التعليق على الموافقات (1433) - 01

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

طالب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

 فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

المسألة الثانية: ولما كان قصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة، وكانت العوائد قد جرت بها سنة الله أكثريةً لا عامة، وكانت الشريعة موضوعةً على مقتضى ذلك الوضع؛ كان من الأمر الملتفَت إليه إجراء القواعد على العموم العادي، لا العموم الكلي التام الذي لا يختلف عنه جزئي ما".

غالب القواعد الشريعة، غالبها أغلبية وليست كلية، وعلى هذا جاءت النصوص والتكاليف، تنظر إلى العموم لا إلى الأفراد. فالتمييز عُلق بالسبع: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع»، مع أنه قد يميز بعض الأطفال لخمس، وقد يميز لأربع، والتمييز في الست كثير، لكن لا تأتي السبع إلا وغالب السواد الأعظم من الأطفال قد ميزوا، وقليل منهم جدًّا من يتجاوز سبع دون تمييز، فعلق على السبع. وقل مثل هذا في التكليف.

التكليف عُلق بعلامات وأمارات التي بالبلوغ، والبلوغ له علامات، لكن قد يفقه ويعقل هذه التكاليف، ويتحمل هذه التكاليف بعض الناس قبل ذلك، لكن النظر إلى عموم الناس هو غالبه. نعم.

طالب: "أما كون الشريعة على ذلك الوضع فظاهر، ألا ترى أن وضع التكاليف عام؟ وجُعل على ذلك علامة البلوغ، وهو مظنة لوجود العقل الذي هو مناط التكليف؛ لأن العقل يكون عنده في الغالب لا على العموم؛ إذ لا يطرد ولا ينعكس كليًّا على التمام".

نعم؛ لأنه قد يعقل قبل ذلك، وقد يتجاوز ذلك دون أن يعقل، هو لا يطرد ولا ينعكس. هذا في الأمور العامة التي يُكلف بها عموم الناس، لكن الأمور المنوطة بأفراد الناس لا يُنظر فيها إلى هذا، إلى أفراد الناس. فمثلًا العلماء في صحة التحمل للحديث علقوه بالتمييز، لكن هل علقوه بالسبع؟ لا، متى ما ميز يتحمل الحديث، يميز الأربع، يميز الخمس، يميز العشر يتحمل الحديث، لكن قبل التمييز لا، ولم يعلقوه بسن معينة، وإن كان أكثر أهل العلم حدوه بالخمس، جعلوا التمييز الخمس؛ لأنه وُجد التمييز الخمس بالنص: حديث محمود بن الربيع الذي عقل المجة وهو ابن خمس سنين، فأكثر المحدثين جعلوا التحمل على هذا؛ لأن محمود بن الربيع عقل المجة وتحملها ورواها لغيره. لكن قد يميز لأربع، والشواهد والأحوال من الأطفال تشهد بأنه قد يوجد طفل ابن أربع سنين يميز، ويتحمل ما يسمع، ويؤديه كما سمعه، كما أنه قد يوجد ابن عشر وهو لا يميز، قال: (ومرد ذلك إلى التمييز، فإن ميز صح تحمله ولو دون خمس، وإن لم يميز لم يصح تحمله ولو كان ابن خمسين)، هذا كلام ابن الصلاح.

هذا في الأمور التي يعامل فيها كلٌّ على حسبه، كل مفرد، كل فرد يتعامل فيها يعامله الناس على هذا المجال أو على هذا الاحتمال.

المقصود أن الأمور التي تتعلق بأفراد الناس لا يُنظر فيها إلى شيء عام، لكن ما يطالب به العامة لا بد من ضابط يضبط الجميع.

الآن لو قيل: يُترك أمر الأطفال لآبائهم، إذا آنسوا منهم التمييز أمروهم. فتجد من الآباء من عنده مزيد حرص، يأتي بالطفل وهو ابن سنة وسنتين يقول: ميز ويؤذي به الناس، وتجد منهم من لا حرص لديه ولا اهتمام ابنه يلعب عند باب الشارع وهو ابن عشر وإحدى عشرة والله ما ميز.

طالب: صغير.

نعم؟

طالب: وهو صغير.

وهو صغير توه، لكن الذي يجري على الناس كلهم تكاليف العامة يوضع فيها سن عام، أما الأمور الخاصة التي يحاسب فيها كل واحد على أو يعامل فيها كل واحد على حسبه، هذا يوكل إلى الأفراد.

طالب: "إذ لا يطرد ولا ينعكس كليًّا على التمام؛ لوجود من يتم عقله قبل البلوغ، ومن ينقص وإن كان بالغًا، إلا أن الغالب الاقتران".

الآن لما وُضع حسب المصلحة، الدرجات، درجات النجاح في الدراسات، فمثلًا الستون هي الدرجة درجة النجاح في الكليات مثلًا. هذا الذي جاء بالستين، وذاك الذي جاء بالسبعين، وذاك الذي جاء بأقل من ستين، لو نظرت في أفرادهم تجد صاحب الخمسين أحيانًا أكثر تحصيلًا من الذي أخد سبعين، فلا تستطيع أن تميز بين هذا وهذا؛ لأنك عرفت هذا، وجهلت ذاك، لا يمكن أن تحيط بالناس كلهم، فلا بد من وضع شيء عام يعم الناس كلهم، وإلا قد يوجد طالب يرسب وطالب أردأ منه ينجح، فوضعت هذه الدرجات لحمل الناس عليها، وهي في الجملة لا شك أنها تقريبية، ومظنة لشيء من التحصيل المناسب لهذه الدرجة، وإلا كم مر علينا من طلاب أعادوا السنة وتجاوزها من هو أردأ منهم، لكن ما يمكن أن يُضبط الناس، كل شخص يوضع له ميزان خاص، لا، مستحيل هذا.

طالب: "وكذلك ناط الشارع الفطر والقصر بالسفر لعلة المشقة، وإن كانت المشقة قد توجد بدونها وقد تُفقد معها".

يعني لا تطرد ولا تنعكس، مثل ما تقدم في البلوغ، لا تطرد ولا... قد يوجد سفر دون مشقة، وعرفنا سابقًا أن من الناس في أسفاره أقل من مشقة كثير من الناس في حضرته في بلده، وقد توجد المشقة في البلد عند كثير من الناس من فقراء المسلمين، تتصور فقراء ليس عندهم من آلات الترفيه شيء، وشخص مسافر على طائرة ويسكن في فندق فخم، هذا في بيته وذاك في سفره أيهما أكثر مشقة؟ لكن وُضع شيء عام، وصف مؤثر يشترك فيه الجميع، وُجد السفر يوجد الترخص، ينتفي السفر ينتفي، عُلق الترخص بوصف مؤثر يشترك فيه الجميع. وإلا لو زادت المشقة على العمال مثلًا هل نقول: يفطرون؟

طالب: لا.

كما طالب بعض الرؤساء ممن هلك، خلاص العمال ما عليهم صيام، هؤلاء أشد من المسافرين يقول. لو قلنا بمثل هذا ضاعت الأركان، أركان الدين تضيع بهذه الطريقة، لكن الشرع يضع موازين ينظر فيها إلى عموم الناس لا إلى أفرادهم وأعيانهم.

طالب: "ومع ذلك فلم يعتبر الشارع تلك النوادر، بل أجرى القاعدة مجراها، ومثله حد الغنى بالنصاب، وتوجيه الأحكام بالبينات، وإعمال أخبار الآحاد والقياسات الظنية إلى غير ذلك من الأمور التي قد تتخلف مقتضياتها في نفس الأمر".

توجيه الأحكام بالبينات، فقد توجد البينة ويحكم بموجبها القاضي، ويحتمل أن هذه البينة في حقيقة الأمر كلامها غير مطابق للواقع، لكن ما علينا من مطابقة الواقع ما دامت مقدمتنا شرعية: «البينة على المدعي»، أحضر بينة، وهذه البينة مرضية في اجتهاد القاضي، يعني يجب على القاضي أن يقيس هذه البينة، ويزن هذه البينة بالموازين الشرعية، فإذا كانت ممن تُقبل شهادتهم حكم بها، ولو قُدر أن هذا الشاهد أخطأ، والحكم صار غير مطابق للواقع، الحكم صحيح ونافذ؛ لأن مقدماته شرعية، إذًا نتيجته شرعية. أيضًا أخبار الآحاد: أخبار الآحاد، يعني هل متصور من الرواة العصمة؟

طالب: لا.

نعم. لا. هل متصور أو متوقع من الرواة نقلة الأخبار أنهم لا يخطئون؟

طالب: لا.

من يعرو منه الخطأ والنسيان؟ وضبطت أخطاء على كبار الحفاظ، مالك نجم السنن ضُبطت عليه أوهام، ومثله جميع الرواة، وما من حديث أو خبر يرويه هذا الراوي إلا ويحتمل.

طالب: الصحة والخطأ.

ولو واحد بالمائة أنه أخطأ فيه، لكن الكلام على العموم، روايته بالعموم، إذا كانت روايته موافقة لروايات الثقات ولا يخالفهم إلا نادرًا فهو ثقة ضابط، ولا يتصور فيه أنه ضابط مائة بالمائة، لا.

وقل مثل هذا القياسات، الأقيسة الظنية، ما من مسألة يُعمل فيها القياس من قبل المجتهد وينازع فيها، يعني هذا يقول: يستعمل فيها قياس الدلالة، وهذا يستعمل فيها قياس العلة، وهذا يقول: لا، قياس الشبه أولى؛ لأنها يتنازعها وينتابها أمران، وكل يقضي باجتهاده ويحكم باجتهاده.

طالب: "إلى غير ذلك من الأمور التي قد تتخلف مقتضياتها في نفس الأمر، ولكنه قليل بالنسبة إلى عدم التخلف؛ فاعتُبرت هذه القواعد كليةً عاديةً لا حقيقيةً".

نعم. "كلية عادية"، كيف "كلية" ويتخلف عنها ما يتخلف؟ لماذا لا نقول: أغلبية؟ "كلية عادية"، يعني في العادة، جرت العادة بأن عموم الناس على هذا، "لا حقيقية"، لأنه قد يتخلف عنها بعض الأفراد.

طالب: "وعلى هذا الترتيب تجد سائر القواعد التكليفية. وإذا ثبت ذلك ظهر أن لا بد من إجراء العمومات الشرعية على مقتضى الأحكام العادية، من حيث هي منضبطة بالمظنات، إلا إذا ظهر معارض؛ فيعمل على ما يقتضيه الحكم فيه، كما إذا عللنا القصر بالمشقة؛ فلا ينتقض بالملك المترف ولا بالصناعة الشاقة، وكما لو علل الربا في الطعام بالكيل؛ فلا ينتقض بما لا يتأتى كيله لقلة أو غيرها، كالتافه من البر، وكذلك إذا عللناه في النقدين بالثمنية لا ينتقض بما لا يكون ثمنًا لقلته، أو عللناه في الطعام بالاقتيات، فلا ينتقض بما ليس فيه اقتيات، كالحبة الواحدة، وكذلك إذا اعترضت علة القوت بما يُقتات في النادر، كاللوز، والجوز، والقثاء، والبقول، وشبهها، بل الاقتيات إنما اعتبر الشارع منه ما كان معتادًا مقيمًا للصلب على الدوام وعلى العموم، ولا يلزم اعتباره في جميع الأقطار".

يعني لو قلنا في الربويات المأكولة: إن علتها الاقتيات والادخار، يجيئك من يقول: الشعير ليس بالقوت. انتقدت العلة، هل ينتقد الحكم؟

طالب: .......

لكن الأصل فيه أنه يُقتات، وخبز الشعير كان يؤكل، وقد أكله النبي -عليه الصلاة والسلام-، وكان قوته. لا يعني أنه يؤلف في هذا الوقت، ولا يؤلف في وقت آخر أن العلة تخلفت، هذا الأصل فيه. وقل مثل هذا في الذهب والفضة: علتها الثمنية وكونها القيم والأشياء، لكن لا يعني أن الحلي ليس فيه زكاة، أو أن ما يصاغ ثم يُدخر ويكنز أنه خرج من كونه ثمنًا. يعني بعض الناس يكنز الذهب وليس مسكوكًا ولا مضروبًا؛ خام، هل نقول: إن هذا ليس بثمن للأشياء؟ الأصل فيه أنه ثمن، فأخذ الحكم من هذا الأصل.

طالب: "وكذلك نقول: إن الحد عُلق في الخمر على نفس التناول؛ حفظًا على العقل، ثم إنه أجرى الحد في القليل الذي لا يُذهب العقل مجرى الكثير اعتبارًا بالعادة في تناول الكثير".

نعم. لا يمكن أن يأتي شخص يشرب من الخمر شيئًا يسيرًا لا يسكره، الغالب أن من شرب أنه يشرب القدر المسكر، ولذلك مُنع منه من قليله وكثيره حماية لما يُسكر، حماية للعقول وصيانة لها.

طالب: "وعلق حد الزنا على الإيلاج وإن كان المقصود حفظ الأنساب، فيُحد من لم يُنزل؛ لأن العادة الغالبة مع الإيلاج الإنزال، وكثير من هذا".

نعم. لو وُجد من يزني بامرأة، ثم قال: أنتم تقولون: إن تحريم الزنا علته حفظ الأنساب؛ لئلا تختلط الأنساب، وأنا عندي تقرير أني عقيم ما يمكن أن يختلط نسبي بغيره؟ ماذا نقول؟ ما ينفعه، يقام عليه الحد؛ لأن الحد رُتب على الإيلاج الذي هو مظنة للإنزال والإنزال مظنة لاختلاط الأنساب.

طالب: "فليكن على بال من النظر في المسائل الشرعية أن القواعد العامة إنما تُنزل على العموم العادي.

المسألة الثالثة: لا كلام في أن للعموم صيغًا وضعيةً، والنظر في هذا مخصوص بأهل العربية، وإنما يُنظر هنا في أمر آخر وإن كان من مطالب أهل العربية أيضًا".

نعم. النظر لأهل العربية؛ لأنهم هم الذين يعرفون مدلولات الألفاظ، سواء كانت شرعية في نصوص أو كانت في أصل لغة العرب، فالمرجع في ذلك أهل العربية.

طالب: "ولكنه أكيد التقرير هاهنا، وذلك أن للعموم الذي تدل عليه الصيغ بحسب الوضع نظرين؛ أحدهما: باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها على الإطلاق، وإلى هذا النظر قصد الأصوليين، فلذلك يقع التخصيص عندهم بالعقل والحس وسائر المخصصات المنفصلة.

 والثاني: بحسب المقاصد الاستعمالية التي تقضي العوائد بالقصد إليها، وإن كان أصل الوضع على خلاف ذلك".

نعم. الأول: "باعتبار ما تدل عليه الصيغة في أصل وضعها"، يعني بأن تكون سماعية، بأن تكون ماذا؟ قياسية، بأن تكون قياسية، "والثاني بحسب المقاصد الاستعمالية"، إذا كانت سماعية لا يقاس عليها فيعمل بها في مواضعها، وأما القياسية فتطرد، أما السماعية فتقصر على موضع السماع.

طالب: "وهذا الاعتبار استعمالي، والأول قياسي".

وإن شئت فقل: سماعي وقياسي. نعم.

طالب: "والقاعدة في الأصول العربية أن الأصل الاستعمالي".

يعني: والسماعي.

طالب: "أن الأصل الاستعمالي إذا عارض الأصل القياسي كان الحكم للاستعمالي".

"كان الحكم للاستعمالي"، لماذا؟

طالب: .......

لأنه فيه نص عن العرب، وُجد نص عن العرب، والكوفيون يختلفون مع البصريين في مثل هذا، يتوسعون، الكوفيون يتوسعون في استعمال السماعي وقد يقيسون عليه، وإن كان قليلًا مخالفًا لأصل القياس، وعكسهم البصريون ويقصرونه على مورد سماعهم.

طالب: "وبيان ذلك هنا أن العرب قد تطلق ألفاظ العموم بحسب ما قصدت تعميمه مما يدل عليه معنى الكلام خاصة، دون ما تدل عليه تلك الألفاظ بحسب الوضع الإفرادي، كما أنها تطلقها وتقصد بها تعميم ما تدل عليه في أصل الوضع، وكل ذلك مما يدل عليه مقتضى الحال، فإن المتكلم قد يأتي بلفظ عموم مما يشمل بحسب الوضع نفسه وغيره، وهو لا يريد نفسه، ولا يريد أنه داخل في مقتضى العموم".

يعني هذا الكلام يرجع إلى قاعدة وهي: هل المتكلم داخل في خطابه أو لا؟ داخل في خطابه أو لا؟ هل يدخل المتكلم في عموم خطابه أو لا يدخل؟ هذا موضوع الكلام هذا.

طالب: "وكذلك قد يقصد بالعموم صنفًا مما يصلح اللفظ له في أصل الوضع، دون غيره من الأصناف، كما أنه قد يقصد ذكر البعض في لفظ العموم".

نعم؛ لأن هناك اللفظ العام المحفوظ الباقي على عمومه، وهناك العام المخصوص الذي جاء ما يُخرج بعض أفراده منه، وهناك العام الذي أريد به الخصوص، وهو ما يشير إليه المؤلف في الجملة الأخيرة: "ذكر البعض في لفظ العموم"، يعني لما يقول الله -جل وعلا-: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173]، يعني ما جاء لفظ يخصص (الناس)، ولفظ (الناس) من ألفاظ العموم؛ لأن ال جنسية، (الناس) من ألفاظ العموم، لكن هل المراد عموم الناس جاءوا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-؟ كل الناس المسلم والكافر القريب والبعيد جاءوا ليقولوا له -عليه الصلاة والسلام-: {إِنَّ النَّاسَ} الذين جاءوا يخبرون هم الذين قيل عنهم إنهم {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ}؟

طالب: لا.

هذا مستحيل.

طالب: .......

يصيرون هم أنفسهم ما يُستثنى منهم واحد؛ لأن اللفظ يتناول الجميع، لكن هذا من العام الذي أريد به الخصوص، {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} فرد واحد: نعيم بن مسعود، {إِنَّ النَّاسَ} يعني الكفار {قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}.

طالب: "كما أنه قد يقصد ذكر البعض في لفظ العموم ومراده من ذكر البعض الجميع، كما تقول: فلان يملك المشرق والمغرب، والمراد جميع الأرض، وضُرب زيد الظهر والبطن، ومنه: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17]".

يعني إذا قيل: فلان يملك المشرق والمغرب، يعني لو أعملنا النص بحرفيته، قلنا: إنه يملك جهة المشرق وجهة المغرب دون الوسط ودون الشمال ودون الجنوب، لكن هل المتكلم يقصد هذا؟

طالب: ما يقصد.......

لا، ما يقصد هذا قطعًا، لن يقصد. وإذا ضرب زيد من جميع الجهات، ضُرب على أكتافه ومع الرجلين ومع اليدين ومع البطن ومع الظهر ومع الصدر ومع الألية ومع، قيل: ضُرب الظهر والبطن، ومراده بذلك جميعه. ومنه: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17]، طيب والجهات الأخرى؟ من هذا النوع.

طالب: "{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]. فكذلك إذا قال: من دخل داري أكرمته، فليس المتكلم بمراد، وإذا قال: أكرمت الناس، أو قاتلت الكفار، فإنما المقصود مَن لقي منهم".

"من دخل داري أكرمته"، طيب هو دخل داره يُكرم؟ دخل في خطابه؟

طالب: لا.

لا، ما يدخل في خطابه، فليس المتكلم بمراد؛ لأن المتكلم لا يدخل في خطاب نفسه.

طالب: "فاللفظ عام فيهم خاصةً، وهم المقصودون باللفظ العام دون من لم يخطر بالبال. قال ابن خروف: ولو حَلِف رجل بالطلاق".

"حَلَف".

طالب: "ولو حَلَف رجل بالطلاق والعتق ليضربن جميع من في الدار وهو معهم فيها، فضربهم ولم يضرب نفسه، لبر ولم يلزمه شيء، ولو قال: اتهم الأمير كل من في المدينة فضربهم، فلا يدخل الأمير في التهمة والضرب. قال: فكذلك لا يدخل شيء من صفات الباري تعالى تحت الإخبار في نحو قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]؛ لأن العرب لا تقصد ذلك ولا تنويه، ومثله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282]، وإن كان عالمًا بنفسه وصفاته، ولكن الإخبار إنما وقع عن جميع المحدثات، وعلمه بنفسه وصفاته شيء آخر.
قال: فكل ما وقع الإخبار به من نحو هذا، فلا تَعَرُّض فيه لدخوله تحت المخبر عنه، فلا تدخل صفاته تعالى تحت الخطاب، وهذا معلوم من وضع اللسان"
.

هذا على كلام من يقول: إنه لا يوجد عموم محفوظ، وقال به بعض المتكلمين. لكن شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- أثبت في سورة الفاتحة والورقة الأولى من سورة البقرة عمومات كثيرة جدًّا محفوظة، هم يقولون: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20]، يقولون: إن القدرة على ما يشاؤه -جل وعلا-، ومن لازم هذا أن الذي لا يشاؤه ولم يشأه ولم يكن.

طالب: لا يدخل.

فإنه لا يقدر عليه، تعالى الله عما يقولون، ويقدرون في هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} يشاؤه {قَدِيرٌ}، وهذا الكلام ليس بصحيح، باطل؛ لأن له لوازم باطلة. يوردون المستحيل، فيقولون: لا يقدر على -تعالى الله عما يقولون- على ماذا؟

طالب: .......

مسألة المتناقض سهلة غير الخارجة عن ذاته -جل وعلا-.

طالب: .......

نعم. يوردون الضدين والمتناقضين التي لا يمكن وجودهما ولا عدمهما، على أن الله لا يقدر عليه. يقول: لا يمكن أن يوجد صخرة، لا يقدر على إيجاد صخرة لا يستطيع تفتيتها. أولًا النقيضان ليسا شيئًا، ليدخل النقيضان في قوله: {كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، المتناقضات ليست بشيء، أصلًا لا توجد، لاستحالة وجودها، فلا يمكن أن يخبر عنها بمثل هذا. {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25]، نعم {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} يقبل التدمير، يعني ما دمرت السماوات والأرض، هذا صحيح عموم مخصوص، لكن ما يتعلق بالقدرة الإلهية وبالعلم الإلهي وما أشبه ذلك فهو محفوظ وباقٍ على عمومه، كما قرر ذلك شيخ الإسلام -رحمه الله-.

طالب: "فالحاصل أن العموم إنما يُعتبر بالاستعمال، ووجوه الاستعمال كثيرة، ولكن ضابطها مقتضيات الأحوال التي هي ملاك البيان، فإن قوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] لم يقصد به أنها تدمر السماوات والأرض والجبال، ولا المياه ولا غيرها مما هو في معناها، وإنما المقصود: تدمر كل شيء مرت عليه مما شأنها أن تؤثر فيه على الجملة، ولذلك قال: {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 25]".

ومثله قوله -جل وعلا-: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}، هل أوتيت مما أوتي سليمان؟ لا، لكن أوتيت من كل شيء يليق بمثلها من الملوك ملوك الأرض العاديين. نعم.

طالب: "وقال في الآية الأخرى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42]. ومن الدليل على هذ أيضًا أنه لا يصح استثناء هذه الأشياء بحسب اللسان، فلا يقال: من دخل داري أكرمته إلا نفسي، أو أكرمت الناس إلا نفسي، ولا قاتلت الكفار إلا من لم ألق منهم، ولا ما كان نحو ذلك، وإنما يصح الاستثناء من غير المتكلم ممن دخل الدار، أو ممن لقيت من الكفار، وهو الذي يُتوهم دخوله لو لم يُستثن. هذا كلام العرب في التعميم، فهو إذًا الجاري في عمومات الشرع.

وأيضًا فطائفة من أهل الأصول نبهوا على هذا المعنى، وأن ما لا يخطر ببال المتكلم عند قصده التعميم إلا بالإخطار لا يُحمل لفظه عليه، إلا مع الجمود على مجرد اللفظ، وأما المعنى فيبعد أن يكون مقصودًا للمتكلم، كقوله -عليه الصلاة والسلام-: «أيما إهاب دبغ فقد طهر»".

يقول: "طائفة من أهل الأصول نبهوا على هذا المعنى، وأن ما لا يخطر ببال المتكلم عند قصده التعميم إلا بالإخبار، لا يحمل لفظه عليه إلا مع الجمود على مجرد اللفظ".

لما حرم النبي -عليه الصلاة والسلام- مكة ومنع من أن يختلى خلاها، قال العباس: «إلا الإذخر»، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إلا الإذخر»، فحصل هذا الاستثناء، فهل نقول: إن هذا النبي -عليه الصلاة والسلام- ما قصده أصلًا، أو نقول: هو مقصود ونبه عليه وأُخطر فاستثناه فخرج من لفظ العموم؟ يعني مثل أيش يقول عندكم؟ "وأن ما لا يخطر ببال المتكلم عند قصده التعميم إلا بالإخبار لا يحمل لفظه عليه".

طالب: .......

ماذا؟

طالب: أحسن الله إليك،.......

هذا داخل.

طالب: دخل.......

ثم استثني لما أخبر، لكن هل يمشي على كلام المؤلف؟

طالب: لا يمشي.

ما يمشي؛ لأن كلام المؤلف ما هو بعام في كل شيء؛ لأن الأصل أنه يدخل، لكن لمصلحة وعلة بُينت في الإخطار.

طالب: استثني.

هو داخل في الأصل، فاستثني لهذه العلة التي بُينت في هذا الإخطار، وإلا فالأصل أنه داخل في العموم.

طالب: على عكس المراد.

ماذا؟

طالب: على عكس مراد المؤلف.

على عكس مراد المؤلف، لكن هو في الأصل داخل في العموم؛ لأنه فرد من الأفراد الممنوعة، لكن هناك أشياء ما يقصدها المؤلف، لا يقصدها الإنسان بكلامه. لو قال شخص: نظفوا البيت من جميع الأوراق الزائدة، نظفوا البيت من جميع الأوراق، البيت مليء من جرائد وقصاصات أوراق ومقررات قديمة وكذا، يدخل في الأوراق الشيكات مثلًا؟

طالب: لا.

أو العملات النقدية الورقية؟ ما تدخل؛ لأن هذا المتكلم يقصدها أم  ما يقصدها؟ تخطر على باله أم ما تخطر؟ ما تخطر بباله؛ لأنهم يمزقون حتى الدراهم، أو مثلًا شيكات أم استمارات سيارات أم صكوك أراضٍ.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: عادة.......

فالمقصود أن مثل هذا ما يخطر على باب المتكلم، لو خطر على باله يبقى مجنونًا.

طالب: ....... يا شيخ أيضًا؟

أين؟

طالب: .......

ما خطر بباله، وإلا كان، وهل يحتاج مثل هذا إلى استثناء؟ ما يحتاج إلا لو كان المخاطب في النهاية في الغباء مثلًا وظاهريًّا يستعمل الحرفية، إلا مع الجمود على مجرد اللفظ، لما يقول: نظفوا البيت من جميع الأوراق، يقوم جاءوا إلى الولد وهو قد قطع الجرائد وقطع الشيكات وقطع الدراهم، هذا مجرد وقف على، جمد على مجرد اللفظ.

طالب: يلام؟

كيف يلام؟

طالب: طبعًا في الأصل أنه يلام يا شيخ؟

لا، ما هو بمسألة يلام، اللفظ يتناول، لكن هذا يرجع إلى خلل في...

طالب: فهمه.

في عقله، نعم. تعي من واحد يقول لولده: يا ولدي جاءك البرد، البس ثيابًا، لا يذبحك البرد. قال: والله ما عنده سكين، ما هذا الكلام؟ فيمكن أن يوجد من هذا النوع من يجمد على مجرد اللفظ؟ ما يمكن أن يوجد من هذا النوع؟

طالب: نعم.

نعم.

طالب: "قال الغَزَّالي: خروج الكلب عن ذهن المتكلم والمستمع عند التعرض للدباغ".

يعني هذا خلاف المشهور، والصحيح التشديد، لكنه خلاف المشهور. وأيضًا يقابله: (البَاقِلانِي)، الصواب بالتخفيف والمشهور التشديد.

طالب: "خروج الكلب عن ذهن المتكلم والمستمع عند التعرض للدباغ ليس ببعيد، بل هو الغالب الواقع، ونقيضه هو الغريب المستبعد".

يعني إذا أردنا أن نطبق حديث: «أيما إهاب دُبغ فقد طهر»، هذا من ألفاظ العموم، هل يدخل في هذا جلد الكلب؟

طالب: لا.

اللفظ يتناول كل شيء، ولا يمتنع أن يخطر على بال المتكلم، لكن هل يمكن أن يُسأل عن جلد الآدمي هل يدخل في هذا أو لا يدخل؟

طالب: لا.

هذا الذي لا يخطر على ذهن المتكلم.

طالب: "وكذا قال غيره أيضًا، وهو موافق لقاعدة العرب، وعليه يُحمل كلام الشارع بلا بد. فإن قيل: إذا ثبت أن اللفظ العام ينطلق على جميع ما وضع له في الأصل حالة الإفراد، فإذا حصل التركيب والاستعمال، فإما أن تبقى دلالته على ما كان عليه حالة الانفراد أو لا، فإن كان الأول فهو مقتضى وضع اللفظ، فلا إشكال، وإن كان الثاني فهو تخصيص للفظ العام، وكل تخصيص لا بد له من مخصِّص عقلي أو نقلي أو غيرهما، وهو مراد الأصوليين. ووجه آخر، وهو أن العرب حملت اللفظ على عمومه في كثير من أدلة الشريعة، مع أن معنى الكلام يقتضي على ما تقرر خلاف ما فهموا، وإذا كان فهمهم في سياق الاستعمال معتبرًا في التعميم حتى يأتي دليل التخصيص، دل على أن الاستعمال لم يؤثر في دلالة اللفظ حالة الإفراد عندهم، بحيث صار كوضع ثان، بل هو باق على أصل وضعه، ثم التخصيص آتٍ من وراء ذلك بدليل متصل أو منفصل".

"متصل"، كالاستثناء، "أو منفصل"، بدليل آخر.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

نعم، التخصيص، التخصيص بالمنفصل معروف، يعني يرد لفظ عام يتناول أفرادًا، ثم يأتي نص آخر يخرج بعض هذه الأفراد، منفصل، والمتصل بالاستثناء ونحوه، أو الوصف.

طالب: .......

... متصل به.

طالب: "ومثال ذلك أنه لما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} الآية [الأنعام: 82]، شق ذلك عليهم، وقالوا: أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال -عليه الصلاة والسلام-: «إنه ليس بذاك، ألا تسمع إلى قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]»، وفي رواية: «فنزلت: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}».

ومثل ذلك أنه لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، قال بعض الكفار: فقد عُبدت الملائكة".

طيب، {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] مع قوله -جل وعلا- في سورة لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، هل مثل الآية الثانية تخصص الآية الأولى، ويبقى ما عدا هذا الفرد الذي هو الشرك من أفراد الظلم؟ الآن عندنا قصر العام على الخاص، والخاص مقدم على العام، هل مثل هذا يقتضي التخصيص؟

طالب: .......

طالب: نفس الحكم.

ماذا؟

طالب: بنفس الحكم.

بنفس الحكم، إذًا التنصيص على الشرك للاهتمام بشأنه والعناية به، فلا يقتضي القصر عليه، ولذا العلماء ما أخرجوا أنواع الظلم، ظلم الإنسان لنفسه، وظلم الإنسان لغيره، من قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]. نعم، الشرك أعظم أنواع الظلم، وينص عليه لأهميته، ولذلك قالوا في كلام ابن القيم وغيره: يشمل أنواع الظلم، وماذا يقول؟ الحصة بالحصة، فيه غيره؟ يعني كل إنسان له من الأمن بقدر تحقيق التوحيد وتنقيته وتصفيته من شوائب الشرك بأنواعه، والبدع سواء كانت كبرى أو صغرى، والمعاصي سواء كانت صغيرة أو كبيرة. فالذي يعصي ما وصل إلى حد الشرك، هل هو عنده أمن تام؟

طالب: لا.

لا، فيه نقص، نعم.

طالب: .......

نعم؟

طالب: .......

يزيد وينقص، لكن يبقى أن الأمن المرتب على انتفاء الظلم في هذه الآية لا يمكن قصره على الشرك، بمعنى أن المبتدع في منأى عن هذه الآية الذي لم يصل إلى حد الشرك، مرتكب الكبائر في منأى عن هذه الآية يحصل له الأمن التام؟

لا، كلٌّ بحصته.

طالب: لكن لما فسر لهم النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا، ما كأنه يزيل إشكالًا؟

التفسير ببعض أفراد العام لا يقتضي التخصيص، كما أن قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ألا إن القوة الرمي»، في قوله -جل وعلا-: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، أما نتعلم إلا الرمي؟

طالب: لا، نتعلم.

نعم؟

طالب: لا، غيره.......

نفس الشيء، «ألا إن القوة الرمي»، «القوة الرمي»، تعريف جزئي للقوة يقتضي الحصر، «ألا إن القوة الرمي»، هذا فرد من أفراد العام لا يقتضي تخصيصًا.

طالب: أحسن الله إليك،.......

أين؟

طالب: .......

نعم، لكن من باب الطمأنة، هم فزعوا وخافوا خوفًا شديدًا، يعني أكثر من الخوف المناسب للسياق، فأراد أن يطمئنهم، مثل ما قلنا: إن النصوص علاج، لو جاءك واحد يبكي يقول: واللهِ هلكت فعلت فعلت، وإذا به أمر يسير! فتقول: ارفق على نفسك، ما صار شيء. وشخص ساءت أحواله، وتردت صحته، وعقله تأثر؛ لأنه ارتكب معصية تقول له: «التوبة تجب ما قبلها»، وأنت تبدل سيئاتك حسنات إذا تبت. لكن شخص مسترسل بالمعاصي منهمك فيها مستهتر، مثل هذا تورد من هذه النصوص وأشد عليه.

طالب: "ومثل ذلك أنه لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، قال بعض الكفار: فقد عبدت الملائكة".

ولذلك الذي تأول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93].

طالب: {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93].

نعم؟

طالب: {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93].

إلى آخر الآية، تأول ذلك وشرب الخمر، ليس عليه جناح فيما طعم إذا ما اتقى وآمن، ماذا قال له عمر؟ قال له عمر: أخطأت استك الحفرة، يعني أخطأت في الفهم، ضللت في الفهم، أما إنك لو اتقيت الله ما شربت الخمر. وكثير من الناس إذا قيل له: يا أخي أنت ترتكب المعاصي، تشرب الدخان، تسبل، تحلق لحيتك، كذا وكذا؟ قال: الرسول يقول: «التقوى هاهنا»! المظاهر هذه كلها تحصل للدين بها المظاهر، نقول: لو اتقيت ما عصيت، وما معنى التقوى؟ أنت تعرف التقوى؟ ما هي؟

أنت الآن خالفت التقوى بفعلك وبقولك.

طالب: "قال بعض الكفار: فقد عُبدت الملائكة، وعُبد المسيح، فنزل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} الآية [الأنبياء: 101]... إلى أشياء كثيرة سياقها يقتضي بحسب المقصد الشرعي عمومًا أخص من عموم اللفظ، وقد فهموا فيها مقتضى اللفظ".

اللفظ في قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، عُبدت الملائكة، وعبد المسيح وغيرهم ممن يعقل. هؤلاء خرجوا بقوله: (ما)؛ لأنها لغير العاقل، لكن هل يخرج منها من يعقل إذا عُبد وهو راضٍ؟

طالب: لا.

يقول: ما هو بداخل، طيب أنت تعبد عبد القادر الجيلاني، وتعبد البدوي، وتعبد كذا، {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]؟ يقول: لا، هؤلاء عقلاء، فلا يدخلون في الآية، ما يمكن يقال هذا، مثل ما أجبنا عن الملائكة والمسيح؟ {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} [الأنبياء: 101]، فمن عُبد وهو راضٍ داخل، {حَصَبُ جَهَنَّمَ} مع من عبده، ولو كان عاقلًا في الأصل، ولو كان عاقلًا ما رضي بعبادة غيره له، فهو غير عاقل في الحقيقة.

طالب: "إلى أشياء كثيرة سياقها يقتضي بحسب المقصد الشرعي عمومًا أخص من عموم اللفظ، وقد فهموا فيها مقتصى اللفظ، وبادرت أفهامهم فيه، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، ولولا أن الاعتبار عندهم ما وضع له اللفظ في الأصل، لم يقع منهم فهمه. فالجواب عن الأول: أنا إذا اعتبرنا الاستعمال العربي، فقد تبقى دلالته الأولى، وقد لا تبقى، فإن بقيت فلا تخصيص، وإن لم تبق دلالته، فقد صار للاستعمال اعتبار آخر ليس للأصل، وكأنه وضع ثانٍ حقيقي لا مجازي، وربما أطلق بعض الناس على مثل هذا لفظ: الحقيقة اللغوية، إذا أرادوا أصل الوضع، ولفظ: الحقيقة العرفية، إذا أراد الوضع الاستعمالي".

نعم؛ لأن الحقائق ثلاث: حقيقة لغوية، وحقيقة شرعية، وحقيقة عرفية. قد تجتمع الحقائق الثلاث في لفظ واحد، مثلًا: الآنية حقيقتها اللغوية والشرعية والعرفية واحدة، هي الأوعية. وقد ينفرد لفظ بحقيقة لغوية لا تندرج فيها الشرعية أو العكس. وقد يكون للاصطلاح الخاص والاستعمال الخاص للفظ حقيقة دون الاستعمال العام، قد يكون هذا الاصطلاح حقيقته العرفية الخاصة تختلف عن حقيقته العرفية العامة، فيكون اصطلاحًا لفئة من الناس، للعلماء مثلًا، للفقهاء، اصطلاحًا لأهل الحديث خاصًّا بهم، اصطلاحًا يختلف عن بقية الأنواع من أهل العلم. وقد يكون اصطلاح عام عند عموم الناس تختلف حقيقة اللفظ فيه عن حقيقته اللغوية والشرعية.

 مثل: المحروم حقيقته العرفية عند الناس ما هو؟  

طالب: ما عنده شيء.

ماذا؟

طالب: .......

لا، حقيقته الغني ظاهر الغنى، لكن لا ينفق، هذا محروم عند الناس. هذه حقيقة، يعطى من الزكاة أم ما يعطى؟

طالب: لا يُعطى.

ما يُعطى؛ لأن الحقيقة الشرعية تختلف، وهكذا.

طالب: "والدليل على صحته ما ثبت في أصول العربية من أن للفظ العربي أصالتين: أصالة قياسية، وأصالة استعمالية، فللاستعمال هنا أصالة أخرى غير ما للفظ في أصل الوضع، وهي التي وقع الكلام فيها، وقام الدليل عليها في مسألتنا، فالعام إذًا في الاستعمال لم يدخله تخصيص بحال".

وقد يكون للفظ الواحد أكثر من حقيقة لغوية، وأكثر من حقيقة شرعية، وأكثر من حقيقة عرفية، فتجد في كتب اللغة اللفظ الواحد له أكثر من معنى، وهو حقيقة فيها، استعمال فيما وُضع له لا مجاز، وتجد في اللفظ الواحد في النصوص الشرعية أكثر من حقيقة، ومن أوضح الأمثلة: المفلس، جاء تعريفه في النصوص بما هو معروف: «من لا درهم له ولا متاع»، أو من كانت موجوداته أقل من ديونه، وفي باب الحجر والتفليس، وقد يكون الذي عنده الأموال، له دراهم وله أمتعة وله كذا وكذا، لكنه «يأتي بأعمال كالجبال»، كما جاء في الحديث في الصحيح وصحيح مسلم وغيره. فهذه أكثر من حقيقة شرعية. طيب: «إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني»، هذا الكلام حقيقة أم مجاز؟ أم حقيقة شرعية أم عرفية أم لغوية؟ ما حقيقة هذا الكلام؟

طالب: .......

لو كانت حقيقة لغوية أو حقيقة عرفية ما صام، ما قلنا صائم؛ لأنه يأكل يطعم ويسقى يشرب ويأكل، هل نقول: إن هذا مواصل؟

طالب: لا.

أنه -عليه الصلاة والسلام- مواصل؟ ليس بمواصل. إذًا ليست حقيقة لا لغوية ولا عرفية، هل نقول: إن مثل هذا هذا حقيقته الشرعية؟

طالب: خاصة.

نعم؟

طالب: خاصة.

حقيقة شرعية، لكنها خاصة به -عليه الصلاة والسلام-. طيب من يتذوق العبادة، ويأنس بها وأنسه بالله -جل وعلا- وبالخلوة به وعبادته وهو يتذوق في القرآن، تجده إذا قُدم الطعام لا يجد إليه حاجة، هل هو من هذا النوع أم لا؟ له نصيبه من هذا الكلام، له نصيبه من هذا بقدره اقتدائه بالنبي -عليه الصلاة والسلام- واتباعه له، كما أن للعالم العامل الوارث من النبي -عليه الصلاة والسلام- علم وعمل له نصيبه من «نصرت بالرعب»، تجد عالمًا لو تلمسه بيدك طاح، يعني: بنيته ضعيفة، وقدراته ضعيفة، لكن عنده علم، وعمل، تجد بعض الكبار من جبابرة الأرض إذا رآه ارتعدت فرائصه! هل لأنه خاف منه؟ لا، بحسب إرثه من النبي -عليه الصلاة والسلام- من العلم والعمل، يكون نصيبه من هذا،- والله المستعان-. نعم.

طالب: "أصالة قياسية وأصالة استعمالية، فللاستعمال هنا أصالة أخرى غير ما للفظ في أصل الوضع، وهي التي وقع الكلام فيها، وقام الدليل عليها في مسألتنا، فالعام إذًا في الاستعمال لم يدخله تخصيص بحال.

وعن الثاني: أن الفهم في عموم الاستعمال متوقف على فهم المقاصد فيه، وللشريعة بهذا النظر مقصدان:

       أحدهما: المقصد في الاستعمال العربي الذي أُنزل القرآن بحسبه، وقد تقدم القول فيه.

والثاني: المقصد في الاستعمال الشرعي الذي تقرر في سور القرآن بحسب تقرير قواعد الشريعة؛ وذلك أن نسبة الوضع الشرعي إلى مطلق الوضع الاستعمالي العربي كنسبة الوضع في الصناعات الخاصة إلى الوضع الجمهوري، كما نقول في الصلاة: إن أصلها الدعاء لغةً، ثم خُصت في الشرع بدعاء مخصوص على وجه مخصوص، وهي فيه حقيقة لا مجاز، فكذلك نقول في ألفاظ العموم بحسب الاستعمال الشرعي: إنها إنما تعم الذكر بحسب مقصد الشارع فيها، والدليل على ذلك مثل الدليل على الوضع الاستعمالي المتقدم الذكر، واستقراء مقاصد الشارع يبين ذلك، مع ما ينضاف إليه في مسألة إثبات الحقيقة الشرعية. فأما الأول، فالعرب فيه شَرَعٌ سواء؛ لأن القرآن نزل بلسانهم.

 وأما الثاني".

الشَّرَع: ورود المَشْرَع، والمَشْرَع هو المورد الذي يرده الناس، إما أن يشربوا منه أو يقتاتوا منه، المقصود أنهم يردون على هذا الأمر، على هذا المشرع ينهلون منه، وهم فيه سواء. نعم.

طالب: "وأما الثاني، فالتفاوت في إدراكه حاصل؛ إذ ليس الطارئُ الإسلامُ من العرب في فهمه كالقديم العهد".

"ليس الطارئُ الإسلامِ".

طالب: "ليس الطارئُ الإسلامِ من العرب".

مضاف ومضاف إليه.

طالب: أحسن الله إليك.

لماذا ساغ اقتران المضاف بأل؟

طالب: لأن المضاف مقترن بأل.

لأن المضاف إليه مقترن بأل، والإضافة لفظية وليست حقيقية.

طالب: "إذ ليس الطارئُ الإسلامِ من العرب في فهمه كالقديم العهد، ولا المشتغل بتفهمه وتحصيله كمن ليس في تلك الدرجة، ولا المبتدئ فيه كالمنتهي: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، فلا مانع من توقف بعض الصحابة في بعض ما يشكل أمره، ويغمض وجه القصد الشرعي فيه، حتى إذا تبحر في إدراك معاني الشريعة نظره، واتسع في ميدانها باعه؛ زال عنه ما وقف من الإشكال، واتضح له القصد الشرعي على الكمال".

ولذلك يتفاوتون في نسبة المتشابه، هل هي كثيرة أم قليلة؟ كل بحسب.

طالب: فهمه.

كثرة توقفه عند الإشكالات، فمن كثرت عنده الإشكالات وما انحلت يقول: هذا متشابه، فتزداد عنده النسبة. لكن هذا، ما ظهر لهذا الشخص الإشكال، وظهر لغيره، فقلَّت عنده النسبة. فكلٌّ على حسب ما أوتي من فهم وحرص وسعة في الاطلاع وقوة في الإدراك.

طالب: "فإذا تقرر وجه الاستعمال، فما ذُكر مما تَوقف فيه بعضهم راجع إلى هذا القبيل، ويعضده ما فرضه الأصوليون من وضع الحقيقة الشرعية، فإن الموضع يُستمد منها، وهذا الموضع وإن كان قد جيء به مضمَّنًا في الكلام العربي، فله مقاصد تختص به يدل عليها المساق الحكمي أيضًا، وهذا المساق يختص بمعرفته العارفون بمقاصد الشارع، كما أن الأول يختص بمعرفته العارفون بمقاصد العرب، فكل ما سألوا عنه فمن هذا القبيل إذا تدبرته".

والعالم ومن يؤهّل نفسه للعلم والاجتهاد لا بد أن يكون عارفًا بمقاصد الشرع ومقاصد العرب في كلامهم؛ ولذا يخطئ من يقلل من شأن معرفة العربية بجميع فروعها لطالب العلم.

هذا يقول: لو قلنا بدخول جميع أفراد الظلم في الآية لما حصل الأمن لأحد، ومن الذي لا يظلم نفسه، وهذا هو عين استشكال الصحابة، فدل على أن الظلم عام يراد به الخصوص وهو الشرك فقط، ولا يؤخذ من الآية الأفراد الأخرى بدليل تنصيصه على الشرك، فخرج ما عداه من الصور؟

طيب الزاني آمن من عذاب الله وعقوبته؟ هل هو آمن؟ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- يخاطب أناسًا سلموا من كبائر الذنوب، ويعرف الأفراد الذين جاءوا من زيادة حرصهم وتحريهم، وإلا لا شك أن كل إنسان معرض للخطر، لا سيما قبل خروج روحه من بدنه، فالخوف لا بد منه؛ ليحصل الأمن، الخوف والوجل من سوء العاقبة ومن سوء المآل لا بد منه ليحصل الأمن التام.

يقول: وعليه فلا يستدل بالآية تجنب أنواع الظلم الأخرى حتى يتحقق الأمن؟

على كل حال: كلام ابن القيم واضح في أن كل شخص له نصيبه من هذه الآية وجودًا وعدمًا بحسب ما عنده من خلل.

يقول: أرجو أن تنبه على الإخوة الذين يضعون كتاب العلم على الأرض أن يرفعوه على أرجلهم؟

لا شك أن هذا أكمل، لكن لا مانع من وضعه على الأرض، الوضع مجرد الوضع لا مانع منه، بخلاف إلقائه على الأرض، فهذا المشكل، أما مجرد وضعه فلا مانع منه، لكن لا شك أن الأكمل أن يُرفع ويُحترم.

نعم؟

طالب: .......

نعم.

طالب: ....... غير داخل في هذا الخطاب؟

لا، ما يلزم، الأصل أنه مخاطب ومكلف بالأوامر والنواهي، هذا الأصل.

طالب: .......

نعم.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

لا، الشاطبي يقرر فيما يتداوله الناس، مسألة دخول الشارع في خطابه هذه مسألة أخرى، لكن هو ينظر إلى المسألة من حيث الآمر المخاطب الأول، الذي هو من؟ الله -جل وعلا-.

طالب: يُستدل على.......

هو ما فيه شك أن الخوف لا بد منه.

"