نعم، ثبت عن بعض الصحابة أنهم يقرؤون القرآن في ليلة، ثبت ذلك عن أكثر من واحد من الصحابة، وجاء عن الإمام الشافعي أنه يختم مرتين، وعلى كل حال مثل هذه الأمور أشبه بالخيال عند بعض الناس الذين لم يتعوَّدوا قراءة القرآن، ولم يأْطروا أنفسهم على ملازمة القرآن، فهي عندهم كأنها ضرب من الخيال، لكن مَن جرَّب ذلك -وهو موجود إلى وقتنا هذا- يجد أن الختمة الواحدة في اليوم والليلة ممكنة، والشافعي -رحمه الله- كما جاء في (أحكام القرآن للشافعي) الذي جمعه البيهقي، لما سُئل عن دليل الإجماع وعن استدلاله على حجية الإجماع قال للسائل: أمهلني ثلاثًا، فصار يقرأ القرآن في كلِّ يومٍ وليلةٍ ثلاث مرات؛ ليبحث عن هذا الدليل، وفي آخر شيء وجده: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، فوجده وحَمِد الله على ذلك، وأخبر السائل.
المقصود أن قراءة القرآن في ليلة، أو في الليلة مرتين ثابت عن بعض السلف من الصحابة كعثمان –رضي الله عنه-، ومن بعدهم وهو كثير في التابعين، وخيار الأمة يفعلون ذلك، لكن لا يعني أنه أفضل من قراءته في مدة أطول لا سيما إذا خلت القراءة في ليلة أو مرتين في ليلة عن التدبر والترتيل، فلا شك أن التدبر والترتيل أفضل، ولو كانت قراءة التدبر والترتيل أقلَّ حروفًا من قراءة الهذِّ.
وينبغي استغلال الأوقات، مثل الأيام الفاضلة في رمضان، فالسلف كانوا يخصِّصونه للقرآن، فلو خُصِّصت الليالي للتدبُّر، والنهار لقراءة الهذِّ؛ لتحصيل أجر الحروف، فهذه كانت طريقة معمولًا بها عند السلف، وعلى كل حال الأفضل هو الأنفع للقلب، ولذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: قراءة القرآن على الوجه المأمور به لا شك أنها أنفع للقلب، ويحصل معها من حياة القلب والانتفاع بالقرآن وطمأنينة النفس ما لا يدركه إلا من فعله.
والمجرَّب أن الجزء من القرآن قد يُقرأ في ربع ساعة، وذكر لنا هذا من جرَّبه في عصرنا هذا، وعلى هذا فالختمة تحتاج إلى سبع ساعات ونصف، وقُل مع الأمور الأخرى: ثماني ساعات، أو حتى عشر ساعات، فتكون قراءة القرآن في يومٍ ممكنة، لكن هل كل أحد يستطيع أن يفعل ذلك؟ ما يفعله إلا صاحب القرآن الذي عوَّد نفسه وأَطَر نفسه على ملازمة القرآن.
وعلى كل حال مسألة الأفضل: استغلال الأوقات الفاضلة بلا شك كما يقول ابن رجب وغيره هو المطلوب، وهو ديدن السلف، ولذا جاء في (سنن أبي داود): «لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث» [1394]، قالوا: وهذا بالنسبة لسائر الأيام، ولأوساط الناس الذين لا تسعفهم أوقاتهم في ملازمة القرآن ملازمةً تامَّة.
ولا شك أن الإنسان نفسَه يختلف وضعه حينما يكون متفرغًا وحينما يكون منشغلًا بأعمال أخرى، وعلى كل حال القراءة في يومٍ مجرَّبة، وحدَّثنا مَن جرَّبها حتى من المعاصرين، وثبتت عن الصحابة والتابعين.
وبعضهم يذكر أرقامًا لا يحتملها الوقت، فقد ذَكر النووي وابن كثير عن ابن الكاتب الصوفي أنه يختم أربع مرات في الليل وأربع مرات في النهار، وذكر ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) عن سُليم بن عِتْر أنه كان يختم في الليلة ثلاث مرات، وذكر معها قصة أخرى، وهي موجودة في (الجرح والتعديل) عن هذا الرجل، لكن الوقت لا يحتمل ثماني ختماتٍ في اليوم، وإن صحَّح النووي ما جاء عن ابن الكاتب، والله أعلم.