التعليق على الموافقات (1432) - 12

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذا يقول: في إحدى المصليات اليوم لما كان الإمام في السجدة الأولى من الركعة الأخيرة انقطع الصوت فالصفوف الأخيرة لم تسجد إلا سجدة واحدة، فأمرهم الإمام أن يسجدوا سجدة وهم جلوس ثم يسلمون ويسجدون للسهو، فهل هذا صحيح؟ وماذا يجب على من لم يسجد حتى الآن؟

هذا صحيح بالنسبة للجاهل الذي لا يدري ما يلزمه ثم أُخبر، أو لمن ظن أن صلاته كاملة أنه سجد سجدتين وهو ما سجد إلا واحدة، إذا سلم يأتي بالسجدة الثانية وهو جالس مستقبل القبلة. أما من علم أنه لم يسجد إلا سجدة واحدة وأتم صلاته على هذا الأساس فالصلاة ليست صحيحة، وهو لم يعلم أنه لم يسجد إلا سجدة واحدة ثم تشهد بعدها وسلم فعليه أن يأتي بالصلاة كاملة، وكذلك من لم يسجد حتى الآن هذا عليه أن يستأنف الصلاة.

نعم.

طالب: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في كتابه الموافقات تتمة للمسألة الخامسة عشرة:

"فصل: فإن قيل: هذا البحث كله تدقيق من غير فائدة فقهية تترتب عليه؛ لأن كلا القسمين قد تضمن ضد ما اقتضاه في وضعه الأول، فالواجب العمل على ما يقتضيه الحال في الاستعمال للمباح أو ترك الاستعمال، وما زاد على ذلك لا فائدة فيه فيما يظهر، إلا تعليق الفكر بأمر صناعي، وليس هذا من شأن أهل الحزم من العلماء".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

في كثير من مباحث هذا الكتاب، بل جميع الكتاب أُلف على طريقة فريدة لم يَشركه فيها أحد ممن كتب في الأصول. تعرفون أن الكتاب أُلف وموضوعه أصول الفقه، لكن ليس على سَنن كتب الفن المعروفة والجادة المطروقة، فتجده يكتب أشياء يتفرد بها، وأشياء يشترك مع غيره فيها، لكن طريقة عرضه تختلف عن غيره، ويستوغل أحيانًا أو يتوغل أحيانًا في بحث المسائل، وما يترتب عليها، وما يتشقق عنها، وما يتفرع منها بطريقة غير مألوفة تجعل بعض المتعلمين بل بعض العلماء في الفن يجعل أنها يحكم بأن هذا الاسترسال من المؤلف لا فائدة فيه.

نعم. لا شك أنه ينمي الذهن، ويربيه، ويربي فيه الملكة التي تجعله يتأهل لفهم القواعد العامة للشريعة والمصالح وغير ذلك.

المقصود أن هذا الكتاب كتاب فريد، لكنه في كثير من مقاصده، في كثير من مسائله واستطراداته قد ينازع المؤلف في سبب هذا الاسترسال وهذا التفريع. ولذا قال بعضهم: هذا البحث كله تدقيق من غير فائدة فقهية.

ومثل ما قلنا في السابق: بعض الأمور المباحة بالإجماع قد يَعرض لها ما يجعلها محرمة، وبعض المحرمة بالإجماع قد يعرض لها ما يجعلها واجبة، فيكون الوجوب في الأول بالنظر الأول وبالقصد الأول، والتحريم في الأول يكون بالنظر الثاني وبالقصد الثاني. والتحريم في المثال الثاني أو في المسألة الثانية تجده بالقصد الأول، والوجوب تجده بالقصد الثاني. فمثلاً بعض المأكولات الأصل فيها الإباحة، وإذا توقفت عليها الحياة وجبت، لكن قد تكون ضارة لبعض الناس فتمنع من هذه الحيثية، يعني بالقصد الثاني، ويسترسل المؤلف يكتب في هذا عشر صفحات أو أكثر. وقل مثل هذا في العكس: بعض الأمور المحرمة، الميتة محرمة بالإجماع، لكن قد تكون واجبة للمضطر، ويسترسل في هذا، ويورد إشكالات، ويرد الإشكالات.

العلماء يبحثون في مثل هذا في كلام يسير جدًّا، ويخرجون بالفائدة المطلوبة على طريقة ألفوها وتعلمها الطلاب إلى أن تربوا عليها. ولذلك لا تجدون للكتاب رواجًا عند كثير من المعلمين والمتعلمين، وهم لا يختلفون في أنه كتاب نافع وجيد ومتين، لكن باعتباره ليس على سَنن التأليف في الفن تجد ما يتصدى لشرحه أحد إلا نوادر، وهو كتاب لا شك أنه عظيم، لكن لو اختُصرت مقاصده، وبُين مراد المؤلف من كل مسألة ببضعة أسطر أو بشيء يسير، كان يلم طالب العلم بمقاصده وأطرافه، ويسهل عليه تصور الكتاب.

أما الكتاب بهذه الطريقة، يعني الإحاطة بجميع مقاصده صعبة جدًّا، وإلا فتسأل مجموعة من الطلبة المسائل الخمس عشرة التي مرت وما فهموا منها؟ وماذا استفادوا منها في التطبيق على المسائل؟ تجد ما يستحضرها إلا شخص إذا انتهى من الدرس راح ولخص المسألة التي قرأت، وربط بينها وبين المسألة التي قبلها.

من الدكاترة الموجودين الآن اختصر الموافقات، لكنه اختصار -في تقديري- مخل، يعني فيما يقرب من عُشر حجمه. فنحن نقول: لا إفراط ولا تفريط، يعني لو اختُصر للربع مثلاً، لكن الذي يختصره فاهم يعرف متى يُثبت، ويعرف متى يحذف.

هذا اعتراض: "فإن قيل: هذا البحث كله تدقيق من غير فائدة فقهية تترتب عليه؛ لأن كلا القسمين قد تضمن ضد ما اقتضاه في وضعه الأول"، يعني الواجب في الأول صار محرمًا بالقصد الثاني، والمحرم بالقصد الأول صار محرمًا بالقصد الثاني. لكن هل يقال: إن أكل الميتة للمضطر قصد ثانٍ أو قصد أول؟ هل نقول: إنها عزيمة أم رخصة؟

طالب: رخصة.

نعم؟

طالب: رخصة.

إذا قلنا: رخصة قلنا بالقصد الثاني مثلما قال المؤلف، لكن بعضهم ما دام يقول: هي واجبة، ما دام هي واجبة يجب عليه أكلها، صارت عزيمة أم رخصة؟

طالب: عزيمة.

عزيمة من هذه الحيثية. ولذلك بعض المسائل والاسترسال في العقليات لا ينتهي، ونحن جربنا هذا في شروح النصوص، شرح الحديث مثلاً: إذا استرسلنا في كل ما قيل حول الحديث ما انتهينا. ونجد من أهل العلم من يأخذ زبدة الخبر وزبدة النص، ويستخرج منه الحكم، ويفتي على ضوئه بسطر أو سطرين، ويستدل بالخبر، وينتهي الإشكال، هذه المسألة العلمية. وبعضهم لا، يتكلم على المسألة التي أُفتي بسطر أو سطرين بعشر صفحات. فأيهما أولى؟

طريقة السلف لا شك أنها الاختصار التام، ولا يعرفون مثل هذا التطويل ومثل هذا التشقيق، هذا وجه عند المتأخرين. وترتيب المسائل ترتيبًا منطقيًّا ما عُرف عند سلف الأمة وأئمتها، عُرف عند المتأخرين.

طالب: لأن اختصار السلف كان مبنيًّا على تأصيل صحيح يا شيخ.

اختصار السلف سببه الفهم المباشر للنصوص دون وسائط، يفهمون النص مباشرة، ما يحتاجون إلى أن يُكتب لهم مقدمات يفهمون بها النصوص، وكيف يتعاملون بها مع النصوص. هل فيه كتب في أصول الفقه أو في قواعد اللغة أو في علوم الحديث عند الصحابة والتابعين؟ ما فيه شيء؛ لأنهم ما يحتاجون، يفهمون النص كما أُنزل. لكن في المتأخر يحتاج الناس إلى هذا.

وعلم السلف علم مختصر ومبارك، وعلم الخلف فيه طول، وفيه افتراضات، وفيه مناقشات قد لا يُحتاج إلى كثير منها، قد يُحتاج إلى بعضها لتربية طالب العلم في التعامل مع النص والإيراد على هذا التعامل ورد هذا الإيراد وما أشبه ذلك، كما هو معلوم وكما هو مجرب ومطروق عند العلماء في التفاسير وفي الشروح وفي غيرها.

ابن رجب يقول في فضل علم السلف على الخلف، يقرر أن علم السلف مختصر، الصحابي والتابعي والأئمة يجيبون بكلمة أو كلمتين. المتأخرون يُجيب عن هذه المسألة التي أجاب فيها الصحابي أو الأئمة من أئمة السلف بسطر بكلمة أو كلمتين، يجيب عنها بصفحات. شيخ الإسلام ابن تيمية يجيب عن بعض المسائل بمائة صفحة في مائتي صفحة، قال ابن رجب: (ومن فضل عالمًا على آخر بكثرة كلامه فقد أزرى بسلف هذه الأمة).

لكن أحيانًا البسط يُحتاج إليه في وقت، وبالنسبة لشخص دون آخر، وبالنسبة لبلد دون آخر، لكن ما يقال بقول مطرد أن الاختصار هو الأفضل، ولا أن التطويل عند الحاجة إليه مفضول، قد يُحتاج إلى التطويل، يحتاج إلى البسط، يحتاج إلى ترتيب الكلام، يحتاج إلى... من أجل أن يفهم طلاب العلم، قد لا يفهم طالب العلم من النص بمجرد كلام موجز يحتاج إلى شرح.

من الأمثلة الحية التي عشناها وعشتوها كلكم: لو قارنا بين علم الشيخ ابن باز وعلم الشيخ ابن عثيمين، الشيخ ابن باز على طريقة السلف، يجيب بكلمات عليها نور سببه تعظيم النص والاهتمام به، والشيخ ابن عثيمين -رحم الله الجميع- يفصل بتفصيل قد يحتاجه طالب العلم، فهل نقول: إن هذا أفضل أم ذاك أفضل؟ لا شك أن الناس يُفتنون بالكلام المرتب المبني بعضه على بعض، هذا الناس يعجبهم ويستهويهم ويفضلونه على غيرهم، وتجد العالم الكبير الجليل يخطب خطبة جمعة يبين فيها ما يحتاج إليه العامة بكلام مختصر بأدلته، لكن ما يروق لكثير من طلاب العلم، يقول: هذا كلام عادي كل الناس يقولونه، ثم يأتي من أوتي شيئًا من البيان ويتكلم ساعة بالخطبة ما يتردد، ولا يتلعثم كلامًا مرتبًا ، يقول: هذا الإمام. لكن هذا له مجاله، وهذا له مجاله، هذا ينفع في باب، وذاك ينفع في باب.

فالمسألة لا شك أن لها جذورًا، والأصل ما كان عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، ويؤخذ من كلام المتأخرين ما يُحتاج إليه.

يعني لما نقول، كلكم رأيتم تعليقات الشيخ ابن باز على البخاري، على المتن: الحلل البازية، في أربعة أجزاء، في بعض الأحاديث كان يشرح الحديث بسطر، ويقرأ عليه عشرة أحاديث في درس العصر من بلوغ المرام ويعلق عليها وانتهت. لكن، وأيضًا كثير من أهل العلم على هذه الطريقة. لكن يبقى أن من المعلمين مَن يأخذ السنين في شرح باب أو في شرح حديث أو في شرح كتاب أو شيء من هذا. لكن الكلام: هل ما قاله هذا الذي طول، هل هو أطال الكلام وضيع الوقت بغير طائل، أو فيه فوائد؟

طالب: فيه فوائد.

ما يخلو من فائدة، فهذه الطريقة مقبولة، وهذه الطريقة عند الحاجة إليها مقبولة، وهذه مدرسة، وتلك مدرسة، وطالب العلم إذا تأهل يختار ما يناسبه من هذه المدارس، وقد يحتاج إلى هذه أحيانًا، ويحتاج إلى هذه المدرسة أحيانًا.

وعلى كل حال: إذا خلصت النية لله -جل وعلا- فكل على خير، إن شاء الله تعالى.

هذا يسأل عن أفضل طبعة لكتاب الموافقات؟

الكتاب طُبع قبل مائة وثلاثين سنة في تونس، هذه أول طبعة للكتاب، وهي طبعة في عُرف الكتبيين نفيسة ونادرة، وورقها من أفخر أنواع الورق الذي يقال له: الكتان، وتراها اليوم في ورق أجود من هذا وأبيض وأمتن. ثم طُبع بالمطبعة السلفية طبعة محب الدين الخطيب بتعليقات الشيخ محمد الخضر حسين سنة ألف وثلاثمائة وواحد وأربعين، منذ واحد وتسعين سنة. ثم طُبع بالمطبعة التجارية طبعة فيها كثير من التعليقات والتحقيقات للشيخ محمد بن عبد الله دراز، هذه في ميزان التحصيل العلمي من أجل الفائدة، هذه أفضل الطبعات، أكثر التعليقات الموجودة عند المحققين المتأخرين مأخوذة منها، وهي مصورة ومتداولة، ولها ما يقرب مما يزيد عن سبعين سنة مطبوعًا. وطبعه الشيخ محيي الدين عبد الحميد طبعة لا بأس بها، وليست مثل الطبعات السابقة. ثم تداوله الناس بالطباعة، وحققوه،  ومنهم من زعم تحقيقه.

المقصود: أن الكتاب مطروق ومعلوم ومطبوع طبعات كثيرة، وكلٌّ له نظر في الجودة، كل له نظر في اعتبار الجودة. من تستهويه نفاسة الطباعة لا يعدل بطبعة تونس شيئًا، والذي يريد الفائدة فطبعة الشيخ محمد عبد الله دراز هي الأفضل في نظري، والموجودون مثل مشهور وغيره اجتهدوا وكتبوا تعليقات من مضى وخرَّجوا الأحاديث، ورقموا، على كل حال طبعة زين، يعني الذي ما يهمه الطبعات القديمة فطبعة الشيخ مشهور طيبة.

يقول: "فإن قيل هذا البحث كله تدقيق من غير فائدة فقهية تترتب عليه؛ لأن كلا القسمين قد تضمن ضد ما اقتضاه في وضعه الأول، فالواجب العمل على ما يقتضيه الحال في الاستعمال للمباح وترك الاستعمال".

يعني كل إنسان له من خطاب الشرع ما يخصه، السوي الذي يتناول الطعام ولا يضره، الأصل أن هذا الطعام مباح، إذا احتاج إليه صار مطلوبًا في الشرع، وإذا زادت الحاجة بحيث يصل إلى ضرورة صار تناوله واجبًا. هذا بالنسبة لهؤلاء، وأما من يضره فحاله تختلف، لا يقال: إن هذا اختلف بالحكم، اختلف حكم هذا الطعام، ويصدر حكمًا استقلاليًّا بتحريم هذا النوع من الطعام. لا، يبقى الحكم الأصلي. ونظير ذلك ما أُبيح من بعض التصرفات، سواء كانت في العقود والمعاملات أو غيرها، مباح عند عامة أهل العلم، لكن ممارسات بعض الناس تجعل عند بعض من يُفتي ردة فعل؛ ليحتاط الحكم الشرعي فيحكم بالمنع.

 مثل من يمنع مسألة التورق، يقول: حرام. لماذا؟ واللهِ لأن الناس يتلاعبون، تلاعبوا، ليحل لهم التورق صاروا يديرون أموالًا مجرد حيلة، فهل التورق حرام؟ نقول: لا يا أخي، الواقع ما يغير من الحكم الشرعي شيئًا ، وكل تصرف له حكمه.

زواج المسيار الذي كثر الكلام فيه بعضهم قال: حرام، قلنا: لماذا؟ قال: لأن بعض الناس يروح ولا يعطي اسمًا، ويلبس على الناس، ويضحك عليهم، وكذا، إذًا حرام. نقول: لا يا أخي الحكم ما يتغير، هذا التصرف حرام بلا شك. ومثل هذا لو قال لك واحد: ما حكم التمر؟ فماذا تقول له؟ حلال بالإجماع ما أحد يختلف. طيب إذا كان هذا التمر يضرني؟ أنت بذاتك تُمنع من التمر، لكن غيرك نقول التمر حرام من أجلك؟ لا.

ولهذا يقول المعترض: "وما زاد على ذلك لا فائدة فيه فيما يظهر إلا تعليق الفكر بأمر صناعي".

أحيانًا أهل العلم يذكرون صورًا لا وجود لها ولا حقيقة لها في الواقع، وإنما تُذكر من باب تتميم القسمة، القسمة العقلية تحتمل كذا فتتمم القسمة.

"إلا تعليق الفكر بأمر صناعي، وليس هذا من شأنها للحزم من العلماء.

 فالجواب: أنه ينبني عليه أمور فقهية وأصول عملية. منها:

الفرق بين ما يُطلب الخروج عنه من المباحات عند اعتراض العوارض المقتضية للمفاسد، وما لا يُطلب الخروج عنه".

أحيانًا الصلاة التي هي أفضل الأعمال التي يُتقرب بها، وخير ما يُستكثر منه، أحيانًا نقول: هذا المصلي آثم، صف وقرأ سورة البقرة في ركعة وآل عمران في ركعة، واستغرقت صلاته ساعة. لكن هذا الوقت مشغول بواجب آخر، أمه عندها موعد في المستشفى، يجوز أن يصلي وأمه عندها موعد في المستشفى، يفوت الموعد؟ ما يجوز.

وهكذا، العوارض التي المؤلف حسب لها ألف حساب وأدخلها في ضمن المقاصد، لكنها بالقصد الثاني لا بالقصد الأول. غيرُه من أهل العلم ما يشير إليها باعتبارها أمورًا مقررة في الشرع، باعتبار أنها مقصد أول للمعارض، يعني بر الوالدين بالمقصد الأول واجب، فلا ينظر إلى ما عارضه بالمقصد الثاني. أظن الكلام واضح.  

طالب: نعم.

المؤلف يقول: "فالجواب: أنه ينبني عليه أمور فقهية وأصول عملية. منها: الفرق بين ما يُطلب الخروج عنه من المباحات عند اعتراض العوارض المقتضية للمفاسد".

يعني كلام المؤلف الذي أخذ علينا ست، سبع سنين الذي فات، لو يقال لمن لازم الدرس من أول يوم إلى اليوم هذا: لخص لنا ما فهمت من الكتاب؟ ماذا يصمد عندنا؟ لا، هذا بسبب التفريع والتشقيق والتطويل والاستطراد يضيع بعضه بعضًا. يعني لنكون واقعيين: نشهد بالكتاب والمؤلف بأنه أجاد وأفاد، والكتاب متين، ويحتاج إليه، لكنه طويل يحتاج إلى أن تُلم أطرافه، وتُجمع مقاصده في كلام ينحصر في الذهن.

ثم الأمر الثاني لو أنك انتصفت بمسألة مثل ما صنعنا: "المسألة الخامسة عشرة"، وتعطل الدرس ستة أشهر! كيف نبني، حتى على "المسألة الرابعة عشرة" و"الثالثة عشرة"، يعني استحضارها عند الطلاب... بينما الكتب التي على الجادة المعروفة؛ لأنها مسلوكة ومطروقة، ومرت على طالب العلم أكثر من مرة، لو قطع سنين فأنت على تصور، تتصور ما كتبه الجويني في الورقات وما كتبه ابن قدامة في الروضة وفلان وفلان يعني؛ لأن الطريقة طريقة معروفة ومألوفة ومطروقة، في كلام مر على الأسماع أكثر من مرة.

فهو على كل حال مثل ما قلنا: الكتاب بحاجة إلى جمع الأطراف، وأقل الأحوال أن يُكتب عناصر تذكر وتربط الموضوعات بعضها ببعض؛ لأن فهم المسائل مرتب بعضها على بعض، فلا يحسن بطالب أن ينقطع ثم يعود وهو ما استذكر الذي قبله.

نعم.

طالب: بسم الله الرحمن الرحيم.

"فالجواب: أنه ينبني عليه أمور فقهية وأصول عملية،

منها: الفرق بين ما يُطلب الخروج عنه من المباحات عند اعتراض العوارض المقتضية للمفاسد، وما لا يُطلب الخروج عنه وإن اعترضت العوارض، وذلك أن القواعد المشروعة بالأصل إذا داخلتها المناكر: كالبيع، والشراء، والمخالطة، والمساكنة إذا كثر الفساد في الأرض، واشتهرت المناكر".

طيب، البيع: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، حلال بالكتاب والسنة والإجماعِ، والشراء. لو قال قائل: بيع السيارات كثرت فيه المنكرات، وكثر الغبن، وكثر الغش والنجش وغيره، إذًا حرام. والبيع في الأسواق كثرت فيه المنكرات، وكثر تبرج النساء، والإنسان إذا راح إلى هذه الأماكن عرض نفسه لفتنة، وحمل من الأوزار... إن هذا الأمر ما ينتهي إذا تفرع هذا الأساس، إذًا لا تحج ولا تعتمر، فالمنكرات حتى هناك موجودة، نقول له: لا تحج، ولا تعتمر؟ ثم ندخل فيما أشار الله إليه في قوله -جل وعلا-: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي} [التوبة: 49]، يتنصل من الواجب بهذا العذر. العذر صحيح، لكن ما يقابل به واجب بأصل الشرع.

 يعني واحد يقول: واللهِ ما أقدر أن أحج، وهو مستطيع، بدنه يتحمل، وماله موجود وكثير، يقول: أنا والله ما أقدر أنا أفتن إذا شفت النساء. نقول له: يلزمك أن تحج، وأنت غض بصرك. لكن إذا جاء المندوب نقول: وازن بين المصالح والمفاسد. حج حجة الإسلام قال: والله ما أقدر أن أحج ثانيًا، فيه منكرات، وفيه كذا. نقول: الآن شف بما ترجع، هل ترجع كسبان أم ترجع خسران؟ بعض الناس يرجع خسران. هذا واقع كثير من الناس فعلاً، ونسأل الله أن يعاملنا بالعفو.

هذا موجود حتى في الحرم تجد المنكرات، وبعض الناس يصلي مع الناس، وقلبه ما هو موجود؛ بسبب هذه المنكرات وهذه، حتى قرر جمع من أهل العلم في القرن الثامن أن المتعين العزلة؛ لاستحالة خلو المحافل من المنكرات. فماذا نقول نحن أجل؟ ماذا نقول؟ لكن يبقى أن الواجب واجب لا يُترك بهذه التعليلات، الفرض فرض لا يُترك بهذه التعليلات. لكن إذا جاء المندوب فاصنع ما شئت، وازن؛ لأنك لا تأثم إذا تركت، وتأثم إذا ارتكبت المحظور. فهل أنت إذا حججت أو اعتمرت ترجع كسبان كيوم ولدتك أمك، أو ترجع محملًا بالأوزار بحج غير مبرور؟

هنا ينبغي أن يُنظر إلى مثل هذه الأمور بعناية. {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49]، قد يقول قائل: واللهِ عذره صحيح، بنات بني الأضفر إذا رآهن انفتن، نقول: نعم، لكن ما يعارضه بواجب، يعارضه بمندوب، ما يخالف، ما هناك أحد يمنعك؛ لأنك لا تأثم إذا تركت المندوب، لكن تترك واجبًا بهذه العلة، أنت مأمور بغض البصر، ومأمور بأداء الواجب، وتأثم إذا تركت، ويحرم عليك إرسال النظر، فأنت مأمور بالأمرين.

طالب: "والمساكنة إذا كثر الفساد في الأرض، واشتهرت المناكر، بحيث صار المكلف عند أخذه في حاجاته، وتصرفه في أحواله لا يَسلم في الغالب من لقاء المنكر أو ملابسته؛ فالظاهر يقتضي الكف عن كل ما يؤديه إلى هذا، ولكن الحق يقتضي أن لا بد له من اقتضاء حاجاته، كانت مطلوبةً بالجزء أو بالكل".

قد يقول قائل: إنه ينيب ويخرج من هذا الواجب، ينيب من يقوم عنه بالبيع والشراء؟ لكن النائب ما يتعرض لمثل ما يتعرض له هو؟ وإقراره لهذا التعرض، أليست شراكة في مثل هذا؟

طالب: ....... يا شيخ.

ماذا؟

طالب: .......

ما انتهينا.

طالب: "كانت مطلوبة بالجزء أو بالكل، وهي إما مطلوب بالأصل، وإما خادم للمطلوب بالأصل؛ لأنه إن فُرض الكف عن ذلك أدى إلى التضييق والحرج، أو تكليف ما لا يطاق، وذلك مرفوع عن هذه الأمة، فلا بد للإنسان من ذلك، لكن مع الكف عما يُستطاع الكف عنه، وما سواه فمعفو عنه؛ لأنه بحكم التبعية، لا بحكم الأصل. وقد بسطه الغزالي في كتاب الحلال والحرام من الإحياء على وجه أخص من هذا، فإذا أُخذ قضيةً عامةً استمر واطرد. وقد قال ابن العربي في مسألة دخول الحمَّام بعد ما ذكر جوازه: فإن قيل: فالحمَّام يغلب فيها المنكر".

"الحمَّام"، يقصد بها الحمامات العامة التي يدخلها جمع من الناس، وهي موجودة في الأقطار، موجودة في الحجاز وفي مصر والشام والمغرب والمشرق، هي غير معروفة عندنا، لكنها موجودة، وفيها منكرات، فيها تساهل فيما يتعلق بكشف العورات، ويتورع عنها كثير من الناس، وأفتى بعضهم بالمنع من دخولها، لكن ما الأصل؟

طالب: الجواز.

الجواز. شف المسابح الآن المشتركة فيها شيء من هذا، وحكمها حكم الحمامات.

طالب: "فالحمام دار يغلب فيها المنكر، فدخلوها إلى أن يكون حرامًا أقرب منه إلى أن يكون مكروهًا، فكيف أن يكون جائزًا؟ قلنا: الحمام موضع تداوٍ وتطهر، فصار بمنزلة النهر".

"تداوٍ"؛ لأن فيه من الماء الحار، ولذا سُمي الحمام من الحميم، يعني الماء الحار يتداوى به، علاج، وهو أيضًا منظف مطهر.

طالب: "فصار بمنزلة النهر، فإن المنكر قد غلب فيه بكشف العورات، وتظاهُر المنكرات، فإذا احتاج إليه المرء دخله، ودفع المنكر عن بصره وسمعه ما أمكنه، والمنكر اليوم في المساجد والبلدان، فالحمام كالبلد عمومًا، وكالنهر خصوصًا. هذا ما قاله، وهو ظاهر في هذا المعنى. وهكذا النظر في الأمور المشروعة بالأصل كلها، وهذا إذا أدى الاحتراز من العارض للحرج، وأما إذا لم يؤدِّ إليه، وكان في الأمر المفروض مع ورود النهي سعة كسد الذرائع، ففي المسألة نظر، ويتجاذبها طرفان: فمن اعتبر العارض سد في بيوع الآجال وأشباهها من الحيل، ومن اعتبر الأصل لم يسد ما لم يبدُ الممنوع صراحًا.

 ويدخل أيضًا في المسألة النظر في تعارض الأصل والغالب؛ فإن لاعتبار الأصل رسوخًا حقيقيًّا، واعتبار غيره تكميليًّا من باب التعاون، وهو ظاهر. أما إذا كان المباح مطلوب الترك بالكل، فعلى خلاف ذلك؛ إذ لا يجوز لأحد أن يستمع إلى الغناء، وإن قلنا إنه مباح إذا حضره منكر أو كان في طريقه؛ لأنه غير مطلوب الفعل في نفسه، ولا هو خادم لمطلوب الفعل، فلا يمكن- والحالة هذه- أن يَستوفي المكلف حظه منه، فلا بد من تركه جملةً، وكذلك اللعب وغيره".

حضور وليمة العرس والدعوة إليه دل الدليل على وجوبه، لكن قد يرد العارض المانع من الحضور، أبو ذر وأبو الدرداء وسلمان دخلوا في وليمة فرأوا الستور على الجدران فخرجوا، الدعوة إجابتها واجبة، ومعارضتها بمثل الستور، الآن ما فيه بيت أظن يخلو منها، ما فيه بيت يخلو من هذه الستور. معارضتها بمثل هذا هل نستدل به على أن هؤلاء يحرمون هذه الستور ليعارضوا بذلك ما أوجب الشرع عليهم؛ لأنه إذا كانت مجرد كراهة ما تركوا الواجب من أجله، فكيف إذا كان في هذه المناسبات من المنكرات ما هو أشد وأعظم؟ قد يعضد الأصل في منكر أو أكثر من منكر، لكن الوجوب هو الأصل، ويعضده أمور أخرى، كأن يكون النكاح لمن تجب صلته وتحرم قطيعته، في زواج لأبيه أو عمه أو ما أشبه ذلك، تجب صلته، وتحرم قطيعته، هذا يؤكد لزوم إجابة الدعوة، أما المعارض فإن كان أقوى فلا شك أن درء المفاسد مقدم، والحظر مقدم على الإباحة.

هناك أمور يسترسل فيها المؤلف -رحمه الله- وأمرها بين وواضح، لكن الآن الذي يمكن أن يولد الإشكال الموازنة بين هذه الأمور والترجيح بينها.

طالب: "وفي كتاب الأحكام بيان لهذا المعنى في فصل الرخص، وإليه يرجع وجه الجمع بين التحذير من فتنة الدنيا مع عدم التحذير من اجتنابها أو اكتسابها. فإن قيل: فقد حذر السلف من التلبس بما يجر إلى المفاسد، وإن كان أصله مطلوبًا بالكل، أو كان خادمًا للمطلوب، فقد تركوا الجماعات واتباع الجنائز وأشباهها مما هو مطلوب شرعًا، وحُضَّ كثير من الناس على ترك التزوج وكسب العيال، لما داخل هذه الأشياء واتبعها من المنكرات والمحرمات. وقد ذكر عن مالك أنه ترك الجمعات والجماعات وتعليم العلم واتباع الجنائز، وما أشبه ذلك مما هو مطلوب لا يحصل إلا مع مخالطة الناس، وهكذا غيره، وكانوا علماء وفقهاء وأولياء ومثابرين على تحصيل الخيرات وطلب المثوبات، وهذا كله له دليل في الشريعة كقوله- عليه الصلاة والسلام-: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن»، وسائر ما جاء في طلب العزلة، وهي متضمنة لترك كثير مما هو مطلوب بالكل أو بالجزء ندبًا أو وجوبًا أو خادمًا لمطلوب أو مقصودًا لنفسه، فكيف بالمباح؟".

الإمام مالك -رحمه الله- ذُكِر عنه أنه لزم بيته، فمنهم من يقول: إن هذا من أجل اعتزال محافل الناس؛ لوجود المنكرات. الإمام مالك في القرن الثاني وفي دار الهجرة، فهل يُظن بمالك أنه يترك الصلاة مع الجماعة؛ لأن في طريقه إليها منكرًا ؟ قال أهل التحقيق من المالكية: إنه ترك ذلك؛ لأن به سَلسًا لا يستطيع معه أن يصلي مع الناس. وهذا عذر، إذا كان هناك فترة ينقطع بها هذا السلس لا توافق الصلاة مع الجماعة؛ لأن صلاته بطهارة كاملة أولى من صلاته بطهارة ناقصة ولو مع الجماعة.

طالب: "فالجواب: إن هذا المعنى لا يرد من وجهين؛ أحدهما: أنا إنما تكلمنا في جواز المخالطة في طلب الحاجات الضرورية وغيرها، فمن عمل على أحد الجائزين فلا حرج عليه، ولا يَرد علينا ما هو مطلوب بالجزء؛ لأنا لم نتعرض في هذه المسألة للنظر فيه. والثاني: أن ما وقع التحذير فيه وما فعل السلف من ذلك، إنما هو بناء على معارض أقوى في اجتهادهم مما تركوه، كالفرار من الفتن فإنها في الغالب قادحة في أصول الضروريات، كفتن سفك الدماء بين المسلمين في الباطل، أو ما أشبه ذلك، أو للإشكال الواقع عند التعارض بين المصلحة الحاصلة بالتلبس مع المفسدة المنجرة بسببه، أو ترك ورع المتورع يحمل على نفسه مشقةً يحتملها، والمشقات تختلف كما مر في كتاب الأحكام، فكل هذا لا يقدح في مقصودنا على حال".

لا شك أن المشقات تختلف، منها ما يُحتمل، ومنها ما هو أشد منه، ومنها ما لا يُحتمل. وفي الصيام في السفر أدلة تدل على اختلاف هذه المشقات، فجاء أن النبي -عليه الصلاة والسلام- صام في السفر، وصام أصحابه معه، وكانوا يسافرون معه منهم الصائم ومنهم المفطر، لا يعيب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، وجاء عنه -عليه الصلاة والسلام-: «ليس من البر الصيام في السفر»؛ لوجود المشقة، وجاء عنه أنه قال في حق أناس شق عليهم الصيام، يعني زادت عليهم المشقة، قال: «أولئك العصاة، أولئك العصاة». فالمشقة إذا كانت محتملة، أمرها يعني مقبول، ولا يُمنع من ارتكاب هذا العمل أو فِعل هذا الأمر إذا كان مشقته محتملة، والأصل المشقة في التكاليف، حتى الذي بيته تناله مشقة، الذي في بلده ويخرج من بيته ويغدو ويروح هذا تناله مشقة. فمثل هذا يؤيد كلام المؤلف أن المشقات تختلف.

طالب: "فصل: ومنها الفرق بين ما ينقلب بالنية من المباحات طاعةً وما لا ينقلب، وذلك أن ما كان منها خادمًا لمأمور به تُصور فيه أن ينقلب إليه، فإن الأكل والشرب والوقاع وغيرها تسبب في إقامة ما هو ضروري، لا فرق في ذلك بين كون المتناول في الرتبة العليا من اللذة والطيب، وبين ما ليس كذلك، وليس بينهما تفاوت يُعتد به إلا في أخذه من جهة الحظ، أو من جهة الخطاب الشرعي، فإذا أُخذ من جهة الحظ فهو المباح بعينه، وإذا أخذ من جهة الإذن الشرعي فهو المطلوب بالكل؛ لأنه في القصد الشرعي خادم للمطلوب".

نعم. يعني الأكل إذا كان لمجرد التلذذ من جهة حظ النفس فقط من غير أن يستحضر أنه يتقوى به على طاعة الله -جل وعلا- فهذا مباح، لكن إن أخذه بنية صالحة: أن يتقوى به على طاعة الله، وأنه لولا هذا الأكل لما استطاع أن يتعبد، ولولا الأكل والشرب لما بقي، ولتعرض للهلاك، وهو مأمور بالمحافظة على نفسه؛ لأنه لا يملكها، ومحرم عليه أن يتسبب بما يضرها، إذا تصور هذا صار مطلوبًا شرعيًّا.

طالب: "لأنه في القصد الشرعي خادم للمطلوب وطلبه بالقصد الأول، وهذا التقسيم قد مر بيانه في كتاب الأحكام.

فإذا ثبت هذا صح في المباح الذي هو خادم المطلوب الفعل انقلابه طاعة؛ إذ ليس بينهما إلا قصد الأخذ من جهة الحظ أو من جهة الإذن. وأما ما كان خادمًا لمطلوب الترك، فلما كان مطلوب الترك بالكل لم يصح انصرافه إلى جهة المطلوب الفعل؛ لأنه إنما ينصرف إليه من جهة الإذن، وقد فُرض عدم الإذن فيه بالقصد الأول، وإذا أُخذ من جهة الحظ فليس بطاعة، فلم يصح فيه أن ينقلب طاعةً، فاللعب مثلاً ليس في خدمة المطلوبات كأكل الطيبات وشربها، فإن هذا داخل بالمعنى في جنس الضروريات وما دار بها، بخلاف اللعب فإنه داخل بالمعنى في جنس ما هو ضد لها. وحاصل هذا المباح أنه مما لا حرج فيه خاصة، لا أنه مخير فيه كالمباح حقيقةً، وقد مر بيان ذلك.

وعلى هذا الأصل تخرج مسألة السماع المباح؛ فإن من الناس من يقول: إنه ينقلب بالقصد طاعة، وإذا عُرض على هذا الأصل تبين الحق فيه، إن شاء الله تعالى".

السماع، يعني المباحات منها ما ينفع البدن، ويتقوى به ويتلذذ به، ومنها ما لا يخدم، ولا ينتفع به البدن، قد يتلذذ به، لكنه لا يخدمه ولا يصلح ولا يعينه على شيء، إذا كان يعينه على طاعة الله فبنية التقوي به على طاعة الله ينقلب عبادة، ويكون مطلوبًا بالقصد الثاني، لكن إذا كان لا يعين يتلذذ به فقط ولا يعينه على طاعة، ولا يقوي بدنه، ولا يستفيد منه، هذا يبقى في حيز الإباحة، لكن لا يُطلب لا بالقصد الأول ولا بالقصد الثاني.

طالب: "فإن قيل: إذا سلمنا أن الخادم لمطلوب الترك مطلوب الترك بالقصد الأول، فقد مر أنه يصير مطلوب الفعل بالقصد الثاني، فاللعب والغناء ونحوهما إذا قُصد باستعمالهما التنشيط على وظائف الخدمة والقيام بالطاعة، فقد صارت على هذا الوجه طاعة، فكيف يقال: إن مثل هذا لا ينقلب بالنية طاعة؟

فالجواب: إن اعتبار وجه النشاط على الطاعة ليس من جهة ما هو لعب أو غناء، بل من جهة ما تضمن من ذلك، لا بالقصد الأول، فإنه استوى مع النوم مثلاً، والاستلقاء على القفا، واللعب مع الزوجة في مطلق الاستراحة، وبقي اختيار كونه لعبًا على الجملة أو غناءً تحت حكم اختيار المستريح، فإذا أخذه من اختياره فهو سعي في حظه فلا طلب، وإن أخذه من جهة الطلب فلا طلب في هذا القسم كما تبين. ولو اعتُبر فيه ما تضمنه بالقصد الثاني، لم يضر الإكثار منه والدوام عليه، ولا كان منهيًّا عنه بالكل؛ لأنه قد تضمن خدمة المطلوب بالفعل، فكأن يكون مطلوب الفعل بالكل وقد فرضناه على خلاف ذلك؛ هذا خلف".

نعم. يعني ما يستفاد منه أصلاً، مثل السماع الذي ذكره واللهو والعبث، هذا ما يستفاد منه، فهل يخدم ما هو طاعة؟ ما يخدم. يعني غاية ما يقال فيه أنه إذا كان ما يُتلذذ به أنه مباح إذا لم يقترن به ما جاء النص على تحريمه، كالآلات المحرمة الموسيقية، فإنه وإن كان أصله مباحًا إلا أنه إذا اقترن بما يقتضي التحريم انتقل من حيز الإباحة إلى التحريم.

طالب: "وإنما يصير هذا شبيهًا بفعل المكروه طلبًا لتنشيط النفس على الطاعة، فكما أن المكروه بهذا القصد لا ينقلب طاعة، كذلك ما كان في معناه أو شبيهًا به.

فصل: ومنها بيان وجه دعاء النبي لأناس بكثرة المال، مع علمه بسوء عاقبتهم فيه، كقوله لثعلبة بن حاطب: «قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه»، ثم دعا له بعد ذلك، فيقول القائل: لو كان عنده أن كثرة المال يضر به فلِمَ دعا له؟ وجواب هذا راجع إلى ما تقدم من أن دعاءه له إنما كان من جهة أصل الإباحة في الاكتساب أو أصل الطلب، فلا إشكال في دعائه -عليه الصلاة والسلام- له".

قصة ثعلبة هذه مضعفة عند أهل العلم، وضعفها شديد، وعلى ما قيل ثعلبة بن حاطب هذا بدري، وقصته المنسوجة هذه فيها أنه هو سبب نزول: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75]، وأنه نافق: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77]، ولا شك أن هذه قصة باطلة.

طالب: "ومثله التحذير من فتنة المال".

لكنه دعا لأنس بكثرة المال والولد، مع أن المال فتنة، فكذلك الولد فتنة. وقد حُبب إليه -عليه الصلاة والسلام- من دنيانا النساء، ومع ذلك فتنة، هي فتنة يعني مشغلة تشغل الإنسان عن طاعة ربه.

طالب: "ومثله التحذير من فتنة المال مع أصل مشروعية الاكتساب له، كقوله: «إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض». قيل: وما بركات الأرض؟ قال: «زهرة الدنيا». قيل: هل يأتي الخير بالشر؟ فقال: «لا يأتي الخير إلا بالخير، وإن هذا المال حلوة خضرة» الحديث. وقال حكيم بن حزام: سألت النبي فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال: «إن هذا المال خضرة حلوة» الحديث، وقال: «المكثرون هم الأقلون يوم القيامة» الحديث. وما أشبه ذلك مما أشار به إلى التحذير من الفتنة، ولم ينهَ عن أصل الاكتساب المؤدي إلى ذلك".

بل جاء الأمر به بالقدر الذي يستعين به على تحقيق ما خُلق من أجله، وهو تحقيق العبودية لله- جل وعلا-، ولذلك قال الله -جل وعلا-: {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77]. لا يجوز للإنسان أن ينظر في بيته وينتظر الناس يتصدقون عليه وهو قادر على الاكتساب، بل لا بد أن يكتسب ويرتفع بذلك عن الحاجة إلى الناس.

طالب: "ولم ينه عن أصل الاكتساب المؤدي إلى ذلك، ولا عن الزائد على ما فوق الكفاية، بناءً على أن الأصل المقصود في المال شرعًا مطلوب، وإنما الاكتساب خادم لذلك المطلوب، فلذلك كان الاكتساب من أصله حلالاً إذا رُوعيت فيه شروطه، كان صاحبه مليًّا أو غير ملي، فلم يُخرجه النهي عن الإسراف فيه عن كونه مطلوبًا في الأصل؛ لأن الطلب أصلي، والنهي تبعي، فلم يتعارضَا، ولأجل هذا ترك النبي أصحابه يعملون في جميع ما يحتاجون إليه في دنياهم ليستعينوا به، وهو ظاهر من هذه القاعدة، والفوائد المبنية عليها كثيرة".

اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

طالب: قوله .......

أين؟

طالب: .......

نعم، ومطلوب الاكتساب سواء كان عنده ما ينفق به على نفسه أو ليس عنده شيء ينفقه.

طالب: .......

"ملي"، الملي الذي عنده مال.

طالب: .......

يشغل، أم أولاده يشغلونه.

طالب: .......

نعم، ماذا فيه؟

طالب: .......

نعم، ما يخالف، المكاثر هو الذي يكتسب المال، وينوي به إنفاقه في سبيل الله، يظهر أن هذا مأجور.