مدى دقَّة القرطبي في نسبة المذاهب لأهلها، وعنايته بالمذهب الحنبلي

السؤال
ما مدى دقَّة الإمام القرطبي في نسبة المذاهب الفقهية لأصحابها؟ وهل صحيح أن القرطبي قليل العناية بمذهب الإمام أحمد، مقارنة ببقية المذاهب؟
الجواب

أولًا: هو التزم إضافة الأقوال إلى قائليها، وذَكر عن بعض السلف أن مِن بركة العلم إضافة القول إلى قائله، فهو يعتني بها، ويذكر المذاهب الأربعة، لكن ليس على حدٍّ سواء، فعنايته بالمذهب المالكي أكثر من عنايته بالشافعي؛ لأنه مذهبه، ولا يُلام، وعنايته بالمذهب الشافعي مُقارب لعنايته بمذهب الحنفية، لكن ذِكر مذهب الإمام أحمد موجود على قِلَّة، وذلك أولًا: لأن اشتهار المذهب في الأندلس وفي الأقطار والأصقاع البعيدة أقل من اشتهاره في وسط الأمة، فهو مشتهر في مصر، ومشتهر في الشام أكثر، لكن اشتهاره في الأندلس، أو في المشرق، أقل، حتى إن مِن هؤلاء مَن يُنازع في جعل مذهب الإمام أحمد مذهبًا فقهيًّا، وإمامهم أبو عمر ابن عبد البر -رحمه الله- لمَّا صنَّف في مناقب الأئمة صنَّف (الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء) -رحمهم الله-، فجعلهم ثلاثة، ولم  يجعل الإمام أحمد -رحمه الله- منهم، وهو معدود عنده من المحدِّثين، لا من الفقهاء.

ثانيًا: أتباع المذهب الحنبلي أقل من أتباع غيره من المذاهب؛ لأن المذاهب الأخرى تبنَّتها دول، ورُتِّب عليها حظوات عند الخلفاء، أمَّا مذهب الإمام أحمد فما تبنَّاه أحد إلا هذه الدولة المباركة -الدولة السعودية-، وانتشر على يديها، وإلَّا كان الحنابلة قِلَّة بالنسبة للمذاهب الأخرى، فلو نظرتَ إلى المشرق قاطبة تجدهم كلهم أحنافًا، والمغرب مالكية، والشافعية في الوسط، فما بقي للحنابلة موضع، لكن على كل حال هو موجود، وهو مذهب من المذاهب.

ومع الأسف أننا لو نظرنا إلى كتب أحكام القرآن، وبحثنا عن كتاب في أحكام القرآن عند الحنابلة، ما وجدنا شيئًا الآن، نعم القاضي أبو يعلى -رحمه الله- له كتاب في أحكام القرآن، لكن أين هو؟ وقسم القرآن وعلومه في كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود طرحوا مشروع (أحكام القرآن من خلال كتاب المغني)، يعني: على مذهب الحنابلة، ووقفتُ على رسالة متأخرة لطالبة علم أيضًا فيها تفسير آيات الأحكام على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، فهذا يَسدُّ ثغرة.

وأنا أقول لطلاب العلم: لا تنتظروا أحدًا يُؤلِّف، فكل طالب علم يأخذ كتاب (أحكام القرآن) لابن العربي، أو للجصاص، أو للقرطبي مع طوله، ويضيف المذهب من كتب الحنابلة، وينتهي الإشكال، ونصير بهذا ألَّفنا في أحكام القرآن على مذهب الإمام أحمد، ويستفيد طالب العلم من هذه المعاناة ثبات العلم؛ لأن الإنسان لو ينتظر غيره فلن يُدرك علمًا، مثل اختصار الكتب، فأنت تقول: (قرأتُ "تفسير الطبري" كله، وما ثبت عندي شيء)، أو (قرأتُ "فتح الباري"، وأحاول أن أتذكر فما أذكر شيئًا)، نقول: خذ ورقة وقلمًا، واختصر الكتاب، ولا تعتمد على اختصار فلان أو علان، فلـ(تفسير ابن كثير) ما يقرب من عشرة مختصرات، ودائمًا أقول للشباب الذين يسألون -لا سيما مَن تأهَّل منهم- ويقولون: (على أي مختصرٍ نعتمد؟)، أقول: اعتمد على مختصرك أنت؛ لأنك إذا قرأتَ (ابن كثير) ولخَّصتَه، وحذفتَ منه ما لا ترى أهميته، وأبقيتَ ما ترى أهميته، صار علمك بما حذفتَ كعلمك بما أثبتَّ، وهذا مهم لطالب العلم، أمَّا إذا قرأتَ في المختصرات فيفوتك أشياء هي في نظر المُختصِر لا قيمة لها، لكنها عندك أنت يمكن أن تكون أهم مما أثبتَّ، وهذا موجود في المختصرات، فأنت تركِّز في المعلومة التي أمامك، وفي الآية، وفي تفسير الآية، وما قاله المفسِّر عنها، وقل مثل هذا في كل العلوم، فتركِّز، وتُثبِت، وتحذف، بعد نظر ورويَّة وتتثبُّت مما ذكرتَ ومما حذفتَ، فبهذا تهضم الكتاب الأصلي، وتفهمه، وتكون على ذِكر من جميع مسائله، ويخرج لديك مختصر، ولو لم يكن للناس، لكنك استفدتَ فائدة كبرى، وبالمعاناة يثبت العلم.