التعليق على الموافقات (1434) - 05

نعم.

طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، المسألة الثاني عشر يا شيخ؟

"الثانية عشرة".

طالب: نعم. بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد.

اللهم صلِّ على محمد.

طالب: يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "المسألة الثانية عشرة: ربما أُخذ تفسير القرآن على التوسط والاعتدال، وعليه أكثر السلف المتقدمين؛ بل ذلك شأنهم، وبه كانوا أفقه الناس فيه، وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه".

كيف كان السلف المتقدمون أفقه الناس في القرآن وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه، وهم أخذوه على التوسط والاعتدال؟ ألا يقال: إن الذي أخذه على طريق البسط والاسترسال أعلم؟

طالب: .......

نعم؟

طالب: لا يلزم .......

لماذا؟

طالب: ما يلزم .......

يعني الآن أنت إذا حضرت درسًا، شخص يشرح كتابًا، يشرح من الكتاب سطرًا في ساعة، وفيه شخص يشرح عشرة أسطر، أو مثل بما عندنا: نحن نشرح الحديث في دروس، ومن شيوخنا من يشرح أحاديث في درس؟

طالب: هؤلاء كانوا أعلم بالله، فما احتاجوا أن يبسطوا، يعني أقل الكلام ........

يعني حاجتهم إلى التشقيق والتفصيل غير واردة.

طالب: غير واردة.

لكن حتى الآن لو وجدنا مثلاً شخصًا يشرح الحديث في عشرة دروس، وآخر يشرح الحديث في درس، وقدرنا أن هذا الشخص الذي يشرح في عشرة دروس يسترسل في الكتاب عشرين ثلاثين سنة، وينقطع أكثر الطلاب عنه ما كملوا، وقد لا يكمل الكتاب، وقد يكون كلامه ينسي بعضه بعضًا، هو مثل الكلام المحصور المؤصل المقعد في أسلوب مناسب في طريقة لا خلل فيها من حيث الاختصار ولا إطناب ولا إسهاب بحيث يمل الناس. ليس كل بسط مطلوب، والحافظ ابن رجب -رحمه الله- في فضل علم السلف على الخلف يقول: من فضل عالمًا على آخر بمجرد كثرة كلامه فقد أزرى بسلف هذه الأمة.

 نحن الآن الواحد يشرح كتابًا ويطول ولا يأخذ إلا ربع الكتاب، فالذي يأخذ الكتاب كاملاً بطريقة متوسطة أفضل، وإن حصل عند ذاك شيء من الفوائد والزوائد والاستطرادات، لكن يبقى أن الأبواب الأخيرة مهمة في الكتاب، ما يقال: إنه يعتنى بأوله، ويترك آخره. فكل طريقة لها ضريبتها. لكن بغض النظر عن سلف هذه الأمة، سلف هذه الأمة وأئمتها كلامهم مختصر شديد الاختصار، ومع ذلك مبارك؛ لأنه مصحوب بنية صالحة، ومصحوب بفهم ثاقب، ولم يُشِبْه شائبة من ما دخل العلوم من أمور محدثة وطارئة ما كانت معروفة لدى سلف هذه الأمة وأئمتها.

طالب: "وربما أُخذ على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال: إما على الإفراط، وإما على التفريط، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم اللسان الذي به جاء وهو العربية، فما قاموا في تفهم معانيه ولا قعدوا، كما تقدم عن الباطنية وغيرها، ولا إشكال في اطراح التعويل على هؤلاء. والذين أخذوه على الإفراط أيضًا قصروا في فهم معانيه من جهة أخرى، وقد تقدم في كتاب المقاصد بيان أن الشريعة أمية، وأن ما لم يكن معهودًا عند العرب، فلا يعتبر فيها، ومر فيه أنها لا تقصد التدقيقات في كلامها، ولا تعتبر ألفاظها كل...".

الآن لو افترضنا أن ثلاثة من طلاب العلم بدءوا في كتاب، واحد منهم قال: الآن أقرأ صفحة في اليوم وأراجع عليها كل ما كُتب حولها. واحد قال: أنا أقرأ خمس صفحات في اليوم وأراجع ما أستطيع. وآخر قال: أنا أقرأ خمسين صفحة في اليوم، الذي نقدر عليه والذي ما نقدر عليه هذا بكيفه، ولا أراجع عليه إلا ما يسعفه فيه الوقت. فأيهم أكثر انتفاعًا؟

طالب: الوسط.

الوسط بلا شك، الوسط أكثر انتفاعًا؛ لأن الذي حدّد صفحة وأنجزها قد يضيع عليه من الوقت؛ لأنه في سعة، هذه السعة يمكن الصفحة يمكن أن ينجزها في ساعة ويراجع عليها ما يحتاج إليه، ما فيه شيء يحثه. ولذلك نقول لطلاب العلم: لا بد أن تجعل لك وردًا محددًا من القرآن، وأفضل ما كان على طريقة السلف تقرأه في سبع على تقسيمهم؛ لأنك إذا قلت على التيسير، أنا لن أحدد، فلا بد أن تكسل إذا ما كانت هناك غاية ترمي إليها، تكسل إذا قرأت جزءًا قلت: الحمد لله، مائة ألف حسنة تكفي. أو قلت: لا بد أن أقرأه في يوم وضيقت على نفسك، وضيعت واجبات، ولا فهمت من القرآن شيئًا، ولا استفاد قلبك منه شيئًا، قد تستفيد أجر حروف، لكن أيهما أفضل؟ كلا طرفي قصد الأمور ذميم.

طالب: "ولا تعتبر ألفاظها كل الاعتبار إلا من جهة ما تؤدي المعاني المركبة، فما وراء ذلك إن كان مقصودًا لها فبالقصد الثاني، ومن جهة ما هو مُعين على إدراك المعنى المقصود كالمجاز والاستعارة والكناية، وإذا كان كذلك فربما لا يحتاج فيه إلى فكر، فإن احتاج الناظر فيه إلى فكر، خرج عن نمط الحسن إلى نمط القبح والتكلف، وذلك ليس من كلام العرب، فكذلك لا يليق بالقرآن من باب الأولى. وأيضًا، فإنه حائل بين الإنسان وبين المقصود من الخطاب، من التفهم لمعناه ثم التعبد بمقتضاه".

كم من عالم شرع في تفسير القرآن، وفي قرارة نفسه وفي تخطيطه أنه يكتب أو يجمع كل ما كتبه المتقدمون في القرآن؟ هذا بين أمور: إما ألا يكمل وينقطع، صار كالمنبت، أنهى الفاتحة وشيئًا من البقرة وانقطع، أو أنه لا بد ولا محالة أن يعدل عن هذه الطريقة. الحافظ ابن حجر شرع في شرح البخاري بطريقة مطولة جدًّا، ثم عدل عن هذه الطريقة، سمى الأول: الشرح الكبير، لكن أين الشرح الكبير؟ ما نجز منه إلا شيئًا يسيرًا، وعدل عنه إلى هذا الشرح، هذا الشرح يعني على اعتبار طلاب العلم اليوم مطول، لكنه مع ذلك إذا قارنته بشروح أخرى، ووضعته أمام التحقيق والتحرير فيه أشياء تحتاج إلى مزيد بسط، والعلم لا ينتهي.

 كل إنسان يقول: أنا لا أريد أن أفوت شيئًا من العلم، وأريد أن أجمع كل شروح البخاري، أو كل التفاسير؛ لأستفيد منها. هذه همة طيبة، وكونها مراجع لا بأس. لكن كونك تلزم نفسك أن ترجع إليها في كل شيء، هذا غير متحقق وغير متيسر، هذا مستحيل. أنت سترجع إلى جميع التفاسير في كل آية من كلام الله -جل وعلا-؟ ما تقدر، إلا أن يكون على حساب أمور قد تكون أهم من ذلك، واجبات.

طالب: "وأيضًا فإنه حائل بين الإنسان وبين المقصود من الخطاب من التفهم لمعناه ثم التعبد بمقتضاه؛ وذلك أنه إعذار وإنذار، وتبشير وتحذير، ورد إلى الصراط المستقيم، فكم بين من فهم معناه ورأى أنه مقصود العبارة، فداخَله من خوف الوعيد ورجاء الموعود ما صار به مشمرًا عن ساعد الجد والاجتهاد، باذلاً غاية الطاقة في الموافقات، هاربًا بالكلية عن المخالفات، وبين من أخذ في تحسين الإيراد والاشتغال بمآخذ العبارة ومدارجها، ولِمَ اختلفت مع مرادفتها مع أن المعنى واحد، وتفريع التجنيس ومحاسن الألفاظ، والمعنى والمقصود في الخطاب بمعزل عن النظر فيه؟!".

يعني هناك اهتمامات قد تكون طريفة وتكون من ملح العلم، لكنها تصد عن الحقيقة التي من أجلها أُنزل القرآن. يعني من يلزم نفسه أن يفسِّر القرآن بحروف معينة، بحروف مهملة ما فيها ولا نقطة، هذا انشغال عن المقصود إلى أمر لا قيمة له، لا فائدة فيه، كمل له ذلك، والقرآن كله ما فيه ولا نقطة، التفسير كله ما فيه ولا نقطة، ثم ماذا؟ في مقامات الحريري المقامة السينية، كل كلمة فيها سين! فتجده يعدل عن اللفظ الذي يفهمه الناس كلهم إلى لفظ يخفى على كثير من الناس، أو الشينية مثلاً. يعني في مثل المقامات أمرها سهل، لكن في مثل تفسير القرآن، هذا لا شك أنه يشغل عن الأهم عن المقصد الأصلي، نعم. ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.

طالب: "كل عاقل يعلم أن مقصود الخطاب ليس هو التفقه في العبارة، بل التفقه في المعبر عنه وما المراد به؛ هذا لا يرتاب فيه عاقل. ولا يصح أن يقال: إن التمكن في التفقّه في الألفاظ والعبارات وسيلة إلى التفقه في المعاني بإجماع العلماء، فكيف يصح إنكار ما لا يمكن إنكاره؟ ولأن الاشتغال بالوسيلة والقيام بالفرض الواجب فيها دون الاشتغال بالمعنى المقصود لا يُنكَر في الجملة، وإلا لزم ذم علم العربية بجميع أصنافه".

ولذا تجدون من المفسرين من له اهتمام بالعربية، مفسرًا له اهتمام بالأحكام، مفسرًا له اهتمام بالبلاغة، وأحدًا بالنحو، وأحدًا بعلم الكلام، وأحدًا بعلم كذا وكذا. الاهتمام الممزوج بين هذه العلوم على طريقة متوسطة هو المطلوب الذي يستفاد منه، أما أن تهتم بعلم من العلوم، وفن من الفنون، وتنزل عليه القرآن، كأن القرآن ما أنزل إلا لهذا، هذا ليس بصحيح.

وقد يقول قائل: إنه فيه مثلاً تفسير البحر المحيط، هل نعتني به، أو لا نعتني، وعنايته بالنحو والصرف وعلوم العربية، أو الزمخشري في المعاني والبيان، أو التفاسير التي لها جوانب؟ أنت تريد أن تقرأ القرآن وتفهمه، أو تريد أن تفهم العربية من خلال القرآن؟ تريد أن تفهم القرآن من خلال العربية، أو العربية من خلال القرآن؟

طالب: .......

تريد أن تفهم القرآن، نعم. لكن بعض الناس يمرن في دروس النحو على إعراب بعض السور، إذا انتهى من كتاب في النحو، انتهى من الآجرومية قال: أعربوا لي الفاتحة. هذا لا شك أن فيه فائدة أو أكثر من فائدة، تفيدك في معرفة تطبيق ما أخذته من قواعد نظرية في العربية، وبالمقابل تفيدك على فهم تعينك على فهم القرآن؛ لأن معرفة الموقع الإعرابي للكلمة.

طالب: تبينها.

يفيد في معناها، وهكذا في بقية العلوم، هذا مراد المؤلف هنا.

طالب: "وإلا لزم ذم علم العربية بجميع أصنافه، وليس كذلك باتفاق العلماء. لأنا نقول: ما ذكرته في السؤال لا ينكر بإطلاق، كيف وبالعربية فهمنا عن الله تعالى مراده من كتابه؟ وإنما المنكر الخروج في ذلك إلى حد الإفراط الذي يُشَكُّ في كونه مراد المتكلم".

يعني يُؤلَّف في إعراب القرآن عشرين مجلدًا ثلاثين مجلدًا! في الإعراب المحض، واختلاف العلماء في مثل هذه الكلمة تعرب كذا أو كذا والتفصيل في إعرابها. هل القرآن أُنزل لهذا؟ قرآن بلسان عربي مبين، لا بد من معرفة العربية لنفهم القرآن، معرفة العربية لنفهم السنة. لكن ليس بهذه الطريقة، القرآن يُفسر على الطريقة التي من أجلها أُنزل، وبطريقة السلف. هات لي واحدًا من السلف أعرب القرآن. لكن لا يعني أننا نهمل هذا الجانب؛ لأننا إذا اهتممنا به من غير إفراط فيه مثل ما ذكرنا: بعضهم ألَّف عشرين مجلدًا ثلاثين مجلدًا في إعراب القرآن، فإننا نستفيد العربية ونفهم القرآن معنا.

طالب: "أو يُظَن أنه غير مراد، أو يُقطع به فيه؛ لأن العرب لم يفهم منها قصد مثله في كلامها، ولم يشتغل بالتفقه فيه سلف هذه الأمة، فما يؤمِّننا من سؤال الله تعالى لنا يوم القيامة: من أين فهمتم عني أني قصدت التجنيس الفلاني بما أنزلت من قولي: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، أو قولي: {قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ} [الشعراء: 168]؟

 فإن في دعوى مثل هذا على القرآن، وأنه مقصود للمتكلم به خطرًا؛ بل هو راجع إلى معنى قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [النور: 15]".

الجناس نوع من البديع، وهو موجود في القرآن: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} [الروم: 55]، الساعة الأولى غير الساعة الثانية والجناس تام، لكن هل أُنزل القرآن من أجل فهم هذه النكتة؟ هل هذا هو المقصد من إنزال القرآن؟ لكن التنبيه على مثل هذا يربطنا بالعلم الذي هو علم البديع ولا يخلو من فائدة. لكن لا يكون هو الهم والمقصد الذي من أجله أنشئ هذا الدرس أو أُلف هذا الكتاب.

طالب: "بل هو راجع إلى معنى قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور: 15]، وإلى أنه قول في كتاب الله بالرأي، وذلك بخلاف الكناية في قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]".

نعم. هذه فيها فائدة تتعلق بحكم شرعي، {لَامَسْتُمُ} الملامسة هل هي اللمس أو غيره؟ على خلاف بين أهل العلم، والاستدلال على ذلك من لغة العرب، وترجيح أحد الاحتمالين بكلام السلف، والرجوع إلى لغة العرب، هذا يفيد، لا نقول: إنه أفادنا في معرفة الكناية في هذا اللفظ فقط، إنما أفادنا في الحكم المستنبط من هذه الآية.

طالب: شيخنا.

نعم.

طالب: حتى المتخصص .......

لا بد من، هذه الأمور العلوم فروض كفايات، لا بد أن يتخصص الناس في التفسير، ولا بد أن يتخصص الناس في النحو، لا بد أن يتخصص الناس في علوم البلاغة؛ ليُرجع إليهم عند الاختلاف، وعند الإشكال. هؤلاء لا إشكال في كونهم يتخصصون ويتوسَّعون، لكن هل تقول لطلاب العلم: كلكم اقرءوا في شرح المفصل الذي تحتاج إلى دراسته وفهمه إلى سنين؟ نحن يكفينا الآجرومية خمس ورقات، مع القطر، إذا سمت الهمة وعلت إلى الألفية، ما نحتاج إلى كل ما قيل في كتب النحو المطولة. لكنْ المتخصصون لا بد أن يقرءوها. فيُخاطَب فلان بما لا يخاطب به فلان.

طالب: "وقوله: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]، وما أشبه ذلك، فإنه شائع في كلام العرب، مفهوم من مساق الكلام، معلوم اعتباره عند أهل اللسان ضرورة، والتجنيس ونحوه ليس كذلك، وفرق ما بينهما خدمة المعنى المراد وعدمه؛ إذ ليس في التجنيس ذلك، والشاهد على ذلك ندوره من العرب الأجلاف البَوَّالين على أعقابهم -كما قال أبو عبيدة- ومن كان نحوهم، وشهرة الكناية وغيرها، ولا تكاد تجد ما هو نحو التجنيس إلا في كلام المُوَلَّدين ومن لا يُحتج به، فالحاصل أن لكل علم عدلاً وطرفًا إفراط وتفريط، والطرفان هما المذمومان، والوسط هو المحمود".

اللهم صل على محمد.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: "البوالين" .......

يعني هو الأصل الأجلاف العرب.

طالب: يعني مدحًا .......؟

أين؟

طالب: أهو مدح؟

طالب: لا لا.

هم الأصل في العربية، لكن ما هو بالأصل في السلوك.