شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (221)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك علي عبده ورسوله محمد، وعلي آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، والذي نسعد فيه باستضافة صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: قال المصنف -رحمه الله تعالى- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «إن الناس يقولون أكثر أبا هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثًا ثم يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى إلى قوله: الرَّحِيمُ} [البقرة:160] إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لشبع بطنه، ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون».

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

 فصحابي الحديث أبو هريرة، الصحابي الجليل الدوسي، حافظ الأمة، مر ذكره مرارًا.

 وهذا الحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: "باب حفظ العلم"، "باب حفظ العلم".

قال ابن حجر: لم يذكر -يعني البخاري- في الباب شيئًا عن غير أبي هريرة؛ لأنه ذكر هذا الحديث عن أبي هريرة، والحديث الذي يليه عن أبي هريرة، والحديث الثالث عن أبي هريرة، والترجمة باب حفظ العلم، والأحاديث الثلاثة كلها عن أبي هريرة، مما يدل على أن لأبي هريرة في هذا الشأن الذي هو حفظ العلم ما ليس لغيره من الصحابة، الأحاديث الثلاثة كلها عن أبي هريرة، وكلها تخص أبا هريرة في الحفظ والعناية والضبط، مما لا يوجد لغيره من الصحابة -رضي الله عن الجميع- يقول الحافظ ابن حجر: لم يذكر- يعني البخاري- في الباب شيئًا عن غير أبي هريرة؛  وذلك لأنه كان أحفظ الصحابة للحديث، كان -رضي الله عنه- أحفظ الصحابة في الحديث، قال الشافعي -رضي الله عنه-: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في عصره، وقد كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يترحم عليه في جنازته ويقول: كان يحفظ على المسلمين حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، كان ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- يترحم عليه يعني على أبي هريرة في جنازته لما حضرها ويقول: كان يحفظ على المسلمين حديث النبي –صلى الله عليه وسلم-  رواه ابن سعد.

أبو هريرة أكثر ما ذُكر له في مسند بقي خمسة آلاف وثلاثمائة.. وأربعمائة وسبعون أو ثلاثة وسبعون أو ثلاثمائة وأربعة وسبعون، وإذا قارناه بما يحفظه الإمام أحمد حينما يقولون: سبعمائة ألف حديث، أو سبعمائة وخمسين ألف حديث، وأبو داود ستمائة ألف حديث، وفلان خمسمائة ألف حديث، و"البخاري" يحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح.

كيف؟ إذا قلنا إن هذا حافظ الأمة يحفظ خمسة آلاف وأربعمائة حديث.

المقدم: هذا المراد حفظها من النبي -صلى الله عليه وسلم-، ونقلها إلى الأمة، هذا هو الحفظ الحقيقي.

نعم، إضافة إلى أن ما يحفظه الأئمة من هذه المئات الألوف إنما هي بأسانيدها، بأسانيدها، رب حديث يعد واحدًا لأبي هريرة، واحدًا يرويه، حديث واحد لأبي هريرة يرويه الإمام أحمد من مائه طريق، فتكون مئة حديث. أيضًا مما يحفظه الأئمة الموقوفات، والآثار فتضاف إلى محفوظاتهم، ولذا يقول الحافظ العراقي - رحمه الله- لما ذكر أن الإمام البخاري يحفظ مائة ألف:

وفيه ما فيه لقول الجعفي        أحفظ منه عُشر ألف ألف

 يعني مئة ألف، قال:

فعله أراد بالتكرار لها                   وموقوف وبالبخاري..

 إلى آخره.   

المقصود أنهم يعدون الطرق والأسانيد، أسانيد الحديث الواحد أحاديث، فهذه الخمسة آلاف وزيادة مما يحفظه أبو هريرة، لو وُضع لها أسانيد، قل: لكل حديثٍ خمسة أسانيد، أو عشرة أسانيد، صارت خمسين ألفًا، إضافة إلى ما يحفظه الإمام أحمد عن ابن عمر مثلاً، عن عبد الله بن عمرو، وعن عائشة، وعن ابن عباس وغيرهم من المكثرين، إذا رُكبت لها الأسانيد التي تلت فيما بعد؛ لأن الرواة كلٌّ يروي الحديث من طريقه، بلغت العدة وزادت، لكن الكلام على الصافي من أحاديثه -عليه الصلاة والسلام-، يحفظ أبو هريرة مقدار خمسة آلاف وزيادة، لا شك أنه لا يقاربه ولا يدانيه أحد في هذا المحفوظ؛ لأنه لو خرجنا هذه الأحاديث الخمسة آلاف بطرقها وأسانيدها لبلغت أعدادًا هائلة، يعني، لأنه كلما امتد الزمان توسعت الرواية وكثرت فروع الشجرة، تكثر فروع الشجرة، فلا يقال: كيف يقال حافظ الأمة وغيره يحفظ مئات الألوف؟ ولا شك أنه لا يقاربه ولا يدانيه أحد على ما سيأتي في شرح الحديث وغيره.

ولذلك تجد طعون أعداء الإسلام تتجه إلى أبي هريرة، وقلنا مرارًا: إن الطعن في أبي هريرة يعني الطعن في الدين، نعم، الطعن في الدين، لا يعمد هذا المغرض المناوئ العدو للدين وأهله إلى شخص لا يروي إلا حديثًا أو حديثين كأبيض بن حمال مثلاً ويطعن فيه، هذا يحتاج إلى عُمر ليطعن في المقلين كلهم، ويجمع عليه ما يستطيع جمعه، لكن إذا طعن في أبي هريرة ارتاح من نصف الدين، هدم نصف الدين، فهذا الذي يجعلهم يشنون على أبي هريرة -رضي الله عنه-، على الرغم من أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا له بأن يحببه إلى الناس، ويحبب الناس إليه، فالذي يبغض أبا هريرة على خطرٍ عظيم، أو يتكلم في أبي هريرة.

وذكر أهل العلم بقصةً يثبتونها أنهم في مجلسٍ تكلم فيه على أبي هريرة، ونِيل منه، فنزلت حية من السقف فلدغت المتكلم فمات؛ غيرة على أبي هريرة، وغيرة على دين الله، وعلى حديث رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.

فالأمر شأنه عظيم، التكلم في الدين وأولياء الله ليس بالأمر السهل ولا بالهين، فتوجيه الطعون من قبل المخالفين والمعارضين للسنة ممن ينتسب إلى الإسلام وغيرهم من المستشرقين حينما يطعنون في أبي هريرة هذا ليس عبثًا عندهم، إنما ليطعنوا في الدين بصميمه، قد يقول قائل مثلاً: إن أبا هريرة مجرد راوٍ يحفظ ولا يفهم، وليس بفقيه كما قال بعضهم نقول: فقيه، وأثبت شيخ الإسلام -رحمه الله- في الفتاوى من دقائق فقهه ما لا يخطر على البال، فقرر شيخ الإسلام أنه فقيه، وذكر من فتاويه على ما أذكر أنه سُئل، سأله عمر -رضي الله تعالى عنه- عن المطلقة بواحدة أو اثنتين، إن انتهت عدتها وتزوجها غيره، ثم تزوجها الأول هل ترجع بطلقاتها أو ترجع بدونها، هل تحسب هذه الطلقات السابقة.

المقدم: أو تمحى.

 أو تمحى كالثلاث؟ نعم، فقال "أبو هريرة" ترجع بطلقاتها، فقال: لو قلت غير ذلك لضربتك بالدرة.

نعم، فهذا يدل على فقهه، لماذا؟ لأن الثلاث لا يمكن أن ترجع بها بحال وإلا لما حلت له، والواحدة والاثنتان مسكوت عنهما، لم يرد في أمرهما شيء، فدل على أنها ثابتة؛ لأنه قد يقول قائل: لماذا إذا كان الزوج الثاني يمحو الثلاث، فلماذا لا يمحو الواحدة والثنتين؟ الأصل بقاؤها؛ لأنه لو نطق بها، نطق بها وحسبت عليه، فما الذي يمحوها؟ ما يمحوها إلا أثر، خبر، حديث، نص، لا يمحوها إلا نص، ولا نص في هذه المسألة.

في عمدة القاري: وجه المناسبة بين البابين من حيث إن من يسمر بالعلم فما يسمر إلا لأجل الحفظ غالبًا؛ لأن هذه الترجمة باب حفظ العلم والترجمة التي قبلها.

المقدم: باب السمر في العلم.

باب السمر في العلم، يقول العيني: وجه المناسبة بين البابين من حيث إن من يسمر بالعلم فما يسمر إلا لأجل الحفظ غالبًا؛ لأن السمر في الغالب لا يكون فيه اجتماع ومناقشات وتبادل آراء في الغالب، في الغالب يستغل مثل هذا الوقت للحفظ للهدوء المخيم على الناس في ذلك الوقت.

وذكر هذا الحديث عقب ذلك مناسب، ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: ويحفظ ما لا يحفظون يعني آخر جملة في الحديث؛ لأن الباب باب حفظ العلم.

وقوله أكثر أبو هريرة، أكثر أبو هريرة؛ لأن الإكثار لا يكون إلا عن حفظ، يعني هل يمكن أن يحدث عن النبي -عليه الصلاة والسلام- في كل مجلس وكل مناسبة من لا يحفظ عنه شيئًا؟ لا، أو يحفظ عنه شيئًا يسيرًا؟ ينتهي، لكن كونه -رضي الله عنه- أكثر في الحديث عن النبي -عليه الصلاة والسلام- لأن الإكثار لا يكون إلا عن حفظ.

إن الناس مقول قال يقولون جملة في محل رفع خبر إن، أكثر أبو هريرة أي من الحديث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كما صرح به المصنف في البيوع، وللمصنف في البيوع والمزارعة هنا زيادة وهي: ويقولون: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه؟ يقولون ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه؟ قال ابن حجر: وبهذا تتبين الحكمة في ذكره المهاجرين والأنصار، تتبين الحكمة في ذكره المهاجرين والأنصار؛ لأنه قال في الحديث: «إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، إن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم»، قد يقول قائل: لماذا يتعرض؟ هذا تعريض بهم أنهم أعرضوا عن حفظ الدين؛ للاشتغال بالتجارة والزراعة؟ لماذا؟ لأنه جاء من يقول ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون..؟ هذه مسألة دفاع عن نفسه، وفي مسألة الدفاع يغتفر في حق المظلوم المتهم ما لا يغتفر في حق غيره؛ لأن هذه الدعوة قد تكون مثلاً تنطوي على اتهام لأبي هريرة.

كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار ما يروون مثل ما يروي أبو هريرة، فأراد أبو هريرة أن يبرر بكلامه حكى به الواقع، لا يريد أن القدح بهم ولا ذمهم، وإنما يريد الدفاع عن نفسه، إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق، التجارة، وهذا بحد ذاته ليس بمحرم، يعني ما رماهم بشيءٍ محرم، وأيضًا هذا لا يسوؤهم أن يقال: إنهم يشتغلون بالتجارة.

 فليس من الغيبة، وكذلك بالنسبة للأنصار كان يشغلهم العمل في.. هذا اعتذار لهم، هذا في الحقيقة اعتذار لهم وتبرأة لنفسه ودفاع عن نفسه، ولم يتعرض لذكرهم إلا لما ذكروا في القصة: ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه؟ فقال ما قال: «إن إخواننا» إلى آخره، قال ابن حجر: وبهذا تتبين الحكمة في ذكره للمهاجرين والأنصار، ووضعه المظهر موضع المضمر على طريق الحكاية، حيث قال.. أكثر أبو هريرة، ولم يقل أكثرتُ، أن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولم يقل: أكثرت.

الآن الحافظ ابن حجر يقول: وضعه المظهر موضع المضمر على طريق الحكاية، حيث قال: أكثر أبو هريرة، ولم يقل: أكثرتُ؛ لأنه يحكي كلام الناس، هو يحكي كلام الناس بحروفه، وإلا لو قال: إن الناس يقولون: أكثرت ما تجيء، فهو يحكي كلام الناس وهم يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان يعني موجودتان في القرآن الكريم، قال الكرماني: "مقول" قال لا "مقول" يقولون"، "مقول" قال" يعني قال أبو هريرة: لولا آيتان لا مقول يقولون، يقولون لولا آيتان.

وحذف اللام عن جواب لولا، حذف الجواب لولا وهو جائز، وهو جائز في كتاب الله المنزل على رسوله- صلى الله عليه وسلم- وهو القرآن ما حدثت أي لما حدثتُ، أي لما حدثتُ، ثم يتلو، من القائل؟ ثم يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} [البقرة:159]، التالي هو أبو هريرة، والقائل: ثم يتلو، الأعرج الراوي عنه، وذكره بلفظ المضارع ما قال: ثم تلا، ثم يتلو، وذكره بلفظ المضارع استحضارًا لصورة التلاوة، استحضارًا لصورة التلاوة.

قال ابن حجر: ومعناه لولا أن الله -جلا وعلا- ذم الكاتمين للعلم ما حدث أصلاً، لكن لما كان الكتمان حرامًا، وجب الإظهار فلهذا حصلت الكثرة؛ لكثرة ما عنده، ثم ذكر سبب الكثرة بقوله: إن إخواننا وأراد بصيغة الجمع نفسه وأمثاله، والمراد بالأخوة أخوة الإسلام.

«إن إخواننا من المهاجرين» هذا يشمل كل من لم يتصف بهذا الوصف، يعني إخواننا، ما قال إخواني، يعني كأنه يتحدث بلسان الذين لا يشتغلون بالأسواق ولا بالزراعة، ولذلك جمع فقال أراد بصيغة الجمع نفسه وأمثاله يعني من أهل الصفة مثلاً، الذين لا يشتغلون بالزراعة ولا بالتجارة.

وفي شرح العيني قوله: «إن إخواننا» استئناف، كالتعليل للإكثار، يقول العيني: قوله إن إخواننا استئناف كتعليل للإكثار، كأن سائلاً سأل: لمَ كان أبو هريرة مكثرًا دون غيره من الصحابة؟ فأجاب بقوله: لأن إخواننا كذا وكذا، فلأجل ذلك ترك العاطف بين الجملتين فلم يقل وإنّ، وأقول: لا داعي لقوله: كأن، العيني يقول: كأن سائلاً سأل: لمَ كان أبو هريرة، أقول: لا داعي لقوله: كأن؛ لأن السائل حصل ووقع السؤال؛ لأنه صرح بذلك في الرواية المتقدمة، هم يقولون: ما للمهاجرين والأنصار؟ ما للمهاجرين والأنصار لا يحدثون مثل أحاديثه؟ فالسؤال حصل، فلماذا أقدر أقول كأن سائلاً سأل، السائل سأل بالفعل، فلا داعي لهذا التقدير.

 وفي شرح الكرماني فإن قلت: حق الظاهر أن يقال إن إخوانه ليرجع الضمير إلى أبي هريرة، قلتُ: عدل عنه لغرض الالتفات، الآن الضمير إن إخواننا، أكثر أبو هريرة، ثم يتلو، إن إخواننا، نسق الكلام أن يقول إن إخوانه؛ لأن كله حديث عن أبي هريرة، لكن التفت باعتبار أن المتحدث وإن كان أبو هريرة في الجملة الأولى، في الجملة الأولى المتحدث أبو هريرة، لكنه يحكي كلام غيره، وفي الجملة الثانية ثم يتلو القائل الراوي عنه، ثم التفت إلى حديث نفسه عن غيره.

قال العيني: وهو -يعني الالتفات- فنٌّ من محاسن الكلام، فنٌّ من محاسن الكلام، من المهاجرين الذين هاجروا من مكة إلى رسول -صلى الله عليه وسلم- ومن بيانية، ومن بيانية. كان يشغلهم بفتح أوله من الثلاثي، وحُكي ضمه وهو شاذ، حُكي ضمه يعني من الرباعي، أشغلهم يُشغلهم، والثلاثي شغلهم يَشغلهم، بفتح أوله من الثلاثي، وحُكي ضمه وهو شاذ.

الصفق هو كناية عن التبايع.

المقدم: الشاذ ما هو يا شيخ؟

الضم يُشغلهم، يُشغلهم. الصفق هو كناية عن التبايع، يقال: صفقت له بالبيع صفقًا أي ضربت يدي على يده للعقد، وكانت هذه عادتهم عند البيع، قال الهروي: يقال: اصفق القوم على الأمر، وصفّقوا بالبيع والبيعة، بالأسواق؛ أي في الأسواق، وتأتي الباء بمعنى في، هذا مقرر حتى في لغة العرب.

فإذا قيل: أين أبوك مثلاً؟ تقول: بالسوق أو بالمسجد، والأصل في التي هي للظرفية، بالأسواق أي في الأسواق، والسوق يؤنث ويذكر، وسميت به؛ لقيام الناس فيها على سوقهم، الأصل في السوق أن يكون الناس قيامًا للبيع والشراء.

المقدم: والصفق يا شيخ موجودة فقط ما لها معنى إلا كون...

لا الأصل أن.

المقدم: هذا الأصل.

هذا الأصل، فاستمر على هذا الأصل، «وإن إخواننا من الأنصار»؛ أي أصحاب المدينة الذين آووا الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ونصروه بأنفسهم وأموالهم، وهم الأوس والخزرج كان يشغلهم العمل في أموالهم، أي القيام على مصالح زرعهم، ولمسلم: كان يشغلهم عمل أرضيهم، وإن أبا هريرة، ابن عمر في حديث اقتناء الكلب يقول عن أبي هريرة، وكان صاحب زرع، وهو يقول عن الأنصار: أنهم كان يشغلهم العمل في أموالهم، يعني في زروعهم، وكان صاحب زرع يقول ابن عمر، كيف يقول عن الأنصار أنهم يشغلهم وهو صاحب زرع؟

المقدم: من هو صاحب الزرع؟

أبو هريرة.

المقدم: قد لا يكون له، قد يعمل فيه يا شيخ؟

لا هو صاحب زرع، لا، اتخذ له كلب حراسة، وقال: له زرع في حديث اقتناء الكلب.

المقدم: لا يشغله إذًا.

طيب لا يشغله الزرع، لماذا لا يشغله؟ ليس مثل غيره؟ يحتاج الزرع إلى ما يحتاجه زرع غيره .

المقدم: قد يكون أقام عليه أحدًا.

كان صاحب زرع، وكان يزرع في مزرعته، لكنه بعد نهاية المهمة، بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام-، لزم النبي -عليه الصلاة والسلام- وأخذ عنه ما استطاع أخذه، ثم بعد ذلك بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- اتخذ مزرعة.

المقدم: ونقل ابن عمر أنه كان صاحب زرع هذا بعد.

بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأن رواية الحديث، رواية الحديث بعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- لأنه من أهل الصفة.

المقدم: بالمسجد.

بالمسجد، وملازم للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وإن أبا هريرة.. فيه التفات؛ إذ كان نسق الكلام أن يقول: وإني كان يلزم رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.

 لشبع بلام التعليل للأكثر وهو الثابت في غير "البخاري" أيضًا، وللأصيلي: بشبعي بموحدة أوله، قاله الحافظ.

الآن طريقة أبي هريرة بملازمة النبي -عليه الصلاة والسلام- من أجل ضبط الحديث وضبط ما ينطق به النبي -عليه الصلاة والسلام-، بينما لو نظرنا في حال أبي بكر، وحال عمر، أبو بكر يشتغل بالتجارة، وعمر كان يسكن خارج المدينة، على ما تقدم؛ لعمله، ويتناوب هو وشخص من الأنصار الحضور عند النبي -عليه الصلاة والسلام-، فهؤلاء هما خيار الأمة بعد نبيها -عليه الصلاة والسلام- وأبو هريرة يلزم النبي -عليه الصلاة والسلام- فهل نقول: إنه أفضل منهم من هذه الحيثية؟

وهل نقول لطلاب العلم اقتدوا بأبي بكر وعمر، واشتغلوا بالتجارة ولا تنسوا العلم أو نقول: الزموا العلم واقتدوا بأبي هريرة؟

لأنه يأتيك من طلاب العلم من يقول: أنا أحاول أن أسدد وأقارب، وأطلب العلم، ومع ذلك لا أنسى نصيبي من الدنيا وأشتغل بالتجارة، ثم لا يلبث أن يترك العلم، وينصرف بالكلية إلى التجارة بهذه الحجة، ومنهم من ينقطع للعلم ثم بعد ذلك يكون عالة على الناس إذا أراد أي شيء من متاع الدنيا ذهب إما ليقترض، أو يُتصدق عليه، ماذا نقول؟

المقدم: لا شك أن حال أبو بكر وعمر أفضل؛ لأنهم اشتغلوا بالتجارة، ولم تشغلهم التجارة عن العلم.

نعم، ولكن هل حصل لهم من العلم ما حصل لأبي هريرة؟

المقدم: أبو هريرة في الحفظ هم أكثر.

في الحفظ، لكن لو حضروا وحفظوا مثل أبي هريرة مع ما عندهم من علم وعمل ألا يكون في مثل هذه الصورة أفضل؟ أو نقول: إن الأمة بمجموعها متكاملة، منها من يحفظ، ومنها من يعمل، ومنها من يفهم، ومنها من يحكم، ومنها.... نعم، وهذا هو الأولى أنه إذا وُجد على إنسان، ظهر عليه أمارات الحفظ نقول: الزم الشيوخ واحفظ، ظهرت عليه أمارات الفهم نقول: احفظ ما يعينك على تقرير مسائلك العلمية، واهتم بالاستنباط؛ لأنه حتى نرى في شيوخنا، وأهل العلم في جميع العصور منهم من يهتم بالحفظ، ويحرص على حفظ أكبر قدر من النصوص، ويكون هذا على حساب الاستنباط، ومنهم من يتفرغ للاستنباط ويفرط في الحفظ، ومنهم من يُوفّق فيحفظ كل ما يحتاج إليه، كل ما يحتاج إليه ومع ذلك يعنى بالاستنباط، وتقرير المسائل من خلال محفوظاته، ومنهم من يقول: إن العلم مدون ومحفوظ في الكتب، وأنا أشرح هذه الكتب وأستنبط منها، وأوفر وقت الحفظ للاستنباط.

فتجد الناس مشارب، ولهم أيضًا ميول ونزعات، وكلٌّ له وجهته. فلو قارنت بين شيوخنا مثلاً يعني وجه الألباني - رحمه الله- في طريقة علمه وتعلمه وتعليمه وتأليفه، وجدته مدرسة مستقلة، وإذا نظرت مثلاً إلى الشيخ ابن باز، وجدت أيضًا مدرسة مستقلة، تختلف عن مدرسة الألباني في الجملة، يعني فيها شيء من الاختلاف، وإذا ضممت إليهم الشيخ ابن عثيمين مثلاً وجدت عنده من الاهتمام ما لا يوجد عندهما في جوانب، ويفتقر إلى جوانب مما عندهم، فتجد المسألة مسألة اكتمال، تجد المسألة مسألة تكامل، كل واحد يكمل الآخر.

 فلو قيل لهم كلهم:  انحوا منحى الألباني، واشتغلوا بالرواية وتخريج الأحاديث وجمع الطرق والتصحيح والتضعيف، فمن يستنبط للأمة؟ 

    نعم، ولو قلنا: كلكم اتجهوا إلى طريقة ابن عثيمين مثلاً في تقرير المسائل والاستدلال والاستنباط، فمن يحفظ للأمة ويصحح ويضعف؟ والمسألة اجتمعت في الشيخ ابن باز، له عناية بالرواية، وله عناية بالدراية، لكن بقدر؛ لأن العمر لا يستوعب هذا وهذا بالكامل، فكيف يمكن أن تجتمع هذه الأمور وهذه الاهتمامات من المشايخ الثلاثة في واحد مثلاً؟ العمر لا يستوعب ذلك، ولذلك على الإنسان أن يسعى بقدر الإمكان أن يسدد ويقارب، ويجمع بين هذه الأمور بقدر الإمكان.

لأنه لا استنباط إلا بعد الاعتماد على الحديث، والحديث إذا خلا عن الاستنباط الفائدة العظمى التي ثمرتها العمل بالحديث، صار مجرد رواية، ويصير بمنزلة كتاب، وعلى كل حال التكامل مطلوب، ولذا  قلنا: إن أبا هريرة له الحفظ مثلاً، ولأبي بكر وعمر من نصر الدين ومن نصر النبي -عليه الصلاة والسلام- ومعاونته ومؤازرته ما لهم في هذا الباب ولهم أيضًا من الفهم والاستنباط ما ليس لغيرهم، والله أعلم.

المقدم: -رضي الله عنهم-، أحسن الله إليكم، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.

أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

ما تبقى من ألفاظ وأحكام وأطراف هذا الحديث هو موضوع الحلقات القادمة بإذن الله، وأنتم على خير، شكرًا لطيب متابعتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.