شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (181)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبدهِ ورسولهِ محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين، أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهلًا بكم إلى حلقةٍ جديدة في برنامجكم "شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح"، مع بداية حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير الذي يتولى شرح أحاديث هذا الكتاب، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.

حيالكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: دكتور، نحن في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- في باب كيف يُقبض العلم؟ توقفنا عند ما طرحه بعض أهل العلم في قوله: قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول، أشرتم إلى هذا الإشكال وإلى حله، على.. وعدنا المستمع أن نستكمل بإذن الله في هذه الحلقة.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبدهِ ورسولهِ نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، في الحديث يقول: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد»، إن الله -جلَّ وعلا- لا يقبض هذه الجملة في محل الرفع؛ لأنها خبر إن، والقبض كما في المفردات تناول الشيء بجميع الكف؛ تناول الشيء بجميع الكف نحو قبض السيف وغيره، قال تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً} [طه:96]، فقبض اليد على الشيء جمعُها بعد تناوله، قبضها على الشيء جمعها بعد تناوله، وقبضها عن الشيء جمعها قبل تناوله.

المقدم: نعم، فقبض يده عن السلام.

يعني إذا ناولت شخصًا شيئًا أخذه منك بيده قبض عليه بعد تناوله، لكن إذا كان لا يريده وقبض يده دونه.

المقدم: يقبضه عنه، أو يقبض يده عن السلام.

وقبضها عن الشيء جمعها قبل تناوله وذلك إمساكٌ عنه، والمراد بالقبض هنا السلب كما في قوله تعالى: {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة:245]، أي يسلب تارةً ويُعطي تارة؛ القبض هنا السلب «إن الله لا يقبض» يعني لا يسلب فالقبض هنا السلب؛ لأن كما في قوله -جلَّ وعلا-: {يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة:245]، أي يسلب تارةً ويُعطي تارةً أو يسلب قومًا ويُعطي قومًا. في قوله -جلَّ وعلا-: {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67] يقبضونها عن ماذا؟ هذا في مساق الذم؛ يقبضونها عن الإنفاق في سبيل الله، وبعض المفتونين من المبتدعة الذين لا يرون القبض في الصلاة قبض اليد اليسرى باليمنى، ينزلون هذه الآية على هذا؛ على أن القبض في الصلاة مذموم من هذه الآية.

المقدم: بناءً على هذا.

نعم، لكن المراد به في الآية قبض اليد عن الإنفاق في سبيل الله، العلم «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا» أي أن الله لا يقبض ويسلبه من بين الناس على سبيل أن يرفعه من بينهم إلى السماء.

المقدم: الآية التي أشرتم إليها -أحسن الله إليكم- في ذم المنافقين.

نعم.

المقدم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67].

نعم.

المقدم: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] يعني المراد القبض عن الإنفاق؟

نعم بلا شك. انتزاعًا أي إن الله -جلَّ وعلا- لا يقبض العلم ويسلبه من بين الناس على سبيل أن يرفعه من بينهم إلى السماء أو يمحوهم من صدورهم، بل يقبضُه بقبض أرواح العلماء وموت حملته، قال ابن بطال: معنى ذلك أن الله -جلَّ وعلا- لا يهبُ العلم لخلقهِ ثم ينتزعه بعد أن تفضل به عليهم؛ إن الله لا يهب العلم لخلقه، ثم ينتزعه بعد أن تفضل به عليهم، والله يتعالى أن يسترجع ما وُهب لعباده من علمه الذي يؤدي إلى معرفته والإيمان به وبرسله، وإنما يكون قبض العلمِ بتضييع التعلم، فلا يوجد فيمن يبقى من يخلفُ من مضى، وقد أنذر -عليه السلام- بقبض الخير كلهِ ولا ينطق عن الهوى، قال ابن المُنير: محو العلم من الصدور جائزٌ في القدرة؛  يعني أن الله -جلَّ وعلا- قادر على أن يمحو العلم من الصدور، إلا أن هذا الحديث دل على عدم وقوعه يعني شرعًا.

المقدم: لقوله: لا يقبض.

لا يقبض نعم؛ جاء نفي، أقول لا ينافي هذا ما جاء من رفع القرآن في آخر الزمان كما روى ابن ماجه من حديث حذيفة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «يُسرى على كتاب الله -عز وجل- في ليلةٍ فلا يبقى في الأرض منه آية»، وسنده جيد، ورواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه، وروى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يُسرى على كتاب الله فيرفع إلى السماء، فلا يبقى في الأرض منه آية»، وعند الحاكم في المستدرك وصححه عبد الله بن مسعود أنه قال: «إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن يُرفع قالوا: وكيف يُرفع وقد ثبته الله في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا؟ قال: يُسرى عليه في ليلةٍ فيُذهب بما في قلوبكم وما في مصاحفكم، ثم قرأ {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:86]» يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:86] يعني القرآن، أي كما قدرنا على إنزاله نقدر على إذهابه حتى ينساه الخلق، وآخر ما تفقدون الصلاة، وأن هذا القرآن كأنه قد نُزع منكم تصبحون يومًا، وما معكم منه شيء إلى آخر كلامه -رحمه الله-، يعني وقوع هذا في آخر الزمان برفع القرآن.

المقدم: العلم.

القرآن، برفع القرآن من الصدور ومن المصاحف لا يُنافي ما جاء في الحديث، لأن هذا في..  لأن مدلول الحديث قبل نزع القرآن ورفعه.

المقدم: نعم.

وأيضًا هذا لا يُنافي نزع العلم من صدور بعض الناس على سبيل العقوبة لمعصيةٍ اقترفها، ويُذكر في الكُتب عن بعض العلماء أنه نسي القرآن بعد مدةٍ طويلة بسبب نظرةٍ محرمة هذه عقوبة، وهذا لا يُنافي ما جاء في الحديث؛ لأن هذه عقوبات وتكون خاصة بمن اقترف مثل هذه الذنوب. وأما ما جاء في الحديث فعلى سبيل العموم، ومن ذلك قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ}[الأعراف:175-177].

على كل حال يحذر أشد الحذر من حمل شيء من العلم من أن يُعاقب، وعقوبته ليست كعقوبة الجاهل؛ لأن العالم قامت عليه الحجة، ولا يستوي من يعصي الله -جلَّ وعلا- على بصيرة ومن يعصيه على جهل. لا يستوي من عصى الله وهو يعرفهُ، ويعرف عقوبته، ويعرفُ قدر من عصى، ويعرف قدر المعصية وما جاء فيها من النصوص، ومع ذلك يرتكب المخالفة هذا على خطرٍ عظيم أن يُفتن، أما بالنسبة للجاهل لا شك أن معصيتهُ مُعاقبٌ عليها، لكن ليس على سواء مع من عرف الله، وعرف عقوبته، وعرف ما جاء عنه وعن نبيه -صلى الله عليه وسلم- {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}[النساء:17]، هل يدخل في هذا من عصى الله على بصيرة؟

المقدم: يدخل، لكن له توبة إن شاء الله.

توبته مقبولة لكن.

المقدم: لكنه لم ينص عليه؟

لا، هذا لبيان أن من عصى الله -جلَّ وعلا- ممن ينتسب إلى العلم أو عنده شيءٌ من العلم أنه جاهل، وإن كان عنده شيءٌ من العلم.

المقدم: لأن العلم لم يحجزه.

لأن الإجماع قائم على أن التوبة تهدم ما كان قبلها إذا كانت بشروطها، ولو عرف الحكم؛ يعني عرف أن السرقة حرام وسرق هل نقول: هذا ليست له توبة؛ لأن الله  -جلَّ وعلا- يقول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ}

المقدم: بجهالة.

بجهالة وهذا غير جاهل إذًا لا توبة له، له توبة، وقل مثل هذا في سائر المعاصي، لكن فيه إشارةٌ إلى أن من ارتكب المعصية وهو عالمٌ بحكمها أو عالم بالأحكام جلها.

المقدم: مثله مثل الجاهل.

أنه جاهل.

المقدم: أن هذا العلم لم ينفعه.

لا يستحق إطلاق اسم العلم عليه، العلم الذي يُشرف أصحابه ويُكرم أهله ولهم المنازل في الدنيا والآخرة والدرجات لا يستحقهُ؛ هذا الوصف الشريف لا يستحقه من عصى الله -جلَّ وعلا-، ولو كان عالمًا في عُرف الناس، «انتزاعًا» يقول العيني: يجوز في نصبه أوجه، الأول: أن يكون مفعولًا مطلقًا عن معنى يقبض، نحو: رجع القهقرى، وقعد جلوسًا، الثاني: أن يكون مفعولًا مطلقًا مُقدمًا على فعله وهو ينتزعهُ؛ انتزاعًا ينتزعهُ، ويكون ينتزعهُ حالًا من الضمير في يقبض تقديرهُ: إن الله لا يقبض العلم حال كونه ينتزعه انتزاعًا من العباد.

الثالث: أن يكون حالًا من العلم بمعنى منتزعًا تقديره: إن الله لا يقبضُ العلم حال كونه مُنتزعًا، فإن قُلت على هذا ما يقع ينتزعه قلت: قيل يكون ينتزعه جوابًا عما يُقال ممن يُنتزع العلم وفيه نظر، والأصوب أن يكون في محل النصب صفة إما لانتزاعًا أو لمُنتزعًا من الصفات المُبينة، «ولكن» حرف استدرك؛ ولكن استدراك، يقبض العلم؛ «ولكن يقبض العلم» في الحديث «إن الله لا يقبض العلم» ثم قال: «ولكن يقبض العلم»، الأصل الضمير «ولكن يقبضهُ»..

المقدم: بقبض العلماء.

نعم «بقبض العلماء»، فأقام المظهر موضع المضمر العلم، أقام المظهر موضع المضمر.

المقدم: لشرفه.

نعم لزيادة تعظيمه، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:2] بعد قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص:1-2]، وكان مقتضى أن يُقال: هو الصمد، كما أن المقتضى هنا ولكن يقبضه، قال العيني: بقبض أرواح العلماء وموت حملتهِ حتى، «حتى» حتى هذه ابتدائية، «حتى إذا لم يُبق عالمًا» ابتدائية دخلت على الجملة تدلُ على أن ذلك واقعٌ بالتدريج، كما أن «إذا» تدل على أنهُ واقعٌ لا محالة، «حتى لم إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهالًا» يقول: حتى الابتدائية دخلت على الجملة تدل على أن ذلك واقع بالتدريج، كما أن «إذا» تدل على أنه واقعٌ لا محالة؛ لأن إذا الشرطية ما بعدها الشرط متحقق مجزوم به، غير مجزوم لفظًا، لكن مجزومٌ به من حيث المعنى بخلاف "إن" التي تجزم اللفظ.  

المقدم: وليس بالضرورة.

ويقع مدخولها مترددًا فيه مشكوكًا فيه، وأوردنا البيت السابق مررًا في مناسبات

إنا إن شككتُ وجدتموني جازمًا

وإذا جزمتُ فإنني لم أجزم

يعني إذا جزمت في اللفظ فإنني لم أجزم في المعنى، وإذا شك في المعنى جزم في اللفظ، «وإذا» قالوا: ظرفية والعامل فيها اتخذ، ويحتمل أن تكون شرطية. الكرماني على عادته في إيراد الإشكالات والجواب عنها، يقول: فإن قلت إذا للاستقبال، إذا للاستقبال، تقول: إذا جاء زيد أكرمتهُ؛ يعني إذا جاء في الاستقبال، فإن قُلت: إذا للاستقبال ولم، لم يُبق، لم لقلب المضارعِ ماضيًا فكيف يجتمعان؟ هم يقولون: لم حرف جزم ونفي وقلب.

المقدم: يقلب المضارع.

يقلبه إلى الماضي، لم يقم يعني لم يقم فيما مضى، هنا "لم" قلبت الفعل ماضي بدلًا من أن يكون مستقبلًا، و"إذا" للاستقبال فكيف يجتمعان؟ كيف يجتمعان؟ يقول: قُلت: (لم) لما جُعل البقاء ماضيًا لم يُبق بلم، وإذا جُعل البقاء مستقبلًا، إذا لم يُبق الجواب فيه في ركاكة عندهم، يقول: لم تجعل البقاء ماضيًا؛ لأنها قلبت..

المقدم: المضارع.

المضارع إلى ماضي، وإذا جعلت البقاء مستقبلًا هل في هذا جواب أو هو نفس الإشكال؟

المقدم: نفس الإشكال.

قال: أو يُقال تعارضا وتساقطا، تعارضا وتساقطا، فيبقى على أصله وهو المضارع؛ يعني يبقى لنا المضارع يُبقي بدون "إذا" وبدون "لم"، إذا كان مدلول "إذا" يُعارض مدلول "لم".

المقدم: يتساقطان.

يتساقطان فيسلم لنا الفعل وهو في المستقبل، فيسلم لنا الفعل وهو المستقبل، يقول: أو يُقال: تعارضا وتساقطا فيبقى على أصله وهو المضارع، ودلالته على الحال والاستقبال معروفه. أو تعادلا فيفيد الاستمرار؛ تعادلا فيُفيد الاستمرار؛ يعني كأنه يُريد أن "لم" سلبت الاستقبال الذي دلت عليه "إذا"، و"إذا" سلبت المضي دلت عليه "لم"، وفي هذا التعادل لا يبقى لهما أثر من حيثُ المعنى فيسلم الفعل من العوامل، فيرجع إلى أصلهِ، فإن قلت: إذا كانت شرطية؛ إذا كانت شرطية يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط، ومن وجود الشرط وجود المشروط، لكنه ليس كذلك لحصول الاتخاذ مع وجود العالم، يعني مقتضى الجملة الشرطية ارتباط اتخاذ الناس رؤوسًا جُهالًا بقبض العلماء، هذا منطوق الجملة، مفهومها أنه إذا لم يُقبض أهل العلم لم يتخذ الناس رؤوسًا جُهالًا، والواقع يدل على أن الناس من يتخذ رؤوسًا جُهالًا مع وجود أهل العلم، واضح الإشكال؟

المقدم: نعم.

يقول: فإن قُلت: فإذا كانت شرطية يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط، ومن وجود الشرط وجود المشروط، لكنه ليس كذلك لحصول الاتخاذ مع وجود العالم. قُلت: ذلك في الشروط العقلية يعني الشروط العقلية هي المطردة عندهم، أما في غيرها فلا نسلم اطراد القاعدة؛ ثم ذلك نعم الاستلزام إنما هو في موضعٍ لم يكن للشرط بدل، هذا جواب نفيس؛ يعني التزام الشرط مع المشروط وجودًا وعدمًا إذا لم يكن للشرط بدل، فقد يكون لمشروط واحد شروط متعاقبة، كصحة الصلاةِ بدون الوضوء عند التيمم، والعالم له بدل.

المقدم: صحيح.

وهو الجاهل، والوضوء وهو شرط لصحة الصلاة له بدل وهو التيمم، فيوجد المشروط مع عدم وجود الشرط لوجود بدله، أو المراد بالناس جميعهم أو المراد بالناس جميعهم فلا يصح أن الكل اتخذوا رؤوسًا جُهالًا يعني ما جاء في الحديث يتخذ الناس كل الناس.

المقدم: تصير ظاهرة عامة.

كل الناس يتخذون رؤوسًا جُهالًا؛ لعدم وجود العالم، أما كونُه يوجد في بعض الأزمان وفي بعض الأماكن من يتخذ من الرؤوس الجُهال مع وجود العلماء فهذا لا يرد على الحديث.

المقدم: ويبدو لهذه نصوص الأحاديث كثيرة في هذا المعنى أن المقصود به العموم في الغالب.

هذا الذي يظهر لاسيما في آخر الزمان. أو المراد بالناس جميعًا فلا يصح أن الكل اتخذوا رؤوسًا جُهالًا إلا عند عدم بقاء العالم مطلقًا، وذلك ظاهر، «لم يُبق» بضم الياء أي لم يُبقِ الله عالمًا وبفتحها ورفع عالم لم يبق عالمٌ.

المقدم: كلاهما عند البخاري.

موجودة نعم. «عالمًا» مفعول يُبقي عالمًا، أو فاعل لم يبق عالمٌ على ما تقدم، وفي رواية مسلم «حتى إذا لم يترك عالمًا اتخذ» أصله اءتخذ قُلبت الهمزة تاءً، ثم أدغمت التاء في التاء هذا عند الجمهور، هذا الأصل الإدغام، لكن لغة الإمام الشافعي -رحمه الله- يعني يقول في المتصل: مؤتصل ومؤتعد ومؤتسر، وجاء في شافية ابن الحاجب وهذا في بعض النسخ دون بعض، مؤتصل، مؤتسر ومؤتعد لغة الإمام الشافعي، عندنا مُتخذ مثلًا ماذا يقول الشافعي؟

المقدم: مؤتخذ.

مؤتخذ، وهو رأس في العربية؛ حُجة في هذا الباب، «رؤوسًا» قال النووي: ضبطناه بضم الهمزة والتنوين جمع رأس. قال ابن حجر: وفي رواية أبي ذرٍ أيضًا بفتح الهمزةِ، وفي آخره همزة أخرى مفتوحة جمع رئيس رؤساء، قال العيني: والأول أشهر رؤوسًا، «جُهالًا» جمع جاهل صفة لرؤوس. قال الكرماني: فإن قُلت: إن المراد بالجهل؛ هل المراد بالجهل هنا البسيط، وهو عدم العلم بالشيء لا مع اعتقاد العلم به؟ أم الجهل المركب وهو عدم العلم بالشيء مع اعتقاد العلم به؟ يعني الجاهل البسيط لا يدري أنه لا يعرف.

المقدم: المركب لا يدري ولا يعلم.

لكنه يدري أنه لا يدري بخلاف المركب؛ لأن عنده جهلين؛ جهل بحقيقة الأمر، وجهلٌ بنفسه، وأما الجاهل البسيط فهو عالم بنفسهِ، عارف بنفسه، لكنه جاهلٌ بالواقع، يقول: الجواب عن هذا: قلتُ: المراد به هو القدر المشترك بينهما المتناول لهما، يدخل في هذا الجاهل البسيط والجاهل المركب، فيتخذ الناس من هؤلاء الرؤساء الذين لا علم عندهم سواءٌ كانوا ممن يعرفون أنه عندهم علم أو لا يعرفون أنه لا علم عندهم، فالقدر المشترك بين الجهلين يدخل في الحديث، «فسُئلوا» بضم السين أي فسألهم الناس، «فأفتوا لهم بغير علم» وفي رواية أبي الأسود في الاعتصام عند المصنف: فيُفتون برأيهم، ورواه مسلم كالأولى، قاله ابن حجر، «فضلوا» من الضلال أي في أنفسهم.

«وأضلوا غيرهم» أي السائلين، فالأول من الضلال، والثاني من الإضلال. والضلال مقابل الهداية وهي الدلالة الموصلة إلى البغية، قال الكرماني: فإن قلت: أهذا مختص بالمفتين أم عامٌّ للقضاة الجاهلين؟ هل هذا خاص بمن يُفتي الناس ويُبيَّن لهم أمور دينهم من غير إلزام كما هي وظيفة المفتي، أم تشمل القاضي الذي يُبيَّن الحكم مع الإلزام به؟ يعني القضاء فتوى وزيادة، بيان الحكم مع الإلزام بهِ، بخلاف الفتوى التي هي مُجرد بيان. يقول: قلت هذا عام؛ إذ الحكم للشيء مستلزم للفتوى به؛ لأنه ما حكم حتى أفتى، ما ألزم حتى بيَّن الحكم، فإن قُلت: الضلال متقدم على الإفتاء؛ الضلال متقدم على الإفتاء، هو ضال من الأصل، أو الضلال هذا إنما نشأ له بسببِ إفتائه، يعني هل الضلال بسبب الإفتاء أو بسبب الجهل المتقدم على الإفتاء؟

المقدم: ممكن الاثنان، ما الذي يمنع يا شيخ؟

يقول: فإن قلت: الضلال متقدم على الإفتاء، فما معنى الفاء؟

المقدم: فأضلوا.

فضلوا لأنه وقع بعدها للترتيب. قلت: المجموع المركب من الضلال والإضلال هو متعقب على الإفتاء، يعني مجموعه؛ ضلال وإضلال كله بعد الإفتاء وإن كان الجزء الأول مُقدمًا عليه الذي هو الضلال، إذ الضلال الذي بعد الإفتاء غير الضلال الذي قبله، فإن قلت: ما وجه التوفيق بين هذا الحديث والحديث الذي مر في باب «من يُرد الله به خيرًا يفقه في الدين» وهو: «لن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله» وأمثال هذا الحديث؟ قلت: هذا بعد إتيان أمر الله الذي يقع في هذا الحديث.

المقدم: متأخر.

متأخر إنما هو في ماذا؟ هذا بعد إتيان أمر الله إن لم يُفسر إتيان الأمر بإتيان القيامة أو عدم بقاء العُلماء إنما هو في بعض المواضع دون بعض.

 وفي الحديث التحذير عن اتخاذ الجُهال رؤساء، وفيه دلالةٌ للقائلين بجواز خلو الزمان عن المجتهد؛ لأنه لم يبق عالمًا إذًا خلا الزمان عن المجتهد. وقال ابن حجر: فيه أن الفتوى هي الرئاسة الحقيقية، وذم من يُقدم عليها بغير علم، ومر بنا مرارًا التحذير من هذا الأمر، وأنهُ أمرٌ خطير غاية الخطورة. قال العيني: وفيه الحث على حفظ العلم والاشتغال به.

 والحديث أخرجه الإمام البخاري في موضعين:

 الأول: هنا في كتاب العلم، بابٌ كيف يُقبض العلم؟ قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدثني مالكٌ عن هاشم بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: فذكره، وسبق ذكر مناسبته لما قبله. والثاني مطابقة الحديث للترجمة.

 والثاني: في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يُذكر من ذم الرأي وتكلُّف القياس، ولا تقف، لا تقل ما ليس لك به علم، قال: حدثنا سعيد بن ثريد قال: حدثني ابن وهب قال: حدثني عبد الرحمن بن شُريح وغيرهُ، المعطوف هذا قال الحافظ: هو ابن لهيعة، لكن لما لم يكن على شرط البخاري لم يُصرح به، وعمدته في ذلك على عبد الرحمن بن شُريح؛ لأنه...

المقدم: مقبولٌ عنده.

من شرطه، عن أبي الأسود عن عروة قال: حجَّ علينا؛ يعني حجَّ علينا أي مر علينا وهو حاج. حج علينا عبد الله بن عمرو فسمعته يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله لا ينتزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعًا، ولكن ينتزعه منه مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناسٌ جُهال يُستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون»، الاعتصام بالكتاب والسنة، وما يُذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، الحديث فيه إغراء على تعلم العلم الشرعي من الكتاب والسنة، فإذا لم يُتعلم الكتاب والسنة لجأ الناس إلى الرأي والأقيسة، فدخلوا في هذا الذم.

المقدم: الحديث في مسلم يا شيخ؟

نعم الحديث مُخرج في الصحيحين.

المقدم: جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم، ونفع بعلمكم. أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام حلقتنا على أن نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، وأنتم على خير، شكرًا لطيب متابعتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.