كتاب الإيمان (29)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فيقول الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: بَابٌ: حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: «بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ؛ إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ»، فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ".

يقول ابن حجر -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: ("بابٌ" كذا هو في روايتنا بلا ترجمة)، (بلا ترجمة) يعني ما قال: باب بيعة العقبة، أو قال: بابٌ مما يتعلق بالسابق مثلاً، باب سبب تسمية الأنصار، أو باب كذا... المهم أنه ما ترجم، قال: "بابٌ" فقط. (كذا هو روايتنا بلا ترجمة، وسقط من رواية الأصيلي أصلاً)، يعني ملحق بالباب السابق بدون فاصل، بدون "باب"، (فحديثه عنده من جملة الترجمة التي قبله، وعلى روايتنا فهو متعلق بها أيضًا)، لماذا؟ يقول: (لأن الباب إذا لم تُذكر له ترجمة خاصة فيكون بمنزلة الفصل مما قبله مع تعلقه به)، الكلام لن يتكرر في غير هذا الموضع يا إخوان، وهذه فائدة: (لأن الباب إذا لم تُذكر له ترجمة خاصة يكون بمنزلة الفصل مما قبله مع تعلقه به، كصنيع مصنفي الفقهاء).

 يذكرون الباب ويذكرون تحت الباب فصولاً، (كصنيع مصنفي الفقهاء، ووجه التعلق)، يعني ما علاقة هذا الحديث بالباب السابق؟ قال: (ووجه التعلق أنه لما ذكر الأنصار في الحديث الأول أشار في هذا إلى ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار؛ لأن أول ذلك كان ليلة العقبة لمَّا توافقوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عند عقبة مِنى في الموسم، كما سيأتي شرح ذلك إن شاء الله تعالى في السيرة النبوية من هذا الكتاب)، عند العقبة في مِنى، وهناك مسجد في مِنى يقال له: مسجد البيعة، يزعمون أن البيعة حصلت عند هذا المسجد في هذا المكان، وأقيم عليه مسجد في عهد المهدي العباسي، وما زال المسجد قائمًا إلى الآن، وهو شبه حوش المسجد.

طالب: سمي .......... يا شيخ؟

ماذا؟

طالب: سمي مسجد عمر بن الخطاب؟

لا لا، مسجد البيعة.

طالب: الحجر ..........

مسجد البيعة يسمى، وهو ما فيه عليه سقف ولا شيء، مثل الحوش، ويأتيه الحجاج والزوار ويتبركون به ويفعلون عنده ما يفعلون، والله المستعان. وكان مستورًا بجبل لما جاءت أعمال التيسير على الناس في الجمرات أزيل الجبل فبرز للناس، وهو في طريقهم أيضًا، في ذهابهم وإيابهم من مِنى إلى مكة. وعلى كل حال هو قائم إلى الآن معالمه ظاهرة، لكنه لا يُصلى فيه، إنما يُتبرك به، وبعض الحجاج يفعلون أشياء غير مقبولة. فالمقصود أن هذا المكان يُدعى أنه هو الموضع الذي حصلت عنده بيعة العقبة.

طالب: ..........

ماذا؟

طالب: ..........

نعم.

طالب: ..........

لا ما يلزم، وهذا موجود في الروايات، موجود في الروايات المتصلة إلى البخاري.

طالب: ..........

لا، في هذا المكان، كل مكان له ظروفه.

(وسقط من رواية الأصيلي أصلاً)، رواية الأصيلي ما فيها "باب". له نظائر كثيرة، "باب" بدون ترجمة موجود في البخاري.

طالب: ..........

و"باب" بترجمة ما فيه أحاديث موجود أيضًا في البخاري، ويأتي له أمثلة، وبينا هذا في مناسبات كثيرة: أنه قد يذكر الباب بلا ترجمة، ويكون كالفصل من الباب الذي قبله، وقد يُلتمس رابط بين الحديث الذي وُضع تحت هذا الباب بدون ترجمة مع الترجمة السابقة فيعسر أن يوجد ارتباط بينهما إلا من بُعد. وقد يترجم البخاري بباب وكذا ويذكر حكمًا شرعيًّا ولا يذكر تحته حديثًا؛ لينبه أنه لم يصح عنده على شرطه حديث يطابق هذه الترجمة.

طالب: ..........

ابن حجر يلتمس، قال: (أشار في هذا إلى ابتداء السبب في تلقيبهم بالأنصار؛ لأن أول ذلك كان ليلة العقبة لمَّا توافقوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- عند عقبة مِنى في الموسم، كما سيأتي في السيرة النبوية إن شاء الله تعالى).

طالب: ..........

لا، هو فيه ارتباط من بُعد، يعني طيب منهم الأنصار، وما سبب تلقيبهم بالأنصار؟ يحتاج إلى هذا الحديث.

(وقد أخرج المصنف حديث هذا الباب في مواضع أخر في "باب من شهد بدرًا" لقوله فيه: «كان شهد بدرًا»، وفي "باب وفود الأنصار" لقوله فيه: «وهو أحد النقباء»، وأورده هنا لتعلقه بما قبله كما بيناه، ثم إن في متنه ما يتعلق بمباحث الإيمان من وجهين آخرين؛ أحدهما: أن اجتناب المناهي من الإيمان كامتثال الأوامر، وثانيهما: أنه تضمن الرد على من يقول: إن مرتكب الكبيرة كافر أو مخلد في النار، كما سيأتي تقريره، إن شاء الله تعالى). الخوارج يقولون: يكفر، والمعتزلة يقولون: بين منزلتين، لكنه يخلد في النار، والرد عليهم من قوله في نهاية الحديث: «ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله فهو إلى الله؛ إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه»، وأيضًا في الجملة التي قبلها: «ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له»، يعني المرتد إذا أقيم عليه حد الردة يكون كفارة له؟

لا، لكن الكبائر إذا عوقب بها في الدنيا كان كفارة له، وأما إذا لم يعاقب وستره الله فإن أمره إلى الله، وفي هذا رد على من يقول بكفره أو يقول بتخليده في النار.

طالب: ..........

هو هذا سيجيء في كلام طويل جدًّا في هذه المسألة.

(قوله: "عائذ الله")، أبو إدريس الخولاني اسمه عائذ الله بن عبد الله، ويفرق بينه وبين أبي مسلم الخولاني عبد الله بن ثُوب. ("عائذ الله" هو اسم عَلَم، أي: ذو عياذة بالله، وأبوه عبد الله بن عمرو الخولاني صحابي، وهو من حيث الرواية تابعي كبير). يعني أبو إدريس (تابعي كبير، وقد ذُكر في الصحابة؛ لأن له رُؤية، وكان مولده عام حنين، والإسناد كله شاميون)، قد يقول قائل: خَوْلان في الشام أم في اليمن؟

طالب: في اليمن.

في اليمن، يقول: (والإسناد كله شاميون)؟ سكن الشام، ونسب إليها.

(قوله: "وكان شهد بدرًا" يعني حضر الوقعة المشهورة الكائنة بالمكان المعروف ببدر، وهي أول وقعة قاتل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها المشركين، وسيأتي ذكرها في المغازي. ويحتمل أن يكون قائل ذلك أبو إدريس).

 يعني الواصف لعبادة بن الصامت بأنه شهد بدرًا، والواصف له بأنه كان أحد النقباء أبو إدريس، فيكون متصلاً إذا كان عبادة بن الصامت ذكر له ذلك.

(ويحتمل أن يكون قائل ذلك أبو إدريس، فيكون متصلاً إذا حُمل على أنه سمع ذلك من عبادة)، ويحتمل أن يكون قائل ذلك الزهري، فيكون منقطعًا (أو الزهري فيكون منقطعًا)؛ لأن الزهري أدرك عبادة أم ما أدركه؟

طالب: ..........

لا، ما أدرك عبادة، (فيكون منقطعًا، وكذا قوله: "وهو أحد النقباء".

قوله: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" سقط قبلها من أصل الرواية لفظ: قال، وهو خبر "أن")، "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال" هذه جملة تامة، "أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال" الجملة تامة، الاسم موجود، والخبر موجود. أما خبر: "أن عبادة بن الصامت، وكان شهد بدرًا وأحد النقباء"، خبرها قال محذوفة، وهي وإن حُذفت في الخط إلا أن أهل الحديث يُلزمون بذكرها في القراءة.

(وهو خبر "أن"؛ لأن قوله: "وكان" وما بعدها معترِض، وقد جرت عادة كثير من أهل الحديث بحذف قال خطًّا، لكن حيث يتكرر في مثل قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولا بد عندهم مع ذلك من النطق بها)، وقبل التحديث: حدثنا فلان، حدثنا فلان، ينطقون بها: حدثنا فلان، قال: حدثنا فلان. (ولا بد عندهم مع ذلك من النطق بها، وقد ثبتت في رواية المصنف لهذا الحديث بإسناده هذا في "باب من شهد بدرًا"، فلعلها سقطت هنا ممن بعده)، لكن لا يلزم أن تقول: سقطت ممن بعده، قد يكون سقطت منه، يذكرها أحيانًا، ويحذفها أحيانًا؛ لأنها معلومة، والكلام ظاهر ليس فيه لبس ولا غموض سواء ذُكرت أو حُذفت. (ولأحمد عن أبي اليمان بهذا الإسناد: أن عبادة حدثه)، يعني حدث أبا إدريس.

(قوله: "وحولَه" بفتح اللام على الظرفية، والعِصابة بكسر العين الجماعة من العشرة إلى الأربعين ولا واحد لها من لفظها)، العصابة لا واحد لها من لفظها (وقد جمعت على عَصائب وعُصُب)، وعُصْبة هذا جمع أم مفرد؟ هو يقول: (وقد جُمعت على عَصائب وعُصُب) مثل: نَجائب ونُجُب.

طالب: ..........

ماذ؟

طالب: ..........

عُصبة: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8].

طالب: ..........

مثل عصابة، نعم. يعني.

طالب: مجموعة واحدة.

ما هو؟

طالب: يعني العصبة المجموعة الواحدة، والعصائب...

جمع هذه المجموعة.

طالب: جمع المجموعة.

(قوله: «بايعوني» زاد في "باب وفود الأنصار": «تعالوا بايعوني». والمبايعة عبارة عن المعاهدة، سُميت بذلك تشبيهًا بالمعاوضة المالية كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111].

قوله: «ولا تقتلوا أولادكم»، قال محمد بن إسماعيل التيمي وغيره)، يعني من الشراح، (محمد بن إسماعيل التيمي) هذا من شراح الصحيح: (خص القتل بالأولاد؛ لأنه قتلٌ وقطيعة رحم)، لكن لماذا نص على قتل الأولاد وأعظم منه قتل الآباء والأمهات؟

طالب: ..........

يعني بناءً على الواقع.

طالب: نعم.

جرى على ما جرى عليه الواقع، أو لأن الأولاد بصدد أن لا يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم بخلاف الآباء. (قال محمد بن إسماعيل التيمي: خص القتل بالأولاد؛ لأنه قتل وقطيعة رحم).

طالب: ..........

نعم.

طالب: ..........

نعم، والنص، العلة منصوصة في القرآن: {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31].

(فالعناية بالنهي عنه آكد، ولأنه كان شائعًا فيهم: وهو وأد البنات وقتل البنين خشية الإملاق، أو خصهم بالذكر؛ لأنهم بصدد أن لا يدفعوا عن أنفسهم)، يعني من كان يصدق أن الأب يقتل ابنه أو الابن يقتل أباه أو أمه؟ يعني في هذا الزمان كثرت هذه الحوادث، نسأل الله العافية. جاء في الأخبار العاجلة أمس أو قبل أمس يقولون: واحد دخل بيت جدته يسرق، جدته من أبيه، فقاومته فطعنها وقتلها، وإلا قُتل، أقول: قُتل قصاصًا.

(قوله: «ولا تأتوا ببهتان»، البهتان الكذب الذي يَبهت سامعه، وخص الأيدي والأرجل بالافتراء؛ لأن معظم الأفعال تقع بهما؛ إذ كانت هي العوامل والحوامل للمباشَرة والسعي، وكذا يسمون الصنائع الأيادي، وقد يعاقَب الرجل بجناية قولية فيقال: هذا بما كسبت يداك. ويحتمل أن يكون المراد: لا تبهتوا الناس كفاحًا وبعضكم يشاهد بعضًا، كما يقال: قلتُ كذا بين يدي فلان؛ قاله الخطابي، وفيه نظر لذِكر الأرجل)، (وفيه نظر لذكر الأرجل) يعني لو نقتصر على ذكر الأيدي مشى هذا القول، لكن ماذا عن الأرجل؟ لأنه ما يمكن أن يقال: فعلت كذا بين يدي فلان ورِجليه.

(وأجاب الكرماني بأن المراد الأيدي وذكَرَ الأرجل تأكيدًا)؛ لأنه يُذكر الشيء ولا تراد ذاته، وإنما يُذكر تبعًا من أجل التأكيد: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته»، هم قالوا: إن الشمس والقمر تنكسفان للموت، لكن ما فيه أحد قال: إنها تنكسف لحياة فلان، وإنما هو من باب التأكيد، وهذا منه.

(ومحصَّله أن ذِكر الأرجل إن لم يكن مقتضيًا فليس بمانع، ويحتمل أن يكون المراد بما بين الأيدي والأرجل القلب؛ لأنه هو الذي يترجم اللسان عنه، فلذلك نُسب إليه الافتراء، كأن المعنى: لا ترموا أحدًا بكذب تُزورونه في أنفسكم ثم تَبهتون صاحبه بألسنتكم. وقال أبو محمد بن أبي جمرة: يحتمل أن يكون قوله «بين أيديكم» أي في الحال، وقوله «وأرجلكم» أي في المستقبل؛ لأن السعي من أفعال الأرجل)، والسعي يكون إلى الأمام للمستقبل. (وقال غيره: أصل هذا كان في بيعة النساء، وكُني بذلك كما قال الهروي في الغريبين عن نسبة المرأة الولد الذي تزني به أو تلتقطه إلى زوجها، ثم لما استُعمل هذا اللفظ في بيعة الرجال احتيج إلى حمله على غير ما ورد فيه أو لا، والله أعلم.

 قوله: «ولا تعصوا» للإسماعيلي في "باب وفود الأنصار": «ولا تعصوني»، وهو مطابق للآية، والمعروف ما عُرف من الشارع حسنه نهيًا وأمرًا.

قوله: «في معروف»، قال النووي: يحتمل أن يكون المعنى: ولا تعصوني ولا أحدَ أُولي الأمر عليكم في المعروف)، (في المعروف) لا شك أن هذا القيد معتبر، إذ لو أمر الوالي أو غيره كالوالد مثلاً بغير معروف فإنه لا طاعة في مخلوق في معصية الخالق، والطاعة بالمعروف. لكن «لا تعصوني» يحتاج إلى تأويل؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- لا يمكن أن يأمر بغير معروف، يعني «لا تعصوني» يعني وفي حكم من يأتي بعدي ممن له أمر أو نهي، ولا يُقصد الرسول -عليه الصلاة والسلام-. أما «لا تعصوا» هذه فما فيها إشكال. نعم.

طالب: ..........

يعني وصف كاشف لا مفهوم له.

(قال النووي: يحتمل أن يكون المعنى: ولا تعصوني ولا أحدَ أولي الأمر عليكم في المعروف، فيكون التقييد بالمعروف متعلقًا بشيء بعده)، أحيانًا يكون أمران متعاطفان يُذكر وصف يليق بأحدهما دون الآخر فيحتاج إلى تأويل ما لا يليق به: «قاتل الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»، اليهود لهم أنبياء كثر، لكن النصارى ما لهم إلا عيسى، وليس له قبر؛ لأنه رُفع، فكيف يقال: «اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم»؟ نحتاج في مثل هذا إلى تأويل، منهم من قال: إن أنبياء اليهود أنبياء للنصارى؛ لأنهم يجب عليهم الإيمان بهم، ويجب عليهم تعظيمهم. في رواية: «قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد»، فيكون الأنبياء لليهود والصالحين للنصارى.

طالب: أحسن الله إليكم.

نعم.

طالب: ..........

نعم، لكن القيد ما هو؟

طالب: ..........

لا تعصوني.

طالب: ..........

لا تعصوني في معروف؟

طالب: لا تعصوني فيما أمر الله.

في معروف؟

طالب: ..........

لأنه يُفهم منه أنه قد يأمر بغير معروف.

طالب: لا.

بلى، «لا تعصوني في معروف» ما هو مفهومه أنه قد يأمر بغير معروف، وهذا منتفٍ فنحتاج إلى تأويل.

طالب: ..........

«لا طاعة لمخلوق»؟

طالب: نعم.

الكلام في أن هذا المعروف الذي جاء بعد النهي عن معصيته -عليه الصلاة والسلام-: «لا تعصوا» هذا ما فيه إشكال، «ولا تعصوا في معروف» هذا ما فيه إشكال. لكن رواية: «ولا تعصوني في معروف» هي المشكلة التي احتيج إلى تأويلها.

طالب: ..........

يعني تضعف رواية: «ولا تعصوني»؟

طالب: ..........

يبقى الإشكال، ما دامت ثابتة ولا طعن فيها أحد نحتاج إلى الجواب عنها.

طالب: ..........

ماذا؟

طالب: ..........

نعم، لكن...

طالب: ..........

لكن ما يأمر ولا ينهى إلا بمعروف -عليه الصلاة والسلام-.

طالب: ..........

في باب القضاء هذا من أجل أن يقتدي به من يأتي بعده من القضاة، ويقرر قاعدة عامة للأمة إلى قيام الساعة.

طالب: ..........

نعم، لكن هل معنى هذا أنه قد يأمر بغير معروف؟

طالب: ..........

إذا كان يعلم لا يجوز له أن يأخذ.

طالب: ..........

نعم، لكن الآن هذه مسألة أمر ونهي أحكام.

طالب: ..........

لا، هو أنت بتقول: «لا تعصوني».

طالب: ..........

أنت تخرج رواية «ولا تعصوني» على رواية «ولا تعصوا»، وأنه ليس المراد -عليه الصلاة والسلام- هو وإنما المراد من يأتي بعده. الرسول -عليه الصلاة والسلام- في باب القضاء غيره في باب الأمر والنهي، الأمر والنهي أحكام لا يمكن أن يتطرق إليها خلل، إنشاء.

(ولا تعصوني ولا أحد أولي الأمر عليكم في المعروف، فيكون التقييد بالمعروف متعلقًا بشيء بعده. وقال غيره: نبه بذلك على أن طاعة المخلوق إنما تجب فيما كان غير معصية لله فهي جديرة بالتوقي في معصية الله.

قوله: «فمن وفي منكم» أي ثبت على العهد، و«وفَى» بالتخفيف وفي رواية بالتشديد وهما بمعنًى)، {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37].

(قوله: «فأجره على الله» أطلق هذا على سبيل التفخيم؛ لأنه لما أن ذَكر المبايعة المقتضية لوجود العِوضين أثبت ذِكر الأجر في موضع أحدهما، وأفصح في رواية الصُّنابِحي عن عبادة في هذا الحديث في الصحيحين بتعيين العوض فقال: «بالجنة»، وعبر هنا بلفظ «على» للمبالغة في تحقق وقوعه كالواجبات)، «على الله» كأنه يُستشف منه الوجوب وجوب الأجر على الله، مع أنه لا يجب عليه شيء، وإنما هي أمور مؤكدة أكدها الله -جل وعلا- على نفسه وأوجبها، كما أنه حرم الظلم أوجب هذا على نفسه، كرمًا منه -جل وعلا-.

طالب: ..........

ماذا فيه؟

طالب: ..........

نعم؛ لأنهم يرون أن الأعمال أسباب، والأسباب لا أثر لها، الأعمال أسباب، والأسباب لا أثر لها، لكن بالمقابل المعتزلة يقولون: أسباب، والأسباب مؤثرة، والأجر يجب على الله -جل وعلا-.

طالب: ..........

الوسط.

طالب: ..........

قول أهل السنة والجماعة أنها مؤثرة بجعل الله -جل وعلا- لها التأثير، لا أنها مؤثرة بذاتها.

طالب: ..........

نفسها، نفس الشيء.

طالب: ..........

نفسها، داخلة؛ لأن هذا سبب، العمل سبب، سبب للأجر: «فأجره على الله» مقتضى العبارة أنه واجب على الله.

طالب: ..........

هذا من شدة الخوف، هذا ذهول، هذا غاب عقله من شدة الخوف.

طالب: ..........

على كل حال عندنا هذا ما فيه أدنى إشكال، جارٍ على قاعدة أهل السنة في مسألة الأسباب وأن لها أثرًا، لكنها لا تستقل بهذا الأثر كما يقول المعتزلة.

(وعبر هنا بلفظ «على» للمبالغة في تحقق وقوعه كالواجبات، ويتعين حمله على غير ظاهره للأدلة القائمة على أنه لا يجب على الله شيء، وسيأتي في حديث معاذ في تفسير «حق الله على العباد» تقرير هذا.

فإن قيل: لِم اقتصر على المنهيات، ولم يَذكر المأمورات؟ فالجواب: أنه لم يهملها، بل ذكرها على طريق الإجمال في قوله: «ولا تعصوا»؛ إذ العصيان مخالفة الأمر).

 «ولا تعصوا».

طالب: ..........

بالأمرين، نعم يشمل الأوامر والنواهي.

(إذ العصيان مخالفة الأمر، والحكمة في التنصيص على كثير من المنهيات دون المأمورات أن الكف أيسر من إنشاء الفعل؛ لأن اجتناب المفاسد مقدم على اجتلاب المصالح، والتخلي عن الرذائل قبل التحلي بالفضائل)، (التخلي عن الرذائل) بالكف عن هذه المعاصي (قبل التحلي بالفضائل) التي هي امتثال الأوامر.

(قوله: «ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب»، زاد أحمد في روايته: «به». قوله: «فهو» أي العقاب «كفارة»، زاد أحمد: «له»، وكذا هو للمصنف من وجه آخر في "باب المشيئة" من كتاب التوحيد وزاد: «وطهور». قال النووي: وعموم هذا الحديث مخصوص بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]، فالمرتد إذا قُتل على ارتداده لا يكون القتلُ له كفارةً).

 يعني مثل ما نبهنا عليه سابقًا، وهنا واحد سأل يقول: استشكال بسيط جاء في الحديث «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا» وفي نهاية الحديث: «فهو إلى الله»، فظاهره دخول الشرك تحت المشيئة؟ وهذا الجواب عليه.

(فالمرتد إذا قُتل على ارتداده لا يكون القتل له كفارة.

قلتُ: وهذا بناءً على أن قوله: «من ذلك شيئًا» يتناول جميع ما ذُكر وهو ظاهر، وقد قيل: يحتمل أن يكون المراد ما ذُكر بعد الشرك بقرينة أن المخاطَب بذلك المسلمون، فلا يدخل حتى يُحتاج إلى إخراجه)، لكن المسلم قد يحصل منه شرك، (ويؤيده رواية مسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة في هذا الحديث: «ومن أتى منكم حدًّا»؛ إذ القتل على الشرك لا يسمى حدًّا، لا يسمى حدًّا) طيب حد الردة؟ أليس بحد حد الردة؟

طالب: بلى.

طالب: بلى.

(لكن يعكر على هذا القائل أن الفاء في قوله: «فمن»؛ لترتُّب ما بعدها على ما قبلها، وخطاب المسلمين بذلك لا يمنع التحذير من الإشراك، وما ذُكر في الحد عُرْف حادث، فالصواب ما قال النووي)، أنه مخصوص بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48]. (فالصواب ما قاله النووي. وقال الطيبي: الحق أن المراد بالشرك الشرك الأصغر، وهو الرياء)، مع أن «شيئًا» نكرة في سياق...

طالب: النهي.

نعم، فتعم الشرك من أعظمه إلى أقله.

(ويدل عليه تنكير «شيئًا»، أي شركًا أيًّا ما كان، وتُعقِّب بأن عُرف الشارع إذا أطلق الشرك إنما يراد به ما يقابل التوحيد، وقد تكرر هذا اللفظ في الكتاب والأحاديث حيث لا يراد به إلا ذلك. ويجاب: بأن طلب الجمع يقتضي ارتكاب المجاز).

 يعني أحيانًا يكون هناك تعارض بين النصوص في الظاهر، ثم بعد ذلك نحتاج إلى مسلك فيه أدنى جواب عن هذا التعارض؛ لندفع هذا التعارض عن النصوص، ولو كان فيه شيء من التكلف، أفضل من أن يبقى تبقى هذه النصوص متعارضة دون جواب.

(ويجاب: بأن طلب الجمع يقتضي ارتكاب المجاز، فما قاله محتمل وإن كان ضعيفًا، ولكن يعكر عليه أيضًا أنه عقب الإصابة بالعقوبة في الدنيا، والرياء لا عقوبة فيه، فوضح أن المراد الشرك، وأنه مخصوص.

وقال القاضي عياض: ذهب أكثر العلماء أن الحدود كفارات، واستدلوا بهذا الحديث، ومنهم من وقف؛ لحديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا»، لكن حديث عبادة أصح إسنادًا)، لأنه في الصحيحين (ويمكن يعني على طريق الجمع بينهما أن يكون حديثُ أبي هريرة ورد أولاً قبل أن يُعلمه الله ثم أعلمه بعد ذلك.

قلت: حديث أبي هريرة أخرجه الحاكم في المستدرك والبزار من رواية مَعمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المَقبُري عن أبي هريرة وهو صحيح على شرط الشيخين، وقد أخرجه أحمد عن عبد الرزاق عن مَعمر، وذكر الدارقطني أن عبد الرزاق تفرد بوصله، وأن هشام بن يوسف رواه عن معمر فأرسله.

قلت: وقد وصله آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب، وأخرجه الحاكم أيضًا، فقويت رواية مَعمر، وإذا كان صحيحًا فالجمع الذي جمع به القاضي حسن)، (فالجمع الذي جمع به القاضي حسن) من القاضي حسن هذا؟!

طالب: ..........

ماذا؟

طالب: ..........

أو القاضي حسين من أئمة الشافعية!

طالب: ..........

الجمع حسن: الذي جمع به القاضي عياض حسن.

(لكن القاضي ومن تبعه جازمون بأن حديث عبادة هذا كان بمكة ليلة العقبة لما بايع الأنصار رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- البيعة الأولى بمِنًى، وأبو هريرة إنما أسلم بعد ذلك بسبع سنين عام خيبر، فكيف يكون حديثه متقدمًا؟

وقالوا في الجواب عنه: يمكن أن يكون أبو هريرة ما سمعه من النبي -عليه الصلاة والسلام- وإنما سمعه من صحابي آخر كان سمعه من النبي -صلى الله عليه وسلم- قديمًا، ولم يسمع من النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك أن الحدود كفارة كما سمعه عبادة، وفي هذا تعسف، ويبطله أن أبا هريرة صرح بسماعه، وأن الحدود لم تكن نزلت إذ ذاك، والحق عندي: أن حديث أبي هريرة صحيح، وهو ما تقدم على حديث عبادة، والمبايعة المذكورة في حديث عبادة على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة، وإنما كانت ليلة العقبة ما ذكر ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لمن حضر من الأنصار: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فبايعوه على ذلك، وعلى أن يرحل إليهم هو وأصحابه.

 وسيأتي في هذا الكتاب في كتاب الفتن وغيره من حديث عبادة أيضًا قال: «بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره» الحديث، وأصرح من ذلك في هذا المراد ما أخرجه أحمد والطبراني من وجه آخر عن عبادة أنه جرت له قصة مع أبي هريرة عند معاوية بالشام فقال: «يا أبا هريرة إنك لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول بالحق ولا نخاف في الله لومة لائم»)، «وعلى أن نقول بالحق، ولا نخاف في الله لومة لائم» والقول بالحق مع عدم الخوف في الله لومة لائم هذا لا ينافي ولا يناقض السمع والطاعة، لا ينافي السمع والطاعة والإنكار وبيان الحق هذا لا ينافي السمع والطاعة؛ لأنها كلها سيقت مساقًا واحدًا في حديث عبادة: «بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على السمع والطاعة، في العسر واليسر والمنشط والمكره على أن نقول -وفي رواية: أن نقوم- بالحق لا نخاف في الله لومة لائم».

(«وعلى أن ننصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم علينا يثرب، فنمنعه مما نمنع منه أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة، فهذه بيعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي بايعناه عليها» فذكر بقية الحديث.

وعند الطبراني له طريق أخرى وألفاظ قريبة من هذا، وقد وضح أن هذا هو الذي وقع في البيعة الأولى، ثم صدرت مبايعات أخرى ستذكر في كتاب الأحكام إن شاء الله تعالى، منها هذه البيعة التي في حديث الباب في الزجر عن الفواحش المذكورة، والذي يُقوي أنها وقعت بعد فتح مكة بعد أن نزلت الآية التي في الممتحنة، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12]، ونزول هذه الآية متأخر بعد قصة الحديبية بلا خلاف.

نعم.

 والدليل على ذلك ما عند البخاري في كتاب الحدود من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري في حديث عبادة هذا: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما بايعهم قرأ الآية كلها»، وعنده في تفسير الممتحنة من هذا الوجه قال: «قرأ آية النساء»، ولمسلم من طريق معمر عن الزهري قال: «فتلا علينا آية النساء، قال: أن لا تشركن بالله شيئًا»، وللنسائي من طريق الحارث بن فُضيل عن الزهري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا تبايعوني على ما بايع عليه النساء، أن لا تشركوا بالله شيئًا» الحديث، وللطبراني من وجه آخر عن الزهري بهذا السند: «بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما بايع عليه النساء يوم فتح مكة»).

 وذكرنا في السابق أن قول الصحابي: «بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما بايع عليه النساء يوم فتح مكة» هذا لا يلزم منه أن تكون بيعة الرجال متأخرة عن بيعة النساء، وقلنا: إن الإحالة على ما في القرآن هو الأصل؛ لأن ما في القرآن معروف لدى الخاص والعام، بخلاف ما ثبت في السنة؛ لأنه قد يخفى. لكن إذا ثبت أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ألا تبايعوني على ما بايع عليه النساء، فهذا يدل على أن بيعة النساء متقدمة على هذه البيعة.

(ولمسلم من طريق أبي الأشعث عن عبادة في هذا الحديث: «أخذ علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما أخذ على النساء».

فهذه أدلة ظاهرة في أن هذه البيعة إنما صدرت بعد نزول الآية بعد صدور البيعة، بل بعد فتح مكة، وذلك بعد إسلام أبي هريرة بمدة، ويؤيد هذا ما رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه عن أبيه عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن أيوب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئًا»، فذكر نحو حديث عبادة، ورجاله ثقات، وقد قال إسحاق بن راهويه: إذا صح الإسناد إلى عمرو بن شعيب فهو كأيوب عن نافع عن ابن عمر)، يعني صحيح (انتهى.

وإذا كان عبد الله بن عمرو أحد من حضر هذه البيعة، وليس هو من الأنصار ولا ممن حضر بيعتهم، وإنما كان إسلامه قرب إسلام أبي هريرة؛ وضح تغاير البيعتين: بيعة الأنصار ليلة العقبة وهي قبل الهجرة إلى المدينة، وبيعة أخرى وقعت بعد فتح مكة وشهدها عبد الله بن عمرو، وكان إسلامه بعد الهجرة بمدة طويلة.

ومثل ذلك ما رواه الطبراني من حديث جرير قال: «بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على مِثل ما بايع عليه النساء» فذكر الحديث، وكان إسلام جرير متأخرًا عن إسلام أبي هريرة على الصواب، وإنما حصل الالتباس من جهة أن عبادة بن الصامت حضر البيعتين معًا، وكانت بيعة العقبة من أجلِّ ما يَتمدح به، فكان يذكرها إذا حدَّث تنويهًا بسابقته، فلما ذكر هذه البيعة التي صدرت على مِثل بيعة النساء عَقِبَ ذلك تَوهَّم من لم يقف على حقيقة الحال أن البيعة الأولى وقعت على ذلك، ونظيره ما أخرجه أحمد من طريق محمد بن إسحاق عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده -وكان أحد النقباء- قال: «بايعنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيعة الحرب» وكان عبادة من الاثني عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى)، لكن مع هذا الكلام كله: هل يمكن أن تسمى ما في حديث الباب بيعة عقبة؟

طالب: ..........

إذا كانت بالمدينة وبعد فتح مكة يمكن أن تسمى بيعة عقبة؟ وهل في الحديث ما يشير على أنها بيعة عقبة؟

طالب: لا ما فيه.

ما فيه.

(وكان عبادة من الاثني عشر الذين بايعوا في العقبة الأولى: «على بيعة النساء وعلى السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا» الحديث، فإنه ظاهر في اتحاد البيعتين، ولكن الحديث في الصحيحين كما سيأتي في الأحكام ليس فيه هذه الزيادة، وهو من طريق مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عبادة بن الوليد، والصواب: أن بيعة الحرب بعد بيعة العقبة؛ لأن الحرب إنما شُرع بعد الهجرة، ويمكن تأويل رواية ابن إسحاق ورَدُّها إلى ما تقدم، وقد اشتملت روايته على ثلاث بيعات: بيعة العقبة، وقد صرح أنها كانت قبل أن يفرض الحرب في رواية الصُّنابِحي عن عبادة عند أحمد.

 والثانية: بيعة الحرب وسيأتي في الجهاد أنها كانت على عدم الفرار.

 والثالثة بيعة النساء التي وقعت على نظير بيعة النساء. والراجح: أن التصريح بذلك وهمٌ من بعض الرواة، والله أعلم).

 من تعليق الشيخ ابن باز يقول: مراده أن التصريح بأن البيعة الأولى ليلة العقبة كانت على بيعة النساء وهمٌ من بعض الرواة، وأن البيعة التي وقعت على مثل بيعة النساء كانت بعد ذلك؛ فتنبه.

(ويعكر على ذلك التصريح في رواية ابن إسحاق من طريق الصُّنابِحي عن عبادة: أن بيعة ليلة العقبة كانت على مثل بيعة النساء، واتفق وقوع ذلك قبل أن تنزل الآية، وإنما أضيفت إلى النساء لضبطها بالقرآن، ونظيره ما وقع في الصحيحين أيضًا من طريق الصُّنابِحي عن عبادة قال: «إني من النقباء الذين بايعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-»، وقال: «بايعناه على أن لا نشرك بالله شيئًا» الحديث، فظاهر هذا اتحاد البيعتين. ولكن المراد ما قررتُه أن قوله: «إني من النقباء الذين بايعوا» أي ليلة العقبة على الإيواء والنصر وما يتعلق بذلك، ثم قال: «بايعناه» إلى آخره، أي في وقت آخر، ويشير إلى هذا الإتيان بالواو العاطفة في قوله: «وقال بايعناه»، وعليك بِرَدِّ ما أتى من الروايات مُوهمًا بأن هذه البيعة كانت ليلة العقبة إلى هذا التأويل الذي نهجتُ إليه، فيرتفع بذلك الإشكال، ولا يبقى بين حديثي أبي هريرة وعبادة تعارض، ولا وجه بذلك للتوقف في كون الحدود كفارةً.

 واعلم أن عبادة بن الصامت لم ينفرد برواية هذا المعنى، بل روى ذلك علي بن أبي طالب، وهو في الترمذي وصححه الحاكم، وفيه: «من أصاب ذنبًا فعُوقب به في الدنيا فالله أكرم من أن يُثنِّي العقوبة على عبده في الآخرة»، وهو عند الطبراني بإسناد حسن من حديث أبي تميمة الهُجيمي، ولأحمد من حديث خزيمة بن ثابت بإسناد حسن، ولفظه: «من أصاب ذنبًا أقيم عليه ذلك الذنب فهو كفارة له»، وللطبراني عن ابن عمرو مرفوعًا: «ما عوقب رجل على ذنب إلا جعله الله كفارةً لما أصاب من ذلك الذنب».

وإنما أطلت في هذا الموضع؛ لأنني لم أر من أزال اللبس فيه على الوجه المرضي، والله الهادي)، يعني بالنسبة للقصاص هل هو كفارة أم ليس بكفارة؟ مثل الذي قتل جدته هذا وقُتل قصاصًا؟ نسأل الله العافية.

طالب: ..........

ماذا؟

طالب: ..........

كيف؟

طالب: ..........

يعني ما يدخل في هذا الحديث.

طالب: ..........

ماذا؟

طالب: ..........

نعم، ما فيه شك أنه مشترك، لكن يبقى أنه المقتول هل استوفي من حقه شيئًا بالقصاص؟ المقتول، المقتول ظلمًا مثل هذه الجدة استوفت شيئًا من حقها بالقصاص؟

طالب: ..........

نعم، معروف، لكن هل معنى هذا أنه عُفي عنه؛ لأنه أقيم عليه الحد؟

طالب: ..........

خلاص، هذا الكلام على: هل القتل قصاصًا يدخل في الحديث أو ما يدخل؟ يأتي كلام أهل العلم فيه.

(قوله: «فعوقب به»، قال ابن التِّين: يريد به القطع في السرقة والجَلد أو الرجم في الزنا، قال: وأما قتل الولد فليس له عقوبة معلومة إلا أن يريد قتل النفس فكنَّى عنه.

قلت: وفي رواية الصُّنابِحي عن عبادة في هذا الحديث: «ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق»، ولكن قوله في حديث الباب: «فعوقب به» أعم من أن تكون العقوبة حدًّا أو تعزيرًا. قال ابن التِّين: وحكي عن القاضي إسماعيل وغيره أن قتْل القاتل إنما هو رادع لغيره، وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم؛ لأنه لم يصل إليه حق.

قلت: بل وصل إليه حق وأي حق، فإن المقتول ظلمًا تُكفَّر عنه ذنوبه بالقتل، كما ورد في الخبر الذي صححه ابن حبان وغيره: «إن السيف مَحَّاء للخطايا»)، يعني السيف هذا الجاني الذي قَتل جدته وقُتل قصاصًا، يعني إذا تجاوزنا وقلنا: إن الحد كفارة لما اقترف، لكن هل هو كفارة لجميع ما عنده من الذنوب من العقوق وغيره؟

طالب: ..........

ماذا؟

طالب: ..........

على كل حال هو فرد من أفراد الحديث.

(وأما في الآخرة فالطلب للمقتول قائم؛ لأنه لم يصل إليه حق)، هذا كلام القاضي إسماعيل. (قلت: بل وصل إليه حق وأي حق، فإن المقتول ظلمًا تكفر عنه ذنوبه بالقتل، كما ورد في الخبر الذي صححه ابن حبان وغيره: «إن السيف محاء للخطايا»، وعن ابن مسعود قال: «إذا جاء القتل محا كل شيء» رواه الطبراني، وله عن الحسن بن علي نحوه، وللبزار عن عائشة مرفوعًا: «لا يمر القتل بذنب إلا محاه»، فلولا القتل ما كُفرت ذنوبه، وأي حق يصل إليه أعظم من هذا؟

ولو كان حد القتل إنما شُرع للردع فقط لم يُشرع العفو عن القاتل. وهل تدخل في العقوبة المذكورة المصائب الدنيوية من الآلام والأسقام وغيرها؟ فيه نظر، ويدل للمنع قوله: «ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله»، فإن هذه المصائب لا تنافي الستر، ولكن بيَّنت الأحاديث الكثيرة أن المصائب تكفر الذنوب، فيحتمل أن يراد أنها لا تكفر ما لا حد فيه، والله أعلم).

طالب: ..........

أين؟

(فيحتمل أن يراد أنها تكفر ما لا حد فيه) يعني المصائب، وجاء أنها تحط الخطايا، لكن هل تكفر الكبائر أو الصغائر فقط؟ هذا خلاف بين أهل العلم.

(ويستفاد من الحديث).

طالب: ..........

«لو قسمت على سبعين من أهل المدينة»، يُستأنس به بأن حق المرأة وذويها...

طالب: ..........

نعم، ما يخالف، لكن –أليست المصيبة شملت المزني بها؟ افترض أنه إكراه، نعم، مصيبة شملت المزني بها وشملت جميع أهلها وذويها، وهذا أقيم عليه الحد رُجم، ماذا وصلهم من حقهم من رفع العار الذي وقع بهم؟ هي مصيبة، كارثة عليها وعلى أهلها، هل وصلهم من حقهم شيء؟ أقيم عليه الحد، مقتضى الحديث أنه كفارة، وماعز «تاب توبة لو قُسمت»، والغامدية كذلك و«لو تابها صاحب مكس»، وفي رواية: «لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم».

طالب: ..........

«إني أراه الآن ينغمس في الجنة»، ما فيه شك أن حق الله -جل وعلا- بالحدود انتهى، وأيضًا حق الحدود يُرضيه الله -جل وعلا- عن القاتل.

طالب: ..........

فيكون قتله حدًّا أفضل من العفو.

طالب: ..........

له.

طالب: ..........

نعم؛ لأن حق المخلوق بالعفو انتهى، وحق الله -جل وعلا- تجبه التوبة.

طالب: ..........

نعم، عفي عنه إذا لم يتب.

طالب: ..........

إذا تاب خلاص: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له».

طالب: ..........

لا، إذا أقيم عليه حد انتهى.

طالب: ..........

لا لو ما تاب، الحدود كفارة.

طالب: ..........

أما إذا استتر بستر الله وتاب، فالتوبة هدمت ما كان قبلها، وحق المخلوق إذا كان فيه تعدٍّ على مخلوق وعفا عنه الأمر لا يعدوه، وحق الله -جل وعلا- تجبه التوبة.

طالب: ..........

عند العفو.

طالب: وإذا أقيم عليه الحد.

انتهى.

طالب: ..........

لكن يبقى يا إخوان مثل الصورة الحية التي أمس أقيم عليها الحد، وقد يكون القتل بأبشع صورة، بإحراق، جاء إلى أمه فأحرقها، وقتل قصاصًا.

طالب: أحسن الله إليك.

نسأل الله العافية.

طالب: ..........

نعم؟

طالب: ..........

ماذا؟ بالنسبة للحدود كفارات؟

طالب: نعم.

لا، هي منازل، قد يكون توبته جبت الذنب، وقتله رفع درجات له، بخلاف الثاني.

(ويستفاد من الحديث: أن إقامة الحد كفارة للذنب ولو لم يتب المحدود، وهو قول الجمهور، وقيل: لا بد من التوبة، وبذلك جزم بعض التابعين، وهو قول للمعتزلة ووافقهم ابن حزم ومِن المفسرين البغوي وطائفة يسيرة، واستدلوا باستثناء من تاب في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34]، والجواب في ذلك: أنه في عقوبة الدنيا، ولذلك قُيدت بالقدرة عليه.

قوله: «ثم ستره الله» زاد في رواية كَريمة: «عليه».

قوله: «فهو إلى الله» قال المازني)، في نسخة: المازري (فيه رد على الخوارج الذين يُكفرون بالذنوب، ورد على المعتزلة الذين يوجبون تعذيب الفاسق إذا مات بلا توبة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخبر بأنه تحت المشيئة، ولم يقل لا بد أن يعذبه. وقال الطيبي: فيه إشارة إلى الكف عن الشهادة بالنار على أحد، أو بالجنة لأحد إلا من ورد النص فيه بعينه.

قلت: أما الشق الأول)، وهو الكف عن الشهادة بالنار (فواضح، وأما الثاني)، الشهادة بالجنة إلا ما ورد في النص بعينه (فالإشارة إليه إنما تستفاد من الحمل على غير ظاهر الحديث وهو متعين)؛ لأن الذي كُفرت ذنوبه بالحد مقتضى ذلك أنه في الجنة، لكن هل نشهد له أنه بالجنة؟

طالب: ..........

هذا فيما إذا لم يُقم عليه القصاص.

طالب: ..........

أين؟

طالب: ..........

على كل حال الحدود كفارات.

طالب: ..........

أين؟

طالب: كفارة لهذا الذنب، ما هو ..........

هو يطالب في الآخرة، لكن يُرضَى إذا قلنا: إنه كفارة حتى لحق المخلوق.

طالب: ..........

على كل حال التوبة تهدم ما كان قبلها.

خلونا نكمل يا إخوان.

(قوله: «إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه» يشمل من تاب من ذلك ومن لم يتب، وقال بذلك طائفة، وذهب الجمهور إلى أن من تاب لا يبقى عليه مؤاخذة، ومع ذلك فلا يأمن مكر الله؛ لأنه لا اطلاع له هل قُبلت توبته أو لا، وقيل: يفرَّق بين ما يجب فيه الحد وما لا يجب، واختُلف فيمن أتى ما يوجب الحد، فقيل: يجوز أن يتوب سرًّا ويكفيه ذلك، وقيل: بل الأفضل أن يأتي الإمام ويعترف به ويسأله أن يقيم عليه الحد كما وقع لماعز والغامدية، وفصَّل بعض العلماء بين أن يكون مُعلِنًا بالفجور، فيستحب أن يعلن بتوبته وإلا فلا.

 تنبيه: زاد في رواية الصُّنابِحي عن عبادة في هذا الحديث: «ولا ينتهب»، وهو مما يُتمسك به في أن البيعة متأخرة؛ لأن الجهاد عند بيعة العقبة لم يكن فُرض، والمراد بالانتهاب ما يقع بعد القتال في الغنائم. وزاد في روايته أيضًا: «ولا يعصي بالجنة إن فعلنا ذلك، فإن غشينا من ذلك شيئًا ما كان قضاء ذلك إلى الله» أخرجه المصنف في "باب وفود الأنصار" عن قتيبة عن الليث، ووقع عنده: «ولا يَقضي» بقاف وضاد معجمة وهو تصحيف)، «ولا يَقضي» بدل «ولا يعصي» (وهو تصحيف، وقد تَكلف بعض الناس في تخريجه وقال: إنه نهاكم عن ولاية القضاء)، بدل «لا يعصي»: «لا يقضي»

(وقال: إنه نهاكم عن ولاية القضاء، ويبطله أن عبادة -رضي الله عنه- ولي قضاء فلسطين في زمن عمر -رضي الله عنهما-. وقيل: إن قوله «بالجنة» متعلق بـ«يقضي»، أي: لا يقضي بالجنة لأحد معين.

 قلت: لكن يبقى قوله: «إن فعلنا ذلك» بلا جواب، ويكفي في ثبوت دعوى التصحيف فيه روايةُ مسلم عن قتيبة بالعين والصاد المهملتين، وكذا الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان ولأبي نعيم من طريق موسى بن هارون كلاهما عن قتيبة، وكذا هو عند البخاري أيضًا في هذا الحديث في الديَات عن عبد الله بن يوسف عن الليث في معظم الروايات، لكن عند الكُشْميهني بالكاف والضاد أيضًا وهو تصحيف كما بينا، وقوله: «بالجنة» إنما هو متعلق بقوله في أوله «بايعناه»، والله أعلم).

طالب: ..........

نعم.

طالب: ..........

عمومه يشمل.

طالب: ..........

"