نسيان ما تم حفظه من القرآن الكريم، والتحدُّث بذلك

السؤال
هل نسيان ما تم حفظه من القرآن الكريم والتحدث بذلك يُعد ذنبًا؟
الجواب

في (صحيح البخاري) عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه-، قال: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «بئس ما لأحدهم أن يقول: نَسِيتُ آية كيت وكيت، بل نُسِّيَ، واستذكروا القرآن، فإنه أشد تفصيًّا من صدور الرجال من النعم» [5032].

في (مجموع الفتوى) لشيخ الإسلام: (فإن نسيان القرآن من الذنوب)، وكلام الشيخ يحتمل أنه يأثم بنسيانه، فإنه ذنبٌ من الذنوب التي يأثم بها، ويحتمل أن يكون نسيانه بسبب الذنوب.

ويقول الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): (اختلف السلف في نسيان القرآن، فمنهم مَن جعل ذلك من الكبائر، وأخرج أبو عبيد من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفًا قال: ما من أحدٍ تعلَّم القرآن ثم نسيه إلا بذنبٍ أحدثه)، فصدَّر ابن حجر المسألة بقوله: (فمنهم مَن جعل ذلك من الكبائر)، ثم ذكر خبر الضحاك بن مزاحم موقوفًا عليه قال: "ما من أحدٍ تعلَّم القرآن ثم نسيه إلا بذنبٍ أحدثه"، فهل العقوبة على الذنب الذي أحدثه وتسببتْ له في نسيان القرآن، أم العقوبة على نسيان القرآن نفسه؟ يقول: (لأن الله يقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30]، ونسيان القرآن من أعظم المصائب، واحتجوا أيضًا بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أنسٍ مرفوعًا «عُرضتْ علي ذنوب أمتي فلم أرَ ذنبًا أعظم من سورة من القرآن أُوتيها رجل ثم نسيها»، وفي إسناده ضعف، وقد أخرج أبو داود من وجهٍ آخرَ مرسلٍ نحوَه ولفظُه «أعظم من حامل القرآن وتاركه»، ومن طريق أبي العالية موقوفًا: "كنا نعُد من أعظم الذنوب أن يتعلَّم الرجل القرآن، ثم ينام عنه حتى ينساه"، وإسناده جيد، ومن طريق ابن سيرين بإسنادٍ صحيح في الذي ينسى القرآن: "كانوا يكرهونه ويقولون فيه قولًا شديدًا").

على كل حال حفظ القرآن من أعظم النِّعم على الإنسان، و«الذي ليس في جوفِه شيءٌ من القرآن كالبيت الخَرِب» [الترمذي: 2913]، وبقدر ما يحفظه المسلم من القرآن يكون قدره؛ لأنه كلام الله.

 

هوَ الكتابُ الذي مَن قامَ يقرؤُهُ
 

 

كأنَّما خاطبَ الرحمنَ بالكَلمِ
 

فحفظ القرآن في غاية الأهمية للمسلم، لاسيما طالب العلم.

ومَثَل الذي يحفظ والذي لا يحفظ شبهوه بمن زاده التمر ومَن زاده البُر، فالذي يحفظ كالذي زاده التمر، يمد يده إلى الإناء ويأكل في أي وقت، والذي لا يحفظ كمن زاده البُر يحتاج إلى طحن، ويحتاج إلى عجن، ويحتاج إلى طبخ، ويحتاج إلى غير ذلك من الأمور التي تعوقه عن الانتفاع به في كل وقت، فهو يحتاج إلى وضوء، ويحتاج إلى مكان يجلس فيه ليقرأ، ويحتاج إلى نورٍ ليرى المصحف، بخلاف الحافظ، فالحفظ في غاية الأهمية للمسلم، لاسيما طالب العلم.

والله –جلَّ وعلا- يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، فالقرآن مُيسَّر -ولله الحمد والمِنَّة-، ولكن قد يصد عن الحفظ مع الحرص عليه الكِبر الذي قد لا يُحسه الإنسان من نفسه {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ} [الأعراف: 146].

وفي مقالٍ جميل لمفتي حضرموت عبيد الله السَّقاف، قال: (اتُهِم شيخ الإسلام ابن تيمية بالكِبر، فقلتُ: يستحيل ذلك مع استحضاره للقرآن، فهو على طرف لسانه وأَسَلَةِ بنانه، والله –جلَّ وعلا- يقول: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ}فهذه لفتةٌ طيبة من هذا المفتي. فننتبه لهذا الأمر، والكبر قد يكون خفيًّا في النفس يتكبَّر الإنسان وهو لا يشعر أنه متكبِّر، فعلى الإنسان أن يتفقَّد نفسه ويتفقَّد قلبه، ويتفقَّد تصرفاته.

وعلى كل حال -مثل ما ذكرنا- حفظ القرآن في غاية الأهمية للمسلم، ولا سيما من ينتسب إلى العلم، والمداومة على درسه تُثبِّته، ولا يشتغل بالقراءة نظرًا من المصحف ويستمر على ذلك، فإن ذلك قد يكون سببًا في النسيان، لا سيما إذا خلا عن التدبُّر والترتيل.

 

وحافظْ على درسِ القرانِ فإنَّهُ
 

 

يُليِّنُ قلبًا قاسيًا مثلَ جَلْمَدِ
 

في (منظومة الآداب) لابن عبد القوي، وكلام أهل العلم في هذا الباب كثير، والله أعلم.