه بهذا اللفظ لا أصل به، قريبٌ منه قوله -عليه الصلاة والسلام-: «إنما قولي لمائة امرأة كقولي أو مثل قولي لامرأة واحدة» هذا مخرَّج في الموطأ والمسند والسنن وسنده صحيح، «قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة»، من حيث المعنى قريبٌ جدًّا.

"وقوله في قضايا خاصة سئل فيها: «أهي لنا خاصة أم للناس عامة؟ بل للناس عامة» كما في قضية الذي نزلت فيه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}[هود:114] وأشباهها، وقد جعل نفسه -عليه الصلاة والسلام- قدوة للناس، كما ظهر في حديث الإصباح جنبًا وهو يريد أن يصوم، والغُسل من التقاء الختانين، وقوله".

نعم كان -عليه الصلاة والسلام- يصبح جُنبًا من جماع لا من احتلام، ويكمل صومه يغتسل ويصلي ويكمل الصوم، وهذا لا يخدش الصوم، خلافًا لما كان يقوله أبو هريرة في أول الأمر ثم رجع عنه لما أخبرته عائشة وغيرها من الصحابة، فهذا له ولغيره.

"وقوله: «إني لأنسى أو أُنَسَّى لأسُن»".

كذلك هذا الحديث أيضًا مُتكلَّم فيه، بل نفى بعضهم وجود حديثٍ بهذا اللفظ، وفي الحديث الصلاة التي نام عنها -عليه الصلاة والسلام- صلاة الصبح، قال: «إن الله قبض أرواحنا؛ لتكون سُنةً لمن بعدكم» فكونه -عليه الصلاة والسلام- ينسى أو يُنسَّى وينسى التشهد الأوّل، ونسي غيره من أجزاء الصلاة وزاد، وصلى عن نقص -عليه الصلاة والسلام-، كل هذا من أجل التشريع، وكونه -عليه الصلاة والسلام- يقضي على نحوٍ مما يسمع، وهو المؤيَّد بالوحي، كل هذا من أجل أن يقتدي به من لم يؤيد بالوحي.

"وقوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، و«خذوا عني مناسككم» وهو كثير.

 المسألة العاشرة: الأدلة الشرعية ضربان: أحدهما أن يكون على طريقة البرهان العقلي، فيستدل به على المطلوب الذي جُعل دليلاً عليه، وكأنه تعليمٌ للأمة كيف يستدلون على المخالفين، وهو في أول الأمر موضوع  لذلك".

نعم، يكون الدليل الشرعي من الكتاب والسُّنَّة على طريقة البرهان العقلي؛ لأن الناس في أول الأمر لو تقول: قال الله -جل وعلا-: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ}[طه:14]، وهو ما أسلم ما يستفيد من هذا الدليل؛ لأنه ينازعك في الأصل، لكن لمّا تأتي له بدليلٍ عقلي، إذا تأمله أذعن له، الدليل الثاني الذي يستدل به على الموافِق هذا تدعمه المعجزة التي جعلت المسلم يسلم، ثم يذعن للنص الشرعي {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}[طه:14]هذا أمر، لو تقول لشخص لم يسلم: أقم الصلاة، قال لك: لا، يرفض؛ لأنه ما أسلم، لكن لما تأتي له بدليل عقلي فإنه يُذعِن، ثم بعد ذلك أملِ عليه الدليل الشرعي، والدليل العقلي كثير في القرآن، الدليل العقلي كثير في القرآن لمجادلة المخالف، أما مجادلة الموافِق فتكون بالضرب الثاني.

"ويدخل هنا جميع البراهين العقلية وما جرى مجراها كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:22]".

نعم، لو شخص ينازع في الربوبية ويقول: كلٌّ له ربه وكلٌّ له إلهه، تقول له: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:22]، والمتكلمون يعبرون عن مثل هذا بدليل التمانع، بدليل التمانع أنه لو وُجِد أكثر من إله فإنه لا بد أن يكون أحدهما أقوى من الآخر، أو يكونان سواء، فإن كانا سواء فمن الذي أوجد الثاني؟ وإذا قيل إن كلاًّ منهما أوجد نفسه فيقال: من أوجدهما؟ وإذا اعترف المخالف بأن أحدهما أقوى من الآخر فيحنئذٍ لا يمكن أن يذعن الأضعف الأقوى للأضعف، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، قد يقول قائل: نرى أن في الأرض مئات الدول وفيها الرؤساء القوي والضعيف، وماشية أمورهم، والله -جل وعلا- يقول: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:22] هنا حينما يحصل الانفكاك، وكلٌّ يقوم بشأنه وشأن رعيته يتصور، لكن في حق من لا يستطيع القيام لا يستطاع القيام إلا به، هل يمكن أن ينازعه أحد؟ حتى من يدعي المنازعة مفتقرٌ ومحتاجٌ إليه في خلقه ورزقه وتدبيره وإحيائه وإمامته وإماتته، وحينئذٍ تنقطع المنازعة، ولا يمكن التنظير باختلاف الدول واختلاف مستوى ملوك ورؤوساء هذه الدول في القوة والضعف.

 نعم يوجد من يملك دولة، تعادل مائة دولة من الدول الصغيرة، أو أكثر، وهذا يقال له: ملك، وهذا يقال له: ملك، وهذا يقال له: رئيس، وهذا يقال: رئيس، لكن لو احتاج إليه في وقت من الأوقات، أو سُلِّط عليه لضمه إليه، التهمه وانتهى الإشكال، لكن هذه الدول كلها برؤسائها ومرؤسيها محتاجون إلى من خلقهم، الذي خلقهم واحد أم أكثر؟ لو كان أكثر من واحد لتنازعوا وفسد العالم كله، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:22]، هذا دليل عقلي يذعن له المخالِف، والإمام أبو حنيفة ضرب المثل بسفينة في البحر هل هذه السفينة تقود نفسها أو تُقاد؟ لا بد لها من قائد، ولو افترض أن لها أكثر من قائد، واحد يريد أن يتجه إلى جهة الشمال، والثاني إلى الجنوب، والثالث إلى الغرب، والرابع إلى الشرق، يفسد أمرهم، لا بد أن يكون لها قائد واحد يُسيِّرها إلى اتجاه واحد وإلا لفسد الأمر.

"وقوله: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}[النحل:103]".

لما قالوا إن محمدًا -عليه الصلاة والسلام- يجلس عند فلان الرومي، ويأخذ منه هذا القرآن؛ لأن ذاك من أهل الكتاب، وعندهم كتاب بل عندهم كتب، ويأثرون عن أنبيائهم، ويملي على النبي -عليه الصلاة والسلام-، هذا الذي اتهمتم محمدًا به -عليه الصلاة والسلام- أعجمي، وهذا لسانٌ عربيٌ مبين، كيف أعجمي يملي كلامًا عربيًّا؟ دليل عقلي أم ؟ نعم دليل عقلي مُلزِم، دليل، هناك أدلة مُلزِمة مُسكِتة، تستعمل مع المخالِف.

 يعني لو قال لك شخص: إنني أروي عن فلان، أو قرأت على فلان، الشيخ فلان تعرف أنه تُوفِّي قبل خمسين سنة، هذا معروف ومستفيض ومدون في كتب التواريخ، وهذا الذي ادعاه في الأربعين من عمره حتى إذا سألته قال: أنا عمري أربعون، يستطيع أن يواجه ويجادل ويحاجّ إذا أحضرت وفاة الشيخ المُدعَى التتلمذ عليه؟

طالب:...

يعني شخص عنده كتاب هدية من المؤلِّف، من طلاب العلم الموجودين الآن، هدية من المؤلِّف والمؤلِّف ابن القيم يُقبَل أم ما يُقبَل؟ ما يمكن، هذه دوامغة، ولذلك العلماء من أهل الحديث لما استعمل الناس الكذب استعملوا التاريخ، فانكشف كثير من الرواة، انكشف زيتهم زيفهم، لما يقول: إني رويت عن عبد الرزاق، يلتفت إليه شخص تقول تروي عنه بعد ما مات بخمسين سنة؟ حجج ملزمة، لا يمكن أن يفرّ عنها المخالف أو يحيد، ما هي بحجج نظرية يمكن الإجابة عنها، حجج قطعية وواقعية.

"وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ}[فصلت:44]وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}[يس:81] وقوله: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [الْبَقَرَةِ : 258] ".

نعم، ادعى الربوبية، فقال له إبراهيم عليه السلام: إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبُهِت الذي كفر، ما يستطيع أن يجيب، أجاب عن السؤال الأول، {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}[البقرة:258] وإن كان جوابه ضعيفًا لكم يمشي على السُذج، لكن يمشي مثل هذا فائت بها من المغرب هل يستطيع؟ ما يمكن.

"وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} [ الرُّومِ : 40 ] إلى قوله: {هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} وهذا الضرب يُستدَل به على الموالف والمخالف".

يعني الموافق في الدين والمخالف، يعني لو أن أحدًا من المسلمين صار عنده شك أو ريب في بعض القضايا فأُتي له بدليلٍ عقلي من القرآن، ما يستطيع أن يفرّ ولا يحيد كالمخالِف، ويستدل به على المخالِف الذي لا يذعن للشرع بحيث لا يمكن أن يستدل له بالأدلة الشرعية المبنية على المعجزات.

"لأنه أمرٌ معلومٌ عند من له عقل، فلا يقتصر به على الموافق في النحلة، والثاني: مبنيٌ على الموافقة في النحلة، وذلك الأدلة الدالة على الأحكام التكليفية كدلالة الأوامر والنواهي على الطلب من المكلف، ودلالة {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [ الْبَقَرَةِ : 178]، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [الْبَقَرَةِ: 183]، {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} [الْبَقَرَةِ : 187]، فإن هذا".

يعني لو تأتي إلى مخالف، تأتي إلى مخالف، شخص لم يسلم بعد تقول: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [الْبَقَرَةِ: 183 ]؟ {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [ الْبَقَرَةِ : 178]؟ ما يذعن؛ لأنه لم يسلم، وهذه الأدلة إنما توجه إلى الموافِق، المؤالف، المذعن لأحكام الشرع، أما الذي لا يذعن لأحكام الشرع فإنه لا توجه إليه هذه الأسئلة، إنما يوجه إليه النوع الأوّل، فإذا التزم بمدلولها وجّه إليه بحيث صار موافقًا يوجه إليه الضرب الثاني.

"فإن هذه النصوص وأمثالها لم توضع وضع البراهين، ولا أتي بها في محل استدلال، بل جيء بها قضايا يعمل بمقتضاها مسلمة متلقاة بالقبول، وإنما برهانها في الحقيقة المعجزة الدالة على صدق الرسول الآتي بها، فإذا ثبت برهان المعجزة ثبت الصدق، وإذا ثبت الصدق ثبت التكليف على المكلف. فالعالِم إذا استدل بالضرب الأول أخذ الدليل إنشائيًّا كأنه هو واضعه، وإذا استدل بالضرب الثاني: أخذه معنى مسلمًا لفهم مقتضاه".

العالِم إذا استدل على المخالف بالضرب الأول كأنه هو واضعه، يستدل به مباشرةً على المخالِف، لا يستدل على أنه نزل من عند الله -جل وعلا-؛ لأنه لا يؤمن بالله، وقد يوجِد أدلة عقلية من تلقاء نفسه، يذعن لها المخالِف وهي من تلقاء نفسه، كما استدل الإمام أبو حنيفة بالسفينة، واستدل غيره بأدلة كثيرة، وجود أدلة عقلية يذعن لها المخالِف، لكن لا يستدل بها على أنها أدلة شرعية، كأنها من تلقاء نفسه، كأنه هو واضعها؛ لأن الخصم المستدَّل عليه لا يذعن لمن استدللت بكلامه.

طالب:...

هو يتلوها عليهم يتلو كتاب الله وهم يفهمون. وهم يفهمون.

طالب:...

في بداية الأمر عقلية نعم، حتى في المناظرة في الكوكب.

طالب:...

نعم.

طالب:...

{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا}[الأنعام:76].

طالب:...

نعم، دليل عقلي، دليل عقلي، الوحي لا يخاطب به إلا المذعن، الموافق.

"وإذا استدل بالضرب الثاني: أخذه معنى مسلمًا لفهم مقتضاه إلزامًا والتزامًا، فإذا أُطلِق لفظ الدليل على الضربين فهو إطلاقٌ بنوع من اشتراك اللفظ؛ لأن الدليل بالمعنى الأول خلافه خلافه بالمعنى الثاني، فهو بالمعنى الأول جارٍ على الاصطلاح المشهور عند العلماء، وبالمعنى الثاني نتيجة أنتجتها المعجزة فصارت قولاً مقبولاً فقط".

يعني من غير نظر، يعني من باب التسليم والاستسلام؛ لأن المسلم إذا أسلم معناه أنه استسلم لله -جل وعلا-، فمعنى الإسلام الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد بالطاعة والخلوص من الشرك.

طالب:...

شيخ الإسلام.

طالب:...

هذا الأصل هذا الأصل، لن تجزي عن أحد بعدك، شيخ الإسلام يقول بالوصف، إذا وجد من وصفه مثل وصف أبي بردة تجزئ عنه.

طالب:...

والله اعتبر، لن تجزئ لأحد بعدك، صريح الكلام، ماذا؟

طالب:...

هذا الأصل هذا الذي حمله الجمهور على أنه خاص بسالم مولى أبي حذيفة.

طالب:...

شيخ الإسلام يرى أن الحاجة إذا دعت إلى ذلك، عامة أهل العلم على أن رضاع الكبير لا يؤثر، والله نحن مع الجمهور، إن شاء الله.