شبهة أن هذا الزمن فيه من العلماء ما يكفي

السؤال
ثمَّت سؤال يَعرض في أذهان الكثير من طلاب العلم، وهو أن هذا الزمن فيه من العلماء ما يكفي، فربما زهد في طلبه للعلم في نفسه، مع معرفته التامَّة أنه يسلك طريقه على نهج علمائنا الأجلاء، فيزهد في الاستمرار في طلب العلم، ويزهد في الاستزادة فيه، وربما ينأى بنفسه عن التصدُّر لتعليم الناس والجُهَّال، فهل من كلمة تختمون بها عن حاجة الأمة لعلماء يُنيرون لها دربها في قابل الأيام؟
الجواب

نعم سمعنا مَن يُزهِّد في طلب العلم؛ بسبب وجود الآلات، وتخزين العلوم في الأجهزة الحاسوبية، وأنك بضغطة زرٍّ تَصل إلى ما تريد، وهذا صحيح، لكن مَن أنت؟ وما صفتك بعد بُعدك عن هذا الجهاز؟ وماذا حصَّلتَ من العلم؟!

نقول: هذه الأجهزة لا شك أنها -كما قلنا في الطباعة، وقبل ذلك الكتابة- من العوائق عن التحصيل، والعلم رُتِّبتْ عليه الأجور العظيمة، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وهل هي مثل درجاتنا: نصف ذراع؟ لا، وإنما هي درج الجنة، فكم بين الدرجة والأخرى؟! هذا لا يُرتَّب على شيء سهل يُنال براحةٍ، وبزرٍّ تحصل على كل ما تريد، والعلم -كما قال أهل العلم- فَحْل، لا يَناله إلَّا الفحول من الرجال، ولو كان بهذه السهولة وبهذه البساطة لصار الناس كلهم علماء. فالطالب الذي يعتمد على هذه الأجهزة، وبإمكانه أن يُخرِّج الحديث من عشرين وثلاثين طريقًا، ويجمع ما قيل في هذا الراوي: عشرة أقوال، أو عشرين قولًا، أو أكثر أو أقل بثانيةٍ واحدة، وبضغطة زرٍّ، لكن ما الذي يثبت في حافظته بعد ذلك؟! العلم يحتاج إلى نَقْر في القلوب، ويحتاج إلى معاناة وعصر، وكلما تيسَّرتْ أسبابه بَعُد مناله، وأُشبِّه ذلك بمَن يمشي على قدميه، وبمَن يمشي على سيارة في الشوارع العامة التي فيها معالم، فلو مشى الشخص في شارع البطحاء -مثلًا- على قدميه، من شماله إلى جنوبه، فإذا انتهى فكم ثبت في ذهنه من هذه المعالم؟ لأنه يمشي بالتأني، وينظر هذا، ويقرأ هذا، وهو في طريقه، لكن الذي على سيارة ويسير بها بسرعة مائة كيلو هل يثبت في ذهنه العُشر، أو نصف العُشر؟ لا يثبت ولا عُشر العشر، وهكذا إذا كان العلم مأخوذًا بالتدرُّج، وعلى الجادَّة المعروفة المتَّبعة عند أهل العلم، فلا شك أنه سيثبت، والأجور العظيمة التي رُتِّبتْ عليه لا يمكن أن تحصل بهذه السهولة، والواقع يشهد بذلك.

وهذه الآلات يُستفاد منها بلا شك في اختبار العمل، فأنت -مثلًا- خرَّجتَ الحديث بطريقتك، وبرجوعك إلى المراجع بنفسك، وجمعتَ ما استطعتَ عليه من الطرق، ونقلتَ ما قيل في الرواة من أقوال أهل العلم، وخشيتَ أن تكون قد نسيتَ شيئًا، أو غاب عنك شيء في مرجع لم يقع بين يديك، فاضغط زِرَّ الجهاز، وكمِّل بحثك، وسوف يثبت في ذهنك هذا التكميل؛ لأن قلبك خالٍ منه، وأنت محتاج إليه. وأيضًا خطيبٌ بقي على دخوله للخطبة زمن يسير لا يُمكِّنه من تخريج حديث هو محتاج إليه في الخطبة، فيُراجعه في هذه الآلات، أما أن تكون أساسًا للتعلُّم فلا.

فالعلماء لا غنى عنهم، فلا يمكن أن يستغني عنهم الناس، وتصوَّر نفسك في بلد ما فيه علماء، واحتجتَ إلى مسألة أو نازلة في عباداتك، أو في معاملاتك، فمَن يُرشدك؟ والآجرِّي في (أخلاق العلماء) قال: (إن مَثَل العالم كمَثَل قوم مشوا في ليلة ظلماء، في وادٍ مليء بالأشجار، والأشواك، والدَّواب، والسباع، ثم جاء شخص معه مصباح وتقدَّمهم، فماذا يكون فضله عليهم؟)، لا شك أن فضله عليهم عظيم؛ لأنها مَهلكة، إن نجا من شجرة ما نجا من أفعى، وإن نجا منها ما نجا من سبع، وإن نجا منه ما نجا من كذا، أو عثر في طريقه وانكسر، المقصود أن حاجة الأمة إلى أهل العلم ضرورة ومُلحَّة، فلا يمكن أن يُستغنى عنهم.