كتب علل الحديث، والمنهجية في التدرج في هذا العلم

السؤال
ما أفضل كتاب في علل الحديث؟ وما المنهجية في التدرج في هذا العلم؟
الجواب

علل الحديث علم دقيق خفيٌّ غامض لا يتصدَّى له إلا القلائل من أهل هذا الفن، ولم يتصدَّ له بالفعل إلا العدد القليل من أهل العلم، ولا يتسنَّى لكل طالب علم أن يتكلم فيه، تكلم فيه الأئمة الكبار في ثنايا كتبهم وفي سؤالاتهم وفي مصنفاتهم الخاصة، فالبخاري يشير إلى بعض العلل، ومسلم كذلك، والنسائي يُكثر من ذلك في تراجم كتابه، والترمذي كذلك -رحم الله الجميع-، وهناك مصنفات خاصة في العلل للإمام أحمد، وعلي بن المديني، وابن أبي حاتم عن أبيه وعن أبي زرعة، والدارقطني، وهذه كتب عظيمة جليلة لا يستغني عالم عنها، وأطولها (العلل) للدارقطني، وأشاد الحافظ ابن كثير بهذا الكتاب إشادة بالغة، فهو من أهم ما صُنِّف في هذا الباب، على أن (العلل) لابن أبي حاتم أيضًا في غاية الأهمية، و(العلل) لعلي بن المديني، و(التمييز) لمسلم، كتب كثيرة في هذا الباب، إضافة إلى ما يذكره العلماء في أجوبتهم عن السؤالات المتعلقة بهذا الفن، وما يعقِّب به المصنِّفون للأحاديث كالترمذي –مثلًا-، وما يترجم به النسائي من وجوه الاختلاف على الرواة، هذه كتب مهمة جدًّا، ولا يمكن أن يتدرج الطالب في معرفة هذا العلم إلا من خلالها، ولا شك أن هذا فيه وعورة، وكثير من طلاب العلم يصل إلى حد يقف دون هذا العلم، والجرأة على مثل هذا العلم من غير المتمكن لها آثارها، وهناك إشارات من أهل العلم تدل على صعوبة ووعورة مثل هذا الفن، على كل حال من كانت لديه الأهلية وتَدَرَّج في طلب علم الحديث وحفظ منه القدر الكافي الذي يؤهله لا يوجد ما يمنع من أن يصل، والحافظ ابن رجب -رحمه الله- له إشارات في (شرح علل الترمذي) يحتاجها طالب العلم، لكن لا يجرؤ طالب العلم حتى يتمكن؛ لأن هذا العلم دقيق وخفي وغامض، وفيه صعوبة ووعورة على كثير من طلاب العلم، وأجناس العلل تكثر جدًّا بحيث تصعب الإحاطة بها، فمثلًا الإشارة في حديث «لا نكاح إلا بولي» [أبو داود: 2085] لو طبَّقنا القواعد وقلنا: إن الحديث أرسله شعبة وسفيان، وهما إمامان جبلان في الحفظ، لرجحنا الإرسال، لكن هناك مسألة دقيقة خفية أشار إليها الترمذي في سننه تخفى على كثير من المتعلمين، وقد يوجد لها نظائر في أحاديث حُكم بصحتها أو بضعفها تبعًا لعدم الاطلاع على مثل هذه العلة، فالترمذي أشار إلى أن شعبة وسفيان سمعا الحديث في مجلس واحد، فهما كالراوي الواحد، ولذلك حَكم البخاري -رحمه الله- بوصله مع كون من أرسله كالجبل -كما قال الحافظ العراقي-.

هذه أمور تجعل طالب العلم يتريَّث ويتروَّى ولا يتعجَّل في الأحكام حتى يتمكَّن، وليس هذا من باب التيئيس لكنه من باب الحد من العجلة والهجوم على السنة التي نراها من بعض المتعلمين الذين يجرؤون على التصحيح والتضعيف بمجرد تطبيق القواعد المعتمدة عند المتأخرين، نعم، تُطبَّق القواعد للتمرين، ولا يجرؤ الشخص بالحكم النهائي حتى يتأهل؛ لأنه إن حكم على حديث بالضعف وهو في حقيقة الأمر صحيح أو حسن على الأقل حَرَم الأمة من العمل بحديث ثابت، وإذا كان الأمر بالعكس بأن صحح حديثًا فيه علة لم يَطَّلع عليها لقصوره وتقصيره فإنه حينئذٍ يجعل الأمة تعمل بخبر لم يثبت، وتُرَتِّب عليه حكمًا، وكلاهما خطأ، ويُمثَّل لهذا بمثل تصحيح الحاكم لأحاديث ضعيفة، وحُكْم ابن الجوزي في (الموضوعات) على أحاديث أنها موضوعة وهي في الحقيقة ثابتة، بل منها ما هو في الصحيح، فهذا يَحْرِم الأمة من العمل بحديث صحيح، وهذا يجعل الأمة تعمل بحديث لا أصل له. على كل حال مثل هذه الأمور تجعل طالب العلم يتريَّث ولا يتعجل ولا يستبق ولا يُزَبْزِب قبل أن يُحَصْرِم كما يقول أهل العلم، والله المستعان.

يقول السائل: (ما هي المنهجية في التدرُّج في هذا العلم)؟

التدرُّج في علم الحديث عمومًا بما فيه العلل يكون بضبط القواعد النظرية، وكثرة التمثيل على هذه القواعد، وملاحظة مواقع استعمال الأئمة للمصطلحات، ويقرن بين هذه القواعد النظرية بمواقع الاستعمال عند الأئمة الكبار؛ لأنه قد يحكم على حديث من خلال القواعد النظرية عند المتأخرين فيصح الخبر عنده، ولكنه طَعَن فيه أحد الأئمة الكبار، فلا بد أن ينظر في هذا ويعرضه على هذا، وأيضًا يَعرض ما توصَّل إليه من أحكام على أهل الاختصاص، ويديم النظر في أحكام الأئمة، ويُكثر من الأمثلة، ويتدرج في التطبيق، ويعرض ما توصل إليه، وبهذا تتحصل لديه الملكة التي تعينه على معرفة الأحكام النهائية -إن شاء الله تعالى-.

والمقصود بالمتأخرين هنا: الكتب التي أُلِّفت بعد القرون المفضلة، ويجعلون الحد الفاصل بينها مؤلفات الخطيب التي بعضهم يجعلها من المتأخرين وبعضهم يجعلها من المتقدمين، على كل حال المتقدمون معروفون، والذهبي والنووي والعراقي وابن حجر هؤلاء هم المتأخرون.

بعض المنتسبين إلى علم الحديث يدعو إلى نبذ قواعد المتأخرين بالكلية، وعدم الالتفات إليها، والعمل كله على طريقة المتقدمين، ولا شك أن المتأخرين عالة على المتقدمين، والمتقدمون هم الأصل، لكن الطالب المبتدئ لا يمكن أن يُؤمر بالنظر في قواعد المتقدمين واصطلاحاتهم قبل أن يمر على اصطلاحات المتأخرين وينظر فيها ويطبق عليها ويتمرن عليها، كمن يدعو طالبًا مبتدئًا إلى الاجتهاد من الكتاب والسنة من غير نظر في أقوال أهل العلم وأحكامهم، وهذا في الحقيقة تضييع لطالب العلم، أما إذا تدرَّج وتأهل وحاكى المتقدمين في معرفته وإحاطته بالنصوص مثل هذا فرضه أن يجتهد ولا يقلِّد الرجال، سواء كان في علم الحديث، أو في الفقه، أو حتى في علوم العربية كالبلاغة، أو في غيرها، فالمسألة تدرُّج وجري على قواعد المتأخرين للتمرين، بحيث يتعود عليها، وإذا تأهل لمحاكاة المتقدمين كان فرضه الاجتهاد في جميع العلوم.