شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الصوم (عام 1427 هـ) - 17

 

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقةٍ جديدة في شرح كتاب ((الصوم)) من كتاب ((التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح)).

مع بداية هذه الحلقة نُرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المُستمعين.

المقدم: كنا في الحلقة الماضية توقفنا عند الحديث عن ترجمة سلمان- رضي الله عنه- آخر ما توقفنا عنده الحديث أو الخلاف حول عُمُرهِ- رضي الله عنه-.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فقد ذكرنا ما قاله ابن عبد البر في ترجمة سلمان الفارسي في (الاستيعاب)، ثمَّ نقلنا عن (الإصابة) قول الذهبي: وجدت الأقوال في سِنهِ كلها دالةٌ على أنه جاوز المائتين والخمسين، والاختلاف إنما هو في الزائد. ثمَّ رجعتُ عن ذلك وظهر لي أنه ما زاد على الثمانين. هذا كلام الذهبي.

قال ابن حجر: ولم يذكر مُستنده في ذلك.

المقدم: في المائتين والخمسين أم في الثمانين أم في أيهما؟

لا في الثمانين ولا في نفي الزائد عنها إلى المائتين والخمسين، ولا في نفي الزائد عن المائتين والخمسين. قرر، يعني كأنه ظهر له من خلال القرائن أنه ما زاد على الثمانين.

المقدم: يعني يوجد أحد قال بالمائتين والخمسين غير الذهبي؟

كثير، كثير، كل من ترجم له قال: مائتان وخمسون. لكنهم ما عندهم مُستند، والذهبي أيضًا ما عنده مُستند للنفي. لكن إن كان الذهبي يستند إلى مثل حديث: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» وأنه لم يوجد في الوقوع، يعني في الواقع مَن جاوز، مَن وصل إلى المئتين فضلاً عمن زاد عنها. نعم، يندُر من يصل إلى المائة والخمسين مثلاً. لكن إلى المائتين، هذا شيء مُستغَرَب، حتى لو طُرِح في مجالس الناس بودر بتكذيبه.

المقدم: صحيح، لكن وفاته- رضي الله عنه- سواءً كان في عهد عُمَر أو قبله بقليل، موضع الخلاف فيها يسير؟

نعم، سهل. يعني سنة خمسة وثلاثين، أو في آخر خلافة عُمر- رضي الله عنه- سنة ثلاثة وعشرين.

المقدم: يعني ما يُمكن أن يُقال بخلاف هذا؟ أقصى شيء خمسة وثلاثون؟

خمسة وثلاثون، نعم. لكن الكلام فيما قبل ذلك. يعني انتقل من دين إلى دين، يعني يحتاج إلى عُمرٍ طويل.

المقدم: لكن قبل ذلك، يا شيخ، قد يكون ...

ويصحب كبير علماء اليهود حتى يموت، ثمَّ يصحب كبير علماء النصارى، يعني.. هذه ليست قطعيات، لكنها دالة على أنه عُمِّر. أما التحديد بالمائتين والخمسين أو الثلاثمائة على ما قال بعضهم، كل هذا يحتاج إلى دليل. وعلى كال حال، الذهبي أحيانًا قد يتدخَّل في بعض الأمور. يعني صالح بن كيسان، قال أهل العلم: إنه بدأ طلب العلم وعمره تسعون سنة، الذهبي يقول: أبدًا ما زاد على الخمسين، مثلاً، يجزم بهذا أو غيره. يعني كأن الناس.. يعني صحيح أن النفوس تشرئِب إلى المبالغات ويتناقل الناس ويتداولون بعض ما قيل عن سلمان مثلاً أو صالح بن كيسان، لكن أيضًا النفي يحتاج إلى دليل. فإن كان المُستند، يعني مثل: «أعمار أمتي» وقليل، فليُعتبَر من هذا القليل.

إلا إذا وُجِد علامات ودلائل بالتواريخ؛ لأن الوضَّاعين والقُصاص كثيرًا ما يرتكبون مثل هذه الأمور، لكن أهل العلم إنما اعتمدوا التاريخ لتقويض ما يعتمدونه من هذه الأمور. وكم من شخصٍ ادعى أنه سَمِع من فلان؛ طلبًا للعلو والتشبُّع بما لم يُعط. فإذا سُئِل عن عُمره، وُجِد أنه لم يولد قبل وفاة فلان؛ فاستعملوا الكذب فاستعمل أهل الحديث التاريخ. فالتاريخ مُهم جدًّا في هذا الباب، لكن يبقى أن مثل هذه المسألة ما يترتب عليها شيء. يعني إنما تُذكر من باب أنها تاريخ فقط.

المقدم: صحيح، لكن القضية الأهم في ثبوت الصُّحبة مُنتهية قطعية.

بلا شك، فضله أيضًا وما ورد فيه من أحاديث تدلُّ على أن له مناقب- رضي الله عنه وأرضاه-.

ابن حجر يقول: لم يذكر مُستنده في ذلك، يعني الذهبي.

أبو الدرداء في (الإصابة): عويمر أبو الدرداء، مشهورٌ بكُنيته وباسمه جميعًا. مشهور بالكُنية أبو الدرداء، ومشهور باسمه أيضًا عويمر.

وجاء في بعض النصوص تسميته، واختُلِفَ في اسمه، فقيل: عامر وعويمر لقب.

كيف يقول: مشهور باسمه ويُختَلَف في اسمه؟

المقدم: لأن الاختلاف في عامر وعويمر، أيسر من الاختلاف مثلاً في عبد الله وعبد الرحمن.

لا، هو مشهور بعويمر، لكن هل هو اسم أو لقب؟

المقدم: نعم، هنا يكون ..

نعم، الشُهرة أبي الدرداء والشُهرة بعويمر. لكن هل هي لقب أو اسم؟

المقدم: هل الاسم الصريح عامر ويصغَر بعويمر؟

ويُصغَّر عويمر، احتمال. أو من الأصل اسمه عويمر.

واختُلِف في اسمه؛ لأنه إذا قيل: مشهورٌ بكُنيته واسمه، ثمَّ نقول: اختُلِف في اسمه، يكون فيه شيء من الاضطراب. لكن إذا قلنا إنه مشهور بأبي الدرداء ومشهور بعويمر، على الخلاف في عويمر هل هو اسم أو لقب، ينتفي الإشكال.

اختُلِف في اسمه، فقيل: عامر وعويمر لقب، حكاه الفلَّاس عن بعض ولده. يعني بعض ولد أبي الدرداء، يعني من ينتسبون إليه.

وبه جزم الأصمعي. واختُلِفَ في اسم أبيه، فقيل: عامر، يعني عامر ما يركب على القول الأول في اسمه إنه عامر. لكن لو يُقال: عويمر بن عامر، ماشٍ. أو مالك أو ثعلبة أو عبد الله أو زيد، وأبوه، على أي قول من هذه الأقوال: عامر أو مالك أو ثعلبة أو عبد الله أو زيد، إذا ترجَّح واحدٌ منها، فهو ابن قيس بن أمية بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج، الأنصاري الخزرجي.

قد يقول قائل: يُختَلَف في القريب، الذي هو الأب، ويُتفَق على الجد وما بعده إلى الخزرج؟ لأنه اختُلِف في اسم أبيه، يُقال: عامر أو مالك أو ثعلبة أو عبد الله أو زيد. وأبوه ابن قيس بن أمية بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج، الأنصاري. يعني يجزمون بمثل هذا ويختلفون في الأدنى، مع أن الأدنى أولى بالاتفاق من الأعلى. لا، هم عندهم طريقة في ضبط الأبعد بالربط.

الربط: يلتقي مع فلان بقيس، ثمَّ خلاص انتهى الإشكال.

ولذلك النووي- رحمه الله- نصَّ في مواضع من كتبه أن على كل طالب علم أن يحفظ نَسَب النبي- عليه الصلاة والسلام- كاملاً.

المقدم: إلى أين؟

إلى المُتفق عليه، حتى المُختَلَف فيه يَحْسُن حفظه. لماذا؟ لأن الصحابة- رضوان الله عليهم- لاسيما القرشيين، يُذكر نَسَب واحد واثنين وثلاثة وقد يُختَلَف في الرابع، ثمَّ يُقال: يلتقي مع النبي- عليه الصلاة والسلام- بكذا، ثمَّ أكمِل بدون خلاف.

فلعله يُربَط بابن قيس بشخصٍ مضبوط، أما من دونه ممن لم يُربَط بأحد قد يُختَلَف فيه، وهذه فائدة من النووي مهمة جدًّا؛ لأنها تُريح في حفظ الأنساب.

أسْلَم أبو الدرداء يوم بدر وشَهِد أُحدًا وأبلى فيها. عن شريح بن عُبيدٍ، قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يوم أُحُد: «نِعمَ الفارس عويمر» وقال: «هو حكيم أمتي». وولي قضاء دمشق في خلافة عُمَر- رضي الله عنهما-. مات لسنتين بقيتا من خلافة عثمان، وقيل: مات سنة اثنتين وثلاثين. الفرق يسير يعني؛ لأنه ثلاثة وثلاثين أو اثنين وثلاثين..

المقدم: شيخنا، أحسنَ الله إليك، في إسلامه- رضي الله عنه- في بدر، مع أن المؤاخاة كان بعد وصول النبي- صلى الله عليه وسلم- المدينة، هل هذه من المؤاخاة المتأخرة؟ وقبل قليل قلنا: إن المؤاخاة..

كل من أسلَم، أُلحِق بغيره.

المقدم: وقطع المؤاخاة بعد بدرٍ، التوارث؟

المقصود بها التوارث.

المقدم: وإلا فإن كل مَن أسْلَم أُلحِق بغيره؟ ولو تأخر.

نعم، في التعاون والتناصُر.

المقدم: يعني إذًا في زُمرة من الصحابة- رضي الله عنهم- ممن لم يحضروا المؤاخاة الأولى بعد وصول النبي- صلى الله عليه وسلم-، هذه كانت مؤاخاة متأخرة؟

نعم.

المقدم: طيب ممكن نقول: إن سلمان أيضًا لم يُسْلِم إلا متأخرًا أيضًا بعد بدر بناءً على هذه المؤاخاة؟

الخندق، أول مشاهده الخندق.

أما إسلامه واعترافه بالنبي- عليه الصلاة والسلام- فقديم.

لما وُصِف له- عليه الصلاة والسلام- ورأى العلامات مُنطبقة، أسْلَم.

المقدم: ممكن أن يبقى بعض الصحابة بدون مؤاخاة حتى يأتي من يؤاخى معه؟

نعم، مَن يُلحَق به.

فزار سلمان أبا الدرداء: يعني في عهد النبي- صلى الله عليه وسلم-، فوجد أبا الدرداء غائبًا، فرأى سلمان أم الدرداء مُتبذلة، يعني كون أبي الدرداء غائبًا، كونه غائبًا، غيابه لا يعني خلو البيت من مَحْرَم غير أبي الدرداء؛ للأدلة القطعية بتحريم الخلوة. يعني ما تُترَك النصوص القطعية لحادثة، البيت لابد فيه مَحْرَم.

المقدم: هذه قضية المَحْرَم، قضية ثانية الرؤية.

رآها من بعيد، ما المانع؟ رأى أم الدرداء عليها ثياب مُتبذلة وخاطبها لحاجة، أنكر عليها هذه البِذلة.

المقدم: لكن ما يُستدَل بهذا على كشفها و... ؟

لا، رآها مُتبذلة، رأى الثياب، غير مناسبة لامرأة ذات زوج. يعني عليها ثياب بِذلة، ثياب مهنة غير مُناسبة أبدًا لامرأة ذات زوج.

فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى سلمان أم الدرداء مُتبذِّلة، بفتح المُثناة والموحدة وتشديد الذال المُعجمة المكسورة، أي: لابسةً ثياب البِذلة، بكسر الموحدة وسكون الذال، وهي المهنة وزنًا ومعنىً، قاله الحافظ.

وفي (المصباح): بذل الثوب وابتذله، لبسه في أوقات الخدمة والامتهان، والبِذلةُ مثال سِدرة، ما يُمتهَنُ من الثياب في الخدمة، والفتح لغة: بَذلَة.

قال ابن القوطية، ابن القوطية مرَّ بنا أم لم يمر؟ هذا له كتاب اسمه (الأفعال) كتاب (الأفعال) لابن القوطية.

المقدم: في اللغة؟

نعم، كتاب (الأفعال). هناك أيضًا أكبر منه كتاب (الأفعال) للسراقسطي، وفي الباب أكثر من كتاب. يعني أذكر منها مطبوعًا ثلاثة أو أربعة.

المقدم: كلها في الأفعال؟

نعم.

المقدم: يريدون بالأفعال الفعل ذاته؟

نعم، الفعل وزنته وتصاريفه. المقصود أن هذا الكتاب هو أصغر الكتب المطبوعة في الباب، لكنه أجودها، أجود كتب الأفعال.

المقدم: لابن القوطية؟

نعم.

المقدم: عربي، يا شيخ؟

نعم، أندلسي.

قال ابن القوطية: بذلتُ الثوبَ بِذلةً، لم أصنهُ. يعني من الابتذال، لم أصنهُ وابتذلت الشيء امتهنته. والمِبذلة، بكسر الميم، والتبذُّل خلاف التصاون. يعني شخص يبتذل نفسه، تجده في كل موقع مثلاً واللائق به أن يتصاون؛ لأنه من طبقة مُعيَّنة في علمه أو عمله أو ما أشبه ذلك، يكون هذا ابتذل نفسه وامتهنها، فينبغي أن يترفَّع.

وقد يكون الابتذال أحيانًا لاسيما إذا ترتب عليه مصلحة؛ لدعوة من يُخالط مثلاً، قد يكون مطلوبًا. لكنه لا ينبغي أن يُهين نفسه.

والمراد أنها- يعني أم الدرداء- أنها تاركةٌ للبس ثياب الزينة وللكُشميهني مُبتذلة، بتقديم الموحدة والتخفيف، وزن مُفتعلة والمعنى واحد، قاله الحافظ ومثله في (عُمدة القاري).

وفي ترجمة سلمان من (الحلية) لأبي نُعيم، في الجزء الأول صفحة سبع وثمانين ومائة: أن سلمان- رضي الله عنه- دخل على أبي الدرداء، فرأى امرأته رثة الهيئة، فقال: مالكِ؟ علمًا بأن أم الدرداء كبيرة السن جدًّا، كبيرة يعني، هذه أم الدرداء الكبرى التي توفيت قبل أبي الدرداء بأزمانٍ متطاولة، توفيت قبله بكثير، وتزوج بعدها على ما سيأتي. يعني الأمر في مثلها يهون، علمًا بما بينهم من الألفة والخُلطة والأخوة، تقتضي أن يلحظ امرأته من بعيد أو يلاحظ عليها شيئًا، وهو أيضًا قد يُكلمها للحاجة كما هنا.

وفي ترجمة سلمان من (الحلية) لأبي نُعيم: أن سلمان- رضي الله عنه- دخل على أبي الدرداء، فرأى امرأته رثة الهيئة، فقال: مالكِ؟ قالت: إن أخاك لا يريد النساء، إنما يصوم النهار ويقوم الليل. فأقبل على أبي الدرداء، فقال: إن لأهلك عليك حقًّا، فصلِّ ونَم، وصُم وأفطِر. فبلغ ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقال: «لقد أوتي سلمان من العلم»، وعندنا في الحديث: «صدق سلمان»، رواه الأعمش عن ابن شِمر بن عطية عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبي الدرداء، وهذا الخبر بهذا الإسناد ضعيف.

المقدم: شهر ضعيف.

نعم.

وأم الدرداء هذه هي خيرة بفتح المُعجمة وسكون التحتانية، بنت أبي حدرد الأسلمي، صحابية بنت صحابي، وماتت قبل أبي الدرداء.

ولأبي الدرداء أيضًا امرأةٌ أخرى يُقال لها: أم الدرداء، تابعية اسمها هُجيمة، عاشت بعده دهرًا وروت عنه.

والكُنية أبو الدرداء هذه ما معنى الدرد؟ الدرد في (المصباح) يقول: دَرِدَ من باب تَعِب، سقطت أسنانه وبقيت أصولها فهو أدْرَد، والأنثى درداء، مثل أحمر وحمراء، وبها كُني فقيل: أبو الدرداء وأم الدرداء.

المقدم: يعني أسنانه كانت ساقطة؟

هذا هو الأصل.

المقدم: شيخنا، في مسألة التبذُّل قبل قليل، قلت: نضبط هذه المسألة؛ لأنه مع الأسف البعض يزيد في مسألة التبذُّل ويرى أنه وارد فيها نصوص وبعضهم يحكي- إن صح الخبر-: التبذُّل من الإيمان، وغير ذلك مما يتحدثون به. هل هناك ضابط لمسألة التبذُّل؟ يتبذَّل المؤمن أو ما يتبذَّل؟ ولا حسب الحال؟

أما بالنسبة للنظافة والتجمُّل والله جميل و«الطهور شطر الإيمان»، هذا أمر لا إشكال فيه هذا أمر قطعي في الشرع عندنا، وديننا دين الطهارة والطُّهر. لكن كونه جاء من الحديث: «البذاذة من الإيمان» وهذا حديث مُصحح عند أهل العلم، «البذاذة من الإيمان»، هذا لتُكسَر حدة بعض الناس الذين يبالغون في النظافة؛ ولذا حثَّ النبي- عليه الصلاة والسلام – على الترجل وإكرام الشعر والإدهان وغير ذلك. لكنه غِبًاّ، وليس هذا كل يوم، بخلاف ما نراه في واقعنا ومجتمعنا وما قرأنا في كتب الأدب والتواريخ وغيرها من حال بعض الناس الذي يُمضي كثيرًا من الوقت في هذا الباب، ويكون هذا على حساب المُهمات من أمور الدين والدنيا. فالشرع يأتي بالتوازن فيأمر بالطُّهر والعفاف و«الطهور شطر الإيمان» والاغتسال و«غسل الجمعة واجبٌ على كل مُحتَلِم» ويُشدد فيه.

المقدم: وسُنن الفطرة.

وسُنن الفطرة، نعم، هذا كله موجود في شرعنا. لكن مع ذلك لا بد أن لو جاءت هذه النصوص، غالى من غالى وبالغ من بالغ، حتى صار على حساب الأمور المهمة. فجاء بعض النصوص ليكسِر مثل هذه الحدة، كما هو سائر أبواب الدين أو سائر مناحي الحياة عندنا فيها التوسط، تجد الحث ثمَّ ما يُخفف من هذا الحث؛ ليكون المسلم في أموره متوسطًا، في أموره كلها، فيما يتعلَّق بدينه ودنياه. حتى في أمور الدين، عليه أن يتوسَّط كما سيأتي في شرح هذا الحديث.

فلا بد من النظر بعين الإنصاف. الآن كثير من الناس عندهم صوالين يمضون فيها أكثر الوقت، وبعضهم يُبالغ في الثياب بحيث لو أصيب بأدنى خدش، فعلى الإنسان أن يكون متوسطًا في أموره كلها. لا يلبس ولا يظهر بمظهرٍ بحيث يُزدرى ويُنال الدين بسببه، ولا يُبالغ في ذلك بحيث يكون على حساب المهمات من أمور الدين والدنيا.

يعني ديننا- ولله الحمد- هل تعلم أن غسَّالاً في بعض بلاد الكفر أسْلَم من غير دعوة، غسَّال ثياب، أسْلَم من غير دعوة، لما قيل له، قال: تأتيني ثياب المسلمين ما فيها رائحة على أقل الأحوال، من أجل الاستنجاء. وتأتيه ثياب الكفار ما تُطاق رائحتها. فهذا من محاسن ديننا، ولله الحمد.

فهذا أمرٌ..

المقدم: ألا يُقال: أن البذاذة أيضًا ربما يكون فيها معالجة للنفس، يا شيخ؟ أحيانًا بعض الناس، يعني المبالغة في هذه الأمور تؤثر على نفسه وربما ترفع من شأن نفسه عند نفسه، فيكون فيه سبب للغطرسة والكِبر وازدراء الآخرين، فتأتي هذه البذاذة لكسر هذه الحدة، يعني معالجة النفس أمر ضروري أيضًا في الملبس والمركب.

أنت تنظر في واقع الناس، يعني كثير من الناس يتأثر بمثل هذه الأمور، فطالب علم مثلاً تخرَّج في الجامعة حديثًا مثلاً ولبس بشتًا من الأنواع الفاخرة، ما يكون وضعه هذا؟ كيف تكون النفس التي بين جنبيه؟

مثل هذا لا شك أن له أثرًا في النفس، لا نقول كل الناس، لا نقول جميع الناس أو كل من لبس، لا، حاشا وكلا. لكن يوجد من رَكِب سيارة فارهة أو سَكَن قصرً مشيدًا، لا شك أنه يحصل في نفسه، النفس ضعيفة، فتتأثر بمثل هذه الأمور. ولذلك على الإنسان أن يكون وسطًا في أموره كلها. يعني أنت تتصور شخصًا يسكن قصرًا مثلاً، وبعد ذلك- هذا ذكرناه مرارًا وحصلت وقائع من هذا- يعني شخص ذهب ليجاور في العشر الأواخر من رمضان في بيت الله الحرام، في أقدس البِقاع وفي أشرف الأوقات، ويشترط فندقًا خمس نجوم وسبع نجوم! هذا يعني..

فهذا لا شك أن لهذا أثرًا في قلبه، والوقت وقت عبادة. ولا يعني هذا أنه يُقال: يسكن خِرَب أو ما أشبه ذلك، كما في كتب المتصوفة: أن فلانًا يأكل مع الكلاب في المزابل. لا، لا هذا ولا هذا. يعني على الإنسان أن يتوسط في أموره. يعني يبحث عن مسكن نظيف، هذا مطلوب، يسكن مسكنًا مناسبًا له. فلا شك أن لهذه المظاهر آثار على النفوس؛ ولذلك في الكتب التي تعالج أمراض القلوب ينصون على مثل هذه الأمور، يعني مثل ابن القيم وغيره من أهل العلم، وابن رجب، يعالجون مثل هذه القضايا، لكن ليست مثل معالجة الشعراني أو النبهاني أو غيره، حينما يذكر في كرامات الأولياء أو في طبقاتهم، يذكر أنه يأكل في المزابل مع الكلاب وكذا. هذا أبدًا، لا يُمكن أن يُقر، لا شرع ولا عقل.

المقدم: هذا في جانب، شيخ أحسن الله إليك، في جانب الملبس والهيئة. أيضًا ربما يكون في جانب التصرفات، أن يوجد مثل هذا التوازن وهو مُهم. يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- لما جاءه النهي {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ.. } [سورة الأنعام 52] يعني هذا النهي أيضًا فيه جزء من التوازن في التعامل. يعني بعض الناس الآن نسمع أنه لا يُمكن أن يأكل مع الضعفاء، ولا يُمكن أحيانًا أن يصُف في المسجد عند بعض العمال، وهذا أخطر على النفس من مسألة البذاذة في اللبس وغيرها.

هذا جاء في ترجمة بعض الرواة أنه لا يُصلي في المسجد من أجل أن يُصلي بين حمال وزبال وما أشبه ذلك، وضُعِّف بهذا.

وأن تجد الأعلام الشوامخ من الرموز في هذه الأمة يأكلون بين الفقراء والمساكين، ويكون المُقدَّم لديهم هم هؤلاء، هذا الصنف من الناس. وتركنا كبار شيوخنا من هذا النوع، تجد عنده وجهاء وأعيان ثمَّ بعد ذلك يتقدَّم بين يديهم، لما عرفوا من طبع هذا العالم وهذا الفاضل، الفقراء وبعضهم معاتيه ومساكين، ويرجون بذلك ثواب الله -جلَّ وعلا-. بخلاف من تجده إذا كان عنده الرجل من سيطة الناس، ولو كان عالمًا فاضلاً دينًا ورعًا، جاءه من جاءه من الأعيان أو كذا، انصرف بالكلية وترك هذا الذي عنده، هذا ليس من خُلُق الشرع أبدًا.

المقدم: جزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم ونفع بعلمكم.

لعلنا نستكمل- بإذن الله- ما تبقى في حلقةٍ قادمة وأنتم على خير.

أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب ((الصوم)) في كتاب ((التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح)).

لقاؤنا بكم في حلقةٍ قادمة بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.