كتاب العلم (23)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فيقول الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: "حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَخِي، عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ"، إسماعيل هو ابن أبي أويس ابن أخت مالك -رحمه الله-، وأخوه عبد الحميد "عن ابن أبي ذئب" الإمام المشهور، "عن سعيد المقبري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وِعَاءَيْنِ"، أبو هريرة -رَضِيَ اللهُ عنهُ وأرضاه- حافظ الصحابة، وقد حفظ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يحفظه غيره، مع أنه لم يتفرد بشيء لم يروه غيره من الصحابة، بل شاركه غيره من أصحاب النبي- عليه الصلاة والسلام-، ولا يضر تفرده؛ لأنه صحابي جليل حافظ دعا له النبي -عليه الصلاة والسلام-، وليس بمثار أدنى إشكال خلافًا لما ادعاه بعض رءوس البدع ومن تبعهم من أعداء الدين من المستشرقين وغيرهم، ولا التفات لهم، لا يلتفت إليهم في ذلك؛ لأن القصد هدم الدين، ويحصل لهم هدمه بالطعن في أبي هريرة فقط، ولذلك لا تجدونهم يطعنون في أحد من الصحابة المقلين؛ لأنهم يتعبون، يطعنون في آبي اللحم أو أبيض بن حمال، يحتاجون إلى خمسة آلاف صحابي من مثل هؤلاء حتى يساووا أبا هريرة، فواحد يريحهم من نصف الدين؛ لأن القصد الطعن في الدين والطعن فيما يحمله أبو هريرة لا الطعن في ذات أبي هريرة.

يقول: "حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاءين، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ" والسبب في ذلك أن التبليغ واجب، وقد أخذ العهد والميثاق على أهل العلم أن يبينوا للناس، وسبق قوله: لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت؛ لأن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، فيقول: والله لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت، فذكر آيتي البقرة على ما تقدم من حديث مضى.

"حفظت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعاءين، فأما أحدهما فبثثته" لمسيس حاجة الناس إليه من الأمور العملية وما يجب اعتقاده، هذا لم يكتب منه شيئًا ولم يخف منه شيئًا، بل بثه في الناس، والشاهد على ذلك كتب السنة التي هي طافحة بمرويات أبي هريرة، فلا يظن فيه أنه كتب.

"وَأَمَّا الآخَرُ" الوعاء الثاني "فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ"، وأنه لا يترتب عليه أحكام عملية ولا مسائل اعتقادية، وإنما هي فيما يجري فيما يأتي بعده -عليه الصلاة والسلام- من خلافات ومشاكل وفتن تتعلق ببعض الولاة وبعض الأمراء، ومعروف أن الولاة والأمراء لا سيما من اتصف منهم بمخالفة لما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- ما يريد أن يثار حوله شيء، ولا يرضى أن يثار عنه شيء ولو كان حقًّا، والشواهد والأحوال كثيرة لمن تكلم بشيء يثير الناس ولو كان دليله من الكتاب والسنة؛ لأنهم لا يرضون.

وعلى العالم والداعية والواعظ والخطيب أن يتحرى في كلامه المصالح، وينظر أيضًا في المفاسد. الأصل التبليغ والأصل البيان، وهذا واجب على أهل العلم، لكن يبقى أن الأحوال والظروف تختلف والمسائل أيضًا تختلف، وهناك مسائل بينها بعض أهل العلم وقاموا بواجبها ما يلزم أن يتصدى لبيانها كل أحد.

يقول: (قوله: حدثنا إسماعيل هو ابن أبي أويس، قال: حدثني أخي هو أبو بكر عبد الحميد. قوله: حفظت عن، وفي رواية الكشميهني: من بدل عن، وهي أصرح في تلقيه من النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا واسطة) مع أنه متأخر الإسلام، أسلم عام خيبر سنة سبع، وكثير من مروياته تلقاها عنه -عليه الصلاة والسلام- مباشرة؛ لأنه لزمه، بينما انشغل كثير من الصحابة بأعمالهم وتجاراتهم، لكن أبا هريرة لزمه على ملء بطنه لا نظر له في الدنيا -رَضِيَ اللهُ عنهُ وأرضاهُ- فحفظ ما لم يحفظه غيره، وبعض أحاديثه وهي جملة وافرة حفظها أو رواها بواسطة بعض من تقدم إسلامه من الصحابة، ومراسيل الصحابة كما هو معلوم حجة بالإجماع.

 وأما الذي أرسله الصحابي         فحكمه الوصل على الصواب

 بل نقل عليه الإجماع، خالف في ذلك أبو إسحاق الإسفراييني ونفر يسير، لكن بعض العلماء نقل عليه الإجماع، ما تلقاه مباشرة أو ما تلقاه بواسطة صحابي آخر الحكم واحد، لا يقال: إنه متأخر الإسلام، كيف حفظ في هذه المدة اليسير هذا الكم الكبير؟ قد روى أحاديث سياقها يدل على أنها قبل إسلامه، يعني وقعت قبل إسلامه، مما يدل على أنه تلقاها بواسطة صحابي آخر أو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- تحدث عنها بعد ذلك.

(قوله: وعاءين أي ظرفين، أطلق المحل وأراد به الحال، أي نوعين من العلم) حفظت وعاءين، الوعاء ما يُحفظ لكن ما يوضع في الوعاء هو المحفوظ، (فأطلق المحل وأراد الحال، أي نوعين من العلم، وبهذا التقرير يندفع إيراد من زعم أن هذا يعارض قوله في الحديث الماضي: كنت لا أكتب، وإنما مراده أن محفوظه من الحديث لو كتب لملأ وعاءين. ويحتمل أن يكون أبو هريرة أملى حديثه على من يثق به فكتبه له وتركه عنده، والأول أولى، ووقع في المسند عنه: حفظت ثلاثة أجربة بثثت منها جرابين، وليس هذا مخالفًا لحديث الباب؛ لأنه يُحمل على أن أحد الوعاءين كان أكبر من الآخر بحيث يجيء ما في الكبير في جرابين وما في الصغير في واحد) يعني أحاديثه أثلاث، ثلث في وعاء وثلثان في وعاء.

 (ووقع في المحدث الفاصل للرامهرمزي) المحدث الفاصل بين الراوي والواعي للرامهرمزي من أقدم ما صنف في علوم الحديث، بل عده بعضهم أول المصنفات، يعني بطريقة الجمع وجمع كثير من أبواب علوم الحديث، صاحبه متقدم سنة ثلاثمائة وستين قبل الحاكم الذي صنف معرفة علوم الحديث، فيعدونه من أوائل المصنفات التي تجمع أبوابًا من أبواب علوم الحديث، وإن كان فيه إعواز كبير، يعني ما يكفي للمتعلم لإتقان هذا الفهم، لكنه يكفي أنه أول هذه المصنفات أو من أوائلها، بعضهم يجعل العلل للترمذي هو الأول، وبعضهم يجعل ما كتبه الإمام الشافعي في ثنايا كتبه مما يتعلق بهذا العلم أولًا، لكن الكلام على الإفراد على إفراد هذا العلم يعد أول ما أُفرد في أنواع هذا العلم، لكنه كما قال الحافظ ابن حجر في النخبة: لم يستوعب، وهذا طبيعي، أول من يؤلف لا يستوعب، يأتي من يأتي من بعده ثم يضيف فيستوعب أكثر، ثم يأتي بعده من يضيف إلى أن يكتمل هذا العلم.

وبعده الحاكم في معرفة علوم الحديث، لكنه لم يهذب ولم يرتب، كما قال الحافظ، مع أن ابن خلدون في مقدمته الشهيرة ذكر عن الحاكم أنه أول من هذَّب هذا العلم ورتَّبه.

طالب: .......

 ماذا؟ يعني أيهم أولى بالقبول؟

طالب: ابن حجر.

ابن حجر، لكن يمكن أن يُحمل كلام ابن خلدون على من تقدمه هذَّب ورتَّب، وفيه نوع ترتيب كالحاكم، وكلام الحافظ ابن حجر بالنسبة لمن جاء بعده؛ لأنه لو قارنت بين معرفة علوم الحديث للحاكم أو علوم الحديث لابن الصلاح وجدت فرقًا كبيرًا، مع أن ابن الصلاح يحتاج إلى شيء من الترتيب والتقديم والتأخير، لكن جعلوه غاية في هذا الفن.

قال: (ووقع في المحدث الفاصل للرامهرمزي من طريق منقطعة عن أبي هريرة خمسة أجربة، وهو إن ثبت محمول على نحو ما تقدم) يعني مثل ما قيل في الجواب السابق: وعاء كبير ووعاء صغير، هذا فيه الثلثان، وهذا فيه الثلث. وهذا أيضًا كبير، وذا أصغر منه، وفيه ثلاثة أخماس، وهذا فيه خمسان. يعني هذا مجرد توجيه لهذه الرواية إن صحت، مع أنها منقطعة.

(وعرف من هذا أن ما نشره من الحديث أكثر مما لم ينشره) يعني مما تقدم، وأنه بث جرابين، وأعرض عن الثالث، أن ما بثه أبو هريرة أكثر. وما دام المسألة غير مكتوبة، الأحاديث غير مكتوبة، وإنما هذا في تقديره وظنه، قد يخطئ الإنسان في التقدير، قد يكون عنده شيء كثير، ويظنه نصفًا أو ثلثًا، وهو في الحقيقة والواقع لا يعدل هذا، ولا قريبًا منه. كان المتقدمون لا يهتمون بالأرقام، ولذلك تتباين أقوالهم في أعداد أحاديث الكتب، صحيح مسلم ثمانية آلاف، وقال ابن سلمة: عشرة آلاف، ليس الفرق عشرة أحاديث، عشرين حديثًا، مائة حديث، الفرق النصف، أربعة آلاف حديث.

والمسند قالوا: أربعون ألفًا، ومنهم من قال: ثلاثون، ولما جاء الترقيم صار أقل.

المقصود أنهم يتوقعون ويخمنون أن هذا الكتاب كبير جدًّا، وفيه ما يبلغ هذه العدة، وهذا لا يهمهم كثيرًا ولا يترتب عليه شيء. بينما اهتم المتأخرون بهذه القشور، المتقدمون يقول: أعد حديث المسند ثلاثين ألفًا وأربعين ألفًا، ويرقمها واحد واثنين، وهذه رواية، وهذا طريق، وهذا شاهد، وهذا متابع، ويرقم كل شيء على حدة يحتاج إلى شهر، المتقدمون يقولون: في هذا الشهر نحفظ لنا ألف حديث، وهذا أهم. بينما وصل الترف بالمتأخرين إلى أن عدوا الحروف فضلاً عن الأحاديث.

صحيح أن الأرقام في الإحالات نافعة، لكن في السابق إذا تعبت رقَّمت نسخة واحدة، الآن إذا تعبوا على الكتاب رقموا عشرات الآلاف من النسخ، واستفاد منها الناس جميعًا، الترقيم نافع يعني ليس عريًّا عن الفائدة. فإذا رقم المسند، أولاً يرقمه من لا عناية له بالعلم يقوم بترقيمه فينتفع به أهل العلم، بالإحالات وسهولة المراجعة والضبط نافعة، بينما المتقدمون يهمهم الحفظ، وإذا رقم نسخة ما استفاد منها الناس، ما يستفيد منها أحد إلا هو.

المقصود أن التعب الذي يبذل في الترقيم في السابق لا يقابل المنفعة من ورائه، بينما في الأخير الأرقام نافعة، وترقم نسخة واحدة، ويطبع عليها عشرات الآلاف ينتفع بها الناس. زاد الترف إلى أن عدوا الحروف، كونه تعد حروف القرآن هذا من قديم وتعرف آياتها وعددها وحروفها والوقوف وغيره، هذا من الصدر الأول. لكن أن تُعد حروف كتب شخص، طالب علم من اليمن أشكل عليه القراءة في تفسير الجلالين هل يتوضأ أم ما يتوضأ إذا أراد أن يقرأ في تفسير الجلالين، والمقصود به التفسير الممزوج مع القرآن، قام وقال: الحكم للغالب، فعد حروف القرآن وحروف التفسير أيهما أكثر؟ يقول: إلى المزمل العدد واحد، حروف التفسير في مقابل حروف القرآن، ومن المدثر إلى آخر القرآن زادت حروف التفسير، فانحلت عنده المشكلة، فصار يقرأ في التفسير بدون وضوء. هذا ليس من اهتمام السلف أبدًا، ما يهتمون بمثل هذا.

(قوله: بثثته بفتح الموحدة والمثلثة وبعدها مثلثة ساكنة تدغم في المثناة التي بعدها).

 طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

يعني يجوز إدغامها وإلا فالأصل الفك.

 (أي أذعته ونشرته، زاد الإسماعيلي: في الناس. قوله: قطع هذا البلعوم، زاد في رواية المستملي قال أبو عبد الله يعني المصنف: البلعوم مجرى الطعام، وهو بضم الموحدة، وكنى بذلك عن القتل، وفي رواية الإسماعيلي: لقطع هذا يعني رأسه، وحمل العلماء الوعاء الذي لم يبثه على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء السوء وأحوالهم وزمنهم، وقد كان أبو هريرة يكني عن بعضه ولا يصرح به؛ خوفًا على نفسه منهم، كقوله: أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان) فمات سنة تسع وخمسين.

 قال: (أعوذ بالله من رأس الستين وإمارة الصبيان، يشير إلى خلافة يزيد بن معاوية؛ لأنها كانت سنة ستين من الهجرة، واستجاب الله دعاء أبي هريرة، فمات قبلها بسنة، وستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك أيضًا في كتاب الفتن، إن شاء الله تعالى.

قال ابن المنير: جعل الباطنية هذا الحديث ذريعةً إلى تصحيح باطلهم، حيث اعتقدوا أن للشريعة ظاهرًا وباطنًا، وذلك الباطن إنما حاصله الانحلال من الدين)؛ لأن الباطنية يؤولون الصلاة، ويؤولون الزكاة، ويؤولون الصوم، ويؤولون الحج بما لا عمل فيه ألبتة، مجرد كلام لا طائل تحته، ومن أراد الأمثلة على ذلك فلينظر في تفاسيرهم تفاسير الباطنية وهو ما يسمونه التفسير الإشاري، فيكفي في بطلانه أنك لا تجد اثنين منهم يتفق كلامهم، ما تجد اثنين يتفق كلامهم على الإشارة والرموز التي تؤخذ من النص، ما تجد أحدًا.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

لا وخشي أن يمر عليه غيره. عمال.

 طالب: .......

ماذا ؟

طالب: .......

، عمال عمال، يحتمل هذا وهذا.

طالب: .......

ممن لهم بهم صلة، من أصولهم مثلاً، مثلاً إذا كانت دولة تنتمي إلى شخص واحد مثلاً وله أولاد وفروعهم يمتدون مائة سنة وتكلم أحد فيهم يغار على أولاده يغار على أتباعه.

(قال: وإنما أراد أبو هريرة بقوله قُطع أي قَطع أهل الجور رأسه إذا سمعوا عيبه لفعلهم وتضليله لسعيهم، ويؤيد ذلك أن الأحاديث المكتوبة لو كانت من الأحكام الشرعية ما وسعه كتمانها، لما ذكره في الحديث الأول من الآية الدالة على ذم من كتم العلم. وقال غيره: يحتمل أن يكون أراد مع الصنف المذكور ما يتعلق بأشراط الساعة وتغير الأحوال والملاحم في آخر الزمان، فينكر ذلك من لم يألفه، ويعترض عليه من لا شعور له به).

نعم.

طالب: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: "بَابُ الإِنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ.

حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ جَرِيرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: «اسْتَنْصِتِ النَّاسَ»، فَقَالَ: «لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»".

قال الإمام البخاري -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: "بَابُ الإِنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ" لا شك أن الإنصات والاستماع والسكوت للعالم وهو يُحدث أول درجات التحصيل، فالذي لا يستمع ولا ينصت ما يستفيد شيئًا، إضافة إلى أنه يشغل غيره، يعني تجد بعض الطلاب معه كتاب آخر يقرأ فيه، لكن هذا ضرره على نفسه، ولا يوجد هذا في الدروس العلمية في المساجد، يعني من يفعل مثل هذا ما يجيء أصلاً، هذا يوجد في الدراسات النظامية، ويشكو منه كثير من المشايخ، تجد واحدًا من الطلاب يحضر الكتاب، وأسوأ منه من يحضر جريدة مثلاً، وأسوأ منه من يشغل غيره.

 فالإنصات لا بد منه، وأول مراتب التحصيل الإنصات.

قال -رحمه الله-: "حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ" وهو ابن منهال، "قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ" وهو ابن الحجاج، "قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ" ابن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي، "عَنْ جَرِيرٍ" جده، "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ" يعني جرير بن عبد الله، "قال له فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ: «اسْتَنْصِتِ النَّاسَ»" يعني أسكتهم؛ ليتكلم النبي -عليه الصلاة والسلام-، ويخطب بالناس، ويبين لهم ما يجب عليهم.

 "«استنصت الناس»، فَقَالَ" يعني في ضمن ما قال: "«لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»"، وتقدم في كتاب الإيمان حديث: «سباب المسلم فسوق وقتاله كفر»، ولا شك أنه كفر بالنسبة لمن استحله، أو هو مثل صنيع الكفار الذين يقتل بعضهم بعضًا، ويقتلون المؤمنين، هذا ليس من عمل المسلمين، قتل المسلمين ليس من عمل المسلمين في الأصل، وإن كان لا يقتضي الخروج من الملة إلا بالاستحلال.

(قوله: باب الإنصات للعلماء، أي السكوت والاستماع لما يقولونه.

قوله: حدثنا حجاج هو ابن منهال. قوله: عن جرير هو ابن عبد الله البجلي، وهو جد أبي زرعة الراوي عنه هنا.

قوله: قال له في حجة الوداع، ادعى بعضهم أن لفظ: له زيادة؛ لأن جريرًا إنما أسلم بعد حجة الوداع بنحو من شهرين، فقد جزم ابن عبد البر بأنه أسلم قبل موت النبي -صلى الله عليه وسلم- بأربعين يومًا، وما جزم به يعارضه قول البغوي وابن حبان إنه أسلم في رمضان سنة عشر، ووقع في رواية المصنف لهذا الحديث في باب حجة الوداع بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لجرير، وهذا لا يحتمل التأويل، فيقوى ما قال البغوي، والله أعلم).

 على كل حال: قال له في حجة الوداع، قال لجرير، كلها صريحة في أنه بدون واسطة.

(قوله: «يضرب») «لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب» (هو بضم الباء في الروايات، والمعنى لا تفعلوا فعل الكفار فتشبهوهم في حالة قتل بعضهم بعضًا، وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى) يعني لماذا لا يكون «يضرب» مجزومًا؟ هو قال: (هو بضم الباء في الروايات)؟

طالب: .......

كيف؟

طالب: .......

 لماذا يجزم؟

طالب: .......

لا، لكن يختل المعنى، وإلا لو ما يختل المعنى فصحيح يجزم، لكن لو في هذا الموضع يختل المعنى. {يَرِثُنِي} [مريم: 6]، ما قال: يرثْني. {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي} [مريم: 5، 6]، ما قال: يرثْني، لماذا؟

طالب: .......

لا لا لا، لكن المعنى يختل، حتى في الآية يرثُني يختل المعنى لو جزم، وإلا الأصل أن يجزم إما في جواب الطلب أو في جواب شرط مقدر. لكن هذا إذا قدرت، ما فيه فرق بين الطلب والنهي؛ لأن هذا طلب كف.

طالب: .......

لا لا، لكن المعنى يختل، يختل المعنى يكون خلاف المقصود، يعني لو قدرنا شرطًا مقدرًا مثلاً: إن ترجعوا يضرب... العيني يا أبا عبد الله، عمدة القاري.

(وسيأتي بقية الكلام عليه في كتاب الفتن إن شاء الله تعالى. قال ابن بطال: فيه أن الإنصات للعلماء لازم للمتعلمين)، يعني لماذا حضر الطالب؟ ألم يحضر ليستفيد؟ كيف يستفيد وهو لم ينصت؟

(لازم للمتعلمين؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، كأنه أراد بهذا مناسبة الترجمة للحديث، وذلك أن الخطبة المذكورة كانت في حجة الوداع والجمع كثير جدًّا، وكان اجتماعهم لرمي الجمار وغير ذلك من أمور الحج، وقد قال لهم: «خذوا عني مناسككم» كما ثبت في صحيح مسلم، فلما خطبهم ليعلمهم ناسب أن يأمرهم بالإنصات، وقد وقع التفريق بين الإنصات والاستماع في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]) يعني الاستماع قدر زائد على مجرد الإنصات.

قال: (ومعناهما مختلف فالإنصات هو السكوت، وهو يحصل ممن يستمع وممن لا يستمع) يعني مثل السماع (كأن يكون مفكرًا في أمر آخر، وكذلك الاستماع قد يكون مع السكوت، وقد يكون مع النطق بكلام آخر لا يشتغل الناطق به عن فهم ما يقول الذي يستمع منه)؛ لأن بعض الناس عنده قدرة وقوة في الفهم، وقوة في الحفظ، وقوة في الإدراك، يمكن أن ينشغل بشيء، ويحفظ شيئًا، وذكروا عن بعض القراء أنه يسمع لعشرة من الطلاب في آن واحد من مواضع مختلفة من القرآن، ومع ذلك يرد عليهم كلهم، علم الدين السخاوي ذكروا عنه ذلك أنه يستمع لعشرة من الطلاب وفي آن واحد يسمع لهم ويرد عليهم.

 والدارقطني -رحمه الله- حضر درس إملاء حديث لبعض الشيوخ، وكان معه كتاب آخر ينسخ فيه، والشيخ يملي، فقال واحد من الطلاب: ضيقت علينا ما الذي جئت له؟ لأنه منشغل بأمر آخر، وصحيح يضيق ....... فسأله الدارقطني: كم أملى الشيخ من حديث؟ يسأل هذا المنصت، فما أجاب، قال: اسمع، فسرد جميع ما ذكره الشيخ من الأحاديث بأسانيدها على ترتيبها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

(قوله: «يضربُ» برفع الباء، وهو الصواب، وهو الرواية التي رواها المتقدمون والمتأخرون وفيه وجوه؛ أحدها: أن يكون صفة لكفار، أي: لا ترجعوا بعدي كفارًا متصفين بهذه الصفة القبيحة، يعني يضرب بعضكم رقاب آخرين.

والثاني: أن يكون حالاً من ضمير: «لا ترجعوا»، أي: لا ترجعوا بعدي كفارًا حال ضرب بعضكم رقاب بعض.

والثالث: أن يكون جملة استئنافية، كأنه قيل: «كيف يكون الرجوع كفارًا؟ فقال: يضرب بعضكم رقاب بعض») كفارًا أو كفرًا؟ (فعلى الوجه الأول: يجوز أن يكون معناه: لا ترجعوا عن الدين بعدي فتصيروا مرتدين مقاتلين يضرب بعضكم رقاب بعض بغير حق على وجه التحقيق، وأن يكون: «لا ترجعوا» كالكفار المقاتل بعضكم بعضًا على وجه التشبيه بحذف أداته، وعلى الثاني يجوز أن يكون معناه: لا تكفروا حال ضرب بعضكم رقاب بعض لأمر يعرض بينكم؛ لاستحلال القتل بغير حق، وأن يكون: «لا ترجعوا» حال المقاتلة لذلك كالكفار في الانهماك في تهييج الشر وإثارة الفتن بغير إشفاق منكم بعضكم على بعض في ضرب الرقاب. وعلى الثالث: لا يجوز).

 إلى أن قال: (وجوَّز ابن مالك وأبو البقاء جزم الباء) «يضربْ» (على أنه بدل من: «لا ترجعوا»، وأن يكون جزاء لشرط مقدر على مذهب الكسائي، أي: فإن رجعتم يضربْ بعضكم رقاب بعض.

 وقيل: يجوز الجزم بأن يكون جواب النهي على مذهب من يُجوز: لا تكفر تدخل النار. وقال القاضي والنووي: ومن سكَّن الباء ممن لم يضبطه أحال المعنى؛ لأن التقدير على الرفع: لا تفعلوا فعل الكفار فتشبهوا بهم في حالة قتل بعضهم بعضًا ومحاربة بعضهم بعضًا.

قال القاضي: وهذا أولى الوجوه التي يتناول عليها هذا الحديث. وقد جرى بين الأنصار كلام بمحاولة اليهود حتى ثار بعضهم إلى بعض في السلاح، فأنزل الله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} [آل عمران: 101] أي تفعلون فعل الكفار، وسياق الخبر يدل على أن النهي عن ضرب الرقاب، والنهي عما قبله بسببه، كما جاء في حديث أبي بكرة- رَضِيَ اللهُ عنهُ-: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام». وذكر الحديث، ثم قال: «ليبلغ الشاهد الغائب...») إلى آخره.

ففيهم من جوَّز الجزم: يرث.

طالب: .......

نعم، لكن لماذا رُفع؟ يعني المتبادر الظاهر أنه جواب الطلب، لكن لماذا رفعت في قراءة الأكثر؟ هاه؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

يعني هي مجرد رواية؟

طالب: .......

نعم قُرئت، لكن لماذا قراءة الأكثر على {يَرِثُنِي} [مريم: 6]؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

يعني مثل ما قيل هنا.

يقول: (وقد وقع التفريق بين الإنصات والاستماع في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، ومعناهما مختلف، فالإنصات هو السكوت وهو يحصل ممن يستمع وممن لا يستمع، كأن يكون مفكرًا في أمر آخر، وكذلك الاستماع قد يكون مع السكوت، وقد يكون مع النطق بكلام آخر لا يشتغل الناطق به عن فهم ما يقول الذي يستمع منه، وقد قال سفيان الثوري وغيره: أول العلم الاستماع، ثم الإنصات، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر)، (أول العلم الاستماع) ما فيه علم لمن لا يستمع، ولا علم لمن لا ينصت، لا يمسك شيئًا، لا بد أن يستمع وينصت.

(ثم الحفظ) تحفظ ما سمعت، (ثم العمل) تعمل به؛ لأن الذي يثبت العلم هو العمل، وهو الثمرة من العلم.

 (ثم النشر) التبليغ «بلغوا عني»، «فليبلغ الشاهد الغائب»، والنشر يكون بالتعليم، ويكون بالتأليف، والتعليم والتأليف من أعظم ما يثبت العلم في قلب حامله، ولذلك تجدون بعض طلاب العلم ممن وصفوا بالحفظ والفهم والذكاء والقوة، تجدهم أثناء الطلب متفوقين، ثم يتخرجون في الدراسات سواء كانت نظامية أو غير نظامية متفوقين، ثم ينشغلون، ولا ينشرون العلم، لا يعملون، ولا ينشرون، ينشغلون بأمور الدنيا، فما يحتاجون إلا إلى مدة قصيرة ثم يرجعون عوام.

لو تتأملون الأوائل في الكليات الشرعية، تجدونهم لا ذكر لهم في الغالب، لماذا؟

 لأنهم انشغلوا بأمور الدنيا، وتجدون من دونهم في الترتيب يسَّر الله لهم سبل التعليم، ودلهم إلى هذا الطريق، ويسره لهم، ووفقهم له، والتأليف، صاروا علماء. بينما زملاؤهم ممن هم قبلهم في الترتيب ما يذكرون، ولذا يقول: (أول العلم الاستماع، ثم الإنصات، ثم الحفظ، ثم العمل) لا علم بلا حفظ.

 (ثم العمل) هو الذي يثبِّت العلم، وهو الثمرة، والعلم بلا عمل ليس بعلم في الحقيقة، الذي لا ينتفع به صاحبه ليس بعلم، بل هو حجة عليه، (ثم النشر) ويكون النشر مثلما ذكرنا بالتعليم ويكون بالتأليف.

(وعن الأصمعي تقديم الإنصات على الاستماع)، لكنه في الآية الاستماع مقدم على الإنصات: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، (وقد ذكر علي بن المديني أنه قال لابن عيينة: أخبرني معتمر بن سليمان عن كهمس عن مطرف قال: الإنصات من العينين)؛ لأن من يرسل بصره يمينًا وشمالاً ينشغل عن الإنصات، لكن الذي يحفظ عينيه مضطر للإنصات، والموارد إلى قلبه تقل، ورود الخواطر وورود الهواجس، وورود المؤثرات على القلب أقل بالنسبة للعميان، ولذا تجدون الغالب منهم متميز بالحفظ، لماذا؟

 لأن قلبه غير مشتت، بخلاف المبصر. (عن مطرف قال: الإنصات من العينين، فقال له ابن عيينة: وما ندري كيف ذلك؟ قال: إذا حدثت رجلاً فلم ينظر إليك لم يكن منصتًا، انتهى) يجلس يحدث الآخرين، ويتلفت يمينًا وشمالًا، هذا لم يكن منصتًا لك، والمعنى يحتمل ما ذكرناه.

 (انتهى، وهذا محمول على الغالب، والله أعلم). يقول: هذا محمول من الغالب؛ لأن بعض الناس قد ينشغل بأمور أخرى ولا يفوته شيء، وبعض الناس أدنى حركة يذهب كل شيء، ريح تحرك الباب يطير كل ما سمع، ولا يدري هل هو في أول الكلام أو في آخره، وقد يكون يقرأ في كتاب أو في المصحف ثم لا يدري إذا تحرك شيء هل هو في الصفحة اليمنى أو اليسرى.