تفسير قول الله تعالى: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}

السؤال
ما تفسير قول الله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79]؟
الجواب

في قوله –جلَّ وعلا-: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران: 79] الرباني منسوبٌ إلى الرب أو منسوبٌ إلى التربية كما قال ذلك جمعٌ من أهل العلم، ولذا قالوا في تفسيره: هو الذي يُربِّي الناس بصغار العلم قبل كباره، يعني: يتدرَّج في تعليمهم في العلوم الصغيرة والمسائل الصغيرة أو المتون الصغيرة، ويتدرَّج بهم حسب تطوُّر أفهامهم إلى ما هو أكبر منها، ثم ما يليه من العلوم التي هي أطول وأصعب، وهذه هي طريقة أهل العلم، يتدرَّجون في تعليم الطلاب على حسب طبقاتهم، حيث صنَّفوا الطلاب إلى مبتدئين يُعلَّمون صغار العلم ومتون العلم الصغيرة وتُشرَح لهم، ثم إذا أتقنوها وضبطوها وحفظوها نُقِلوا إلى كُتب الطبقة الثانية التي هي أرفع من هذه الطبقة، وتكون الكتب أطول وأمتن، يعني: أصعب في الفهم، مناسبةً لتطوُّر أسنانهم وأفهامهم، ثم بعد ذلك يُنقلون إلى الطبقة المتقدمة، بحيث يؤهَّلون للتعليم وللفُتيا وللقضاء ولغيرها مما يحتاجه الناس من أهل العلم.

وقال الحافظ ابن كثير: (وقوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}، أي: ولكن يقول الرسول للناس: كونوا ربانيين، قال ابن عباس وأبو رزين وغير واحدٍ أي: حكماء علماء حلماء، وقال الحسن وغير واحدٍ: فقهاء، وكذا روي عن ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء الخراساني، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، وعن الحسن أيضًا: يعني: أهلَ عبادةٍ وأهلَ تقوى. قال الضحاك: في قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}: حَقٌّ على من تعلم القرآن أن يكون فَقيهًا، (تَعلمون) أي: تفهمون معناه، وقُرئ: {تُعَلِّمُونَ}).

الحافظ ابن كثير قدَّم القراءة الأولى (تَعلمون)، ثم قال: (وقُرئ: {تُعَلِّمُونَ})، مما يدل على أن القراءة التي اعتمدها ابن كثير غير القراءة المعتمدة عندنا: حفص عن عاصم، وكثيرًا ما يعتمد قراءة أبي عمرو، وهي المعتمدة في بلاد الشام، وأحيانًا يعمد إلى قراءة نافع كما هو شأن كثير من المفسرين كالقرطبي والشوكاني وغيرهم.

وهذه مسألة ينبغي أن يتنبَّه لها طالب العلم، وأن يعرف القراءة التي اعتمدها المفسِّر، فإذا عَرف أن المفسِّر اعتمد قراءةً مثل ما عندنا الآن: قدَّم (تَعلمون)، ثم قال: (وقُرئ: {تُعَلِّمُونَ})، مع أن {تُعَلِّمُونَ} سبعيَّة، فالذين يطبعون كتب التفسير يطبعون الآيات على مقتضى ما في بلدهم، فإذا طُبِع الكتاب في بلدٍ جرى على قراءة حفصٍ عن عاصم أدخلوا الآيات على قراءتهم، وغفلوا عن قراءة المُفسِّر، فيحصل ارتباك، وقُل مثل هذا في كُتب الحديث، الشارح اعتمد رواية، والطابع اعتمد رواية أخرى، كما هو الشأن في (فتح الباري) الذي اعتمد الحافظ ابن حجر فيه رواية أبي ذر، وأشار إلى ما عداها عند الحاجة، فالطابع طبع المتن مع (الفتح) بروايةٍ لم يعتمدها ابن حجر، وحصل الاختلاف بين الشرح والمشروح، فقد يُوجد في رواية أبي ذر كلمة تختلف عن الكلمة التي طُبِع بها المتن مع (فتح الباري)، وهذا كثير، ويُوقِع في لبس، وأحيانًا تكون اللفظة الموجودة في المتن المطبوع غير موجودة في رواية أبي ذر، فيُبحَث عنها ويُقال: ما شرحها الشارح!

على كل حال ينبغي أن يتنبَّه لمثل هذا سواء كان في كتب التفسير فتُعتمد القراءة التي اعتمدها المفسِّر، أو في كُتب الحديث فتُعتمد الرواية التي اعتمدها الشارح، والله أعلم.