كتاب العلم (02)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا سؤال يعاني منه كثير من طلاب العلم، يقول: ما هي الطريقة الصحيحة المفيدة لتحصيل العلم الشرعي، علمًا بأنني أحضر دروس العلم، ولكن بعد الدوام الشاق، وتكون نسبة الاستيعاب والانتباه قد ضعفت، وهنا يوسوس الشيطان بأن العلم الشرعي وطلب الدنيا لا يجتمعان؟ فأرجو النصيحة والتوجيه إلى أقصر الطرق المفيدة لتحصيل العلم.
ما فيه شك أن الناس في السابق عندهم وفرة في الوقت، والآن يعاني الناس من شح في الوقت، ودروس الحياة اختلفت، ومطالب الناس ازدادت، فالحياة الآن صعبة. أدركنا أناسًا يفدون إلى المدن، وينامون في المسجد، ويبيتون ويعيشون في المسجد، ويلزمون الدروس في هذا المسجد ....... يلزمون الدروس في المسجد خمسة الأوقات، وقد يخرجون إلى مساجد أخرى، لكن في غرفة من المسجد يؤتى لهم بشيء يسير من الطعام قوت لهم يكفيهم يومهم، والحياة تنتهي إلى هذا الحد. لكن الآن هل أحد يتصور أن أحدًا يعيش بهذه الطريقة؟ ما يمكن، فلا بد حينئذٍ أن يعمل عملاً بيده يحفظ به ماء وجهه، ويستعين به على أداء الهدف الذي من أجله خُلق، وهو تحقيق العبودية لله -جَلَّ وعَلا-، ومن أعظم أبواب العبودية بعد الفرائض تحصيل العلم الشرعي.
على كل حال الآن في الظروف التي نعيشها على الإنسان أن يسدد ويقارب ويجد ويجتهد، في الأمرين الأول طلب ما يقيم أوده وحاجته، ويعين على تحقيق هدفه من أمور الدنيا بقدر الحاجة، وإن كانت الحاجة زادت الآن، تجد من يعيش على الزكاة والصدقات تجده في حياته لا فرق بينه وبين غيره، في بيته جميع الآلات المطلوبة، وعند أطفاله خمسة، ستة، عشرة كلهم عندهم من الأجهزة الغالية الثمن مثل أولاد الأغنياء سواء بسواء، وكلهم عندهم جوالات وحريم وبنات، من الزكاة، بحجة أنه لا يمكن أن يعيش من دون الناس، ولا شك أن هذا المحتاج إذا ترك أولاده بدون وسائل الترفيه التي مع الناس خسرهم، وما استطاع أن يسيطر عليهم، فهذه مشكلة، والموازنات لا بد منها، والنظر في المصالح والمفاسد لا بد منها. كنا نسمع قبل أربعين سنة أن الثلاجة والمكيف والسيارة وغيرها من الأمور هذه ليست ضرورية، ولا يجوز أخذ الزكاة من أجلها، لكن من يعيش بلا ثلاجة اليوم أو مكيف؟ صارت ضرورات، بل أهم من كثير من الضروريات هذه الكماليات.
المقصود أن طالب العلم عليه أن يحرص على العلم وعلى تحصيل العلم، ويستعين على تحصيله بالنية الصالحة الصادقة مع شيء من التعبد ولزوم التقوى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 282]. أما ترك العلم بالكلية فهذا حرمان ونكوص وحور بعد الكور، هذا لا يصلح أبدًا وليس بعلاج. قد يحتاج في وقت من الأوقات إلى تخفيف بعض الشيء لأمر انتابه من أمور الدنيا، هذا شيء. لكن كونه يترك هذا ليس بحل، نعم يأخذ شيئًا من أمور الدنيا؛ ليستعين به ويسدِّد ويقارب، والآن الوسائل كثرت وتيسَّرت، الإنسان وهو مضطجع في فراشه يسمع العلم من كلام الشيخ كأنه حاضر عنده، يسمع المناقشات ويسأل، وإذا كان في الجهاز في الإنترنت وغيره بإمكانه أن يسأل من خلال الجهاز هذا ويجاب على سؤاله مع أسئلة الناس، وهذا مجرب.
على كل حال بقدر ما عندنا من الشواغل والصوارف، عندنا من التيسير لتحصيل العلم ما عندنا. فالموفَّق يستطيع أن يوفق بين أمور الدنيا وأمور الدين، ولا رأينا أكثر أعمال ومشاغل من الشيخ ابن باز -رَحِمَهُ اللهُ-، ولا رأينا أكثر منه عطاءً وبذلاً في سبيل الله. التوفيق من الله- جَلَّ وعَلا-.
نحن نعرف طلاب علم شبابًا لهم نصيبهم من التهجد، لهم نصيبهم من قراءة القرآن، ولهم نصيبهم من زيارة القبور والصلوات على الجنائز وزيارات المرضى وبر الوالدين وصلة الأرحام، ومع ذلك عملهم مثل عمل الناس ما يختلف، مثل عمل الناس إما طالب في الجامعة أو في المعهد، أو مدرس مستغرق كل وقته، جل وقته مستغرق، ومع هذا عنده هذه الأمور، ونعرف من شيوخنا من يداوم الدوام الرسمي كاملاً من ثمان إلى ثنتين، وعنده دروس في المساء، ويختم كل يوم، ومنهم من يختم كل ثلاث. التوفيق لا حد له، والحرمان لا نهاية له، فاختر لنفسك. فالإنسان إذا صدق مع الله -جَلَّ وعَلا- وعزم على تحقيق الأمرين، على أن الأمر الثاني هو الأصل: تحقيق العبودية، والأمر الأول ليس بهدف، لكنه يعين على تحقيق الهدف ولا بد منه. والله المستعان.
نعم.
طالب: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم اغفر لنا ولشيخنا والسامعين يا ذا الجلال والإكرام.
قال الإمام أبو عبد الله -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: "بَابُ مَنْ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالعِلْمِ.
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ عَارِمُ بْنُ الفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ عَنَّا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا -وَقَدْ أَرْهَقَتْنَا الصَّلاَةُ- وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ، فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا".
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فيقول الشارح -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: (قوله: باب من رفع صوته بالعلم. قال: حدثنا أبو النعمان، زاد الكشميهني في رواية كريمة عنه: عارم بن الفضل، وعارم لقب، واسمه محمد) ابن الفضل، يقول الشارح: (كما تقدم في المقدمة). كنيته أبو النعمان، واسمه محمد بن الفضل، وكنيته عارم.
(قوله: ماهَك بفتح الهاء وحكي كسرها، وهو غير منصرف عند الأكثرين؛ للعلمية والعجمة، ورواه الأصيلي منصرفًا فكأنه لحظ فيه الوصف)، والأعجمي يصرف إذا استُعمل في الأعجمية وصفًا، واستُعمل في العربية عَلمًا، لكن إن كان استعماله عَلمًا في العربية والأعجمية مُنع من الصرف. حدثنا عبد الله بن سياهٍ، مصروف لماذا؟ لأنه كان استعماله في الوصفية، وصف في الأعجمية فليس بعلم فيصرف، والذي يُمنع من الصرف ما استُعمل في الأعجمية علمًا، فللعلمية والعجمة يُمنع من الصرف، وهذا وصف، ومثله ماهك.
(ورواه الأصيلي منصرفًا، فكأنه لحظ فيه الوصف. واستدل المصنف على جواز رفع الصوت بالعلم بقوله: فنادى بأعلى صوته)، ومعلوم أن الصوت إنما يُطلب بقدر الحاجة، والأصل خفض الصوت، في القراءة: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]، بين بين، وكذلك في العلم وغيره، والحديث العادي لا يُرفع فيه الصوت إلا بقدر ما يُحتاج إليه، وجاء: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19]. لكن عند الحاجة يُرفع الصوت، الحاجة تُقدر بقدرها. وإذا احتيج إلى مستملين لأن المبلِّغ مهما صوَّت ورفع صوته لا يُسمع يستعمل المستملين، ويستعين بالمستملين الذين يبلِّغون عنهم، وفي مقامهم، ويؤدي الغرض من المستملين مكبرات الصوت التي أراحت كثيرًا. لكن نسمع في بعض المساجد رفع الصوت بالمكبرات رفعًا مزعجًا ومؤذيًا للمصلين، وبعض الناس يُصاب بصداع من رفع الصوت، تجد المسجد صغيرًا، والجماعة نصف صف، ويبلغ القاصي والداني، ما له داعٍ. هذا لا شك أنه ممنوع. ورفع الصوت مقلق.
تسمعون في الأجراس التي في البنايات الحديثة إذا حصل أدنى خلل مفزعة ومقلقة ومؤذية، ويكون مثل هذا في أصوات المصانع وأزيز الطائرات وغيرها، أمم أُهلكت بالصيحة. فرفع الصوت خلاف الأصل، لكن إذا احتيج إليه فلا مانع منه، والنبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- رفع صوته؛ ليسمع البعيد، وذكروا عن العباس بن عبد المطلب أنه كان جهوري الصوت، حتى قالوا: إنه يُسمع من تسعة فراسخ، ولكن هذا كلام فيه ما فيه، ذكروا هذا، قالوا: إنه يُسمع من بُعد تسعة فراسخ، لكن الظاهر أن هذا يحتاج إلى موصل إما إذاعة أو .......
طالب: .......
لكن تسعة فراسخ؟ تدري إلى أين؟ ....... مائة وأربعة. المقصود أنه يوصل إلى أربعين كيلو أو شيء من هذا، ما أظن هذا. يعني الناس قبل مكبرات الصوت وقبل الموانع من المؤثرات المزعجة مكيفات وسيارات ومصانع، كانوا يسمعون الأذان من كيلو مترين، حدَّدوه بكيلو مترين، ولذلك تلزم الإجابة إذا كان بينه وبين المسجد كيلو متران فأقل؛ لأن المطلوب السمع العادي من غير وسائل مكبرة ومن غير موانع مؤثرة.
بالمستملين، والمستملي كما يُستعمل في العلم- وهذا كثير عند من تكثر عندهم الجموع- قد يُستعمل عشرات المستملين، كل واحد يبلِّغ الثاني. وأيضًا هو موجود في مجالس الكبار قبل التليفونات وقبل المكبرات، تجد الكبير في مجلسه يصوِّت لو بغى شيئًا، والذي عند الدرج القريب يصوِّت، والذي على الدرج يصوِّت، هذا يسمع هذا، وذاك يسمع ذاك، ويسمع من في الدور الثالث بالمستملين، وهذه طريقة متبعة وسنة متبعة عند أهل الحديث.
المقصود أن رفع الصوت بالعلم عند الحاجة إليه إذا دعت إليه الحاجة يصير حكمه حكم تبليغ العلم.
(واستدل المصنف على جواز رفع الصوت بالعلم بقوله: فنادى بأعلى صوته، وإنما يتم الاستدلال بذلك حيث تدعو الحاجة إليه؛ لبُعد أو كثرة جمع أو غير ذلك، ويلتحق بذلك ما إذا كان في موعظة كما ثبت ذلك في حديث جابر: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته) واحمر وجهه حتى كأنه منذر جيش يقول: «صبَّحكم ومسَّاكم» كما في صحيح مسلم. (أخرجه مسلم، ولأحمد من حديث النعمان في معناه وزاد: حتى لو أن رجلاً بالسوق لسمعه. واستُدل به أيضًا على مشروعية إعادة الحديث؛ ليفهم)؛ لأنه قال: «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثًا، كرَّر ليفهم عنه ويحفظ.
(وسيأتي الكلام على مباحث المتن في كتاب الوضوء إن شاء الله تعالى).
لأنه في غسل الأعقاب، وعيد على ترك شيء مما يجب غسله كالأعقاب، والتنصيص عليها؛ لأنها بصدد أن يُتساهل فيها ، ويُنسى، أو لا يُرى، وما أشبه ذلك، فلا بد من التأكد من إسباغها.
(قال ابن رشيد في هذا التبويب رمز من المصنف إلى أنه يريد أن يبلغ الغاية في تدوين هذا الكتاب بأن يستفرغ وسعه في حسن ترتيبه، وكذلك فعل -رحمه الله تعالى-)، هذا قريب أم بعيد؟
طالب: .......
(في هذا التبويب رمز من المصنف إلى أنه يريد أن يبلغ الغاية) يعني مثل رفع الصوت ليبلغ الغاية التي يريد أخذًا من هذا، (ليبلغ الغاية في تدوين هذا الكتاب بأن يستفرغ وسعه في حسن ترتيبه)، كما فعل النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- في استفراغ وسعه؛ من أجل تبليغ العلم، فالبخاري يريد أن يبلغ هذا العلم بأقصى ما يمكن وما يُستطاع من طاقة البشر، (وكذلك فعل- رحمه الله تعالى-) هذا مما يُستملح في العلم، وإلا ما بني الكتاب من أجل هذا، والعلم عند الله -جَلَّ وعَلا-.
طالب: "بَابُ قَوْلِ المُحَدِّثِ: حَدَّثَنَا، أوَ أَخْبَرَنَا، وَأَنْبَأَنَا. وَقَالَ لَنَا الحُمَيْدِيُّ: كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا، وَأَخْبَرَنَا، وَأَنْبَأَنَا، وَسَمِعْتُ وَاحِدًا".
وعند الإمام البخاري كذلك لا يفرِّق بين هذه الصيغ، بخلاف الإمام مسلم وما استقر عليه الاصطلاح من التفريق بين التحديث والإخبار.
طالب: "وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الصَّادِقُ المَصْدُوقُ. وَقَالَ شَقِيقٌ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَلِمَةً. وَقَالَ حُذَيْفَةُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدِيثَيْنِ. وَقَالَ أَبُو العَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ. وَقَالَ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ -عَزَّ وَجَلَّ-.
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ المُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ»، فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوَادِي، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ»".
الباب معقود من الإمام البخاري لبيان صيغ الأداء والفروق بينها، فقول المحدث: حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا، وسمعت، ويرويه، أو رواية، أو ينميه، أو يبلغ به، أو رده إلى فلان، هذه من أندر الصيغ: رده إلى فلان. الإمام البخاري -رَحمةُ اللهِ عَليهِ- لا يفرق بين حدثنا وأخبرنا، وجمع من أهل العلم وعليه استقر الاصطلاح، وأول من فرَّق بين التحديث والإخبار بمصر ابن وهب كما قال أهل العلم، والإمام مسلم يفرِّق بينهما بدقة، يتتبع الصيغ من الرواة، ويذكر الفروق بينها، واستقر عليه الاصطلاح، وأن حدثنا تقال فيما إذا كانت طريقة التحمل السماع من لفظ الشيخ، والإخبار فيما إذا كانت طريقة التحمل القراءة على الشيخ. قد يكون في الاستدلال لهذا التفريق من اللغة شيء من العسر، والتحديث والإخبار: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]. فالتفريق من حيث اللغة العربية بين هذه الأمور فيه شيء من العسر. لكن هناك وجوه من الفروق بين اللفظين، فهي ليست مترادفة من حيث المعنى، فالإخبار أوسع من التحديث، التحديث خاص بالكلام والإخبار بما هو أعم من الكلام، إما بإشارة أو كتابة أو نصب علامة، كلها يحصل به الإخبار، من أخبرني بكذا فهو حر، فأشار إليه أو كتب له أو نصب علامة تدل على ذلك، يعتق. لكن من قال: حدثنا فإنه لا يعتق حتى يتلفظ بالخبر.
يقول الشارح -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: (قوله: باب قول المحدث: حدثنا وأخبرنا وأنبأنا. قال ابن رشيد: أشار بهذه الترجمة إلى أنه بنى كتابه على المسندات المرويات عن النبي -صلى الله عليه وسلم-) ولذلك ما قيل: كل خبر ليس فيه حدثنا وأخبرنا فهو خل وبقل، يعني لا شيء، فدل على أن الإسناد إنما يتم بهذه الصيغ، وما خلا عن هذه الصيغ فليس بإسناد.
(قلت: ومراده هل هذه الألفاظ بمعنًى واحد أم لا؟) التعبير صحيح أم الأصل أن يقال: أو لا؟ وأم إنما يؤتى بها بعد همزة التسوية: أو همزة عن لفظ أي مغنية، لكن جاء في الصحيح من حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «هل تزوجت بكرًا أو سيبًا؟».
طالب: في القرآن {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: 140] .......
{أَأَنْتُمْ}.
طالب: .......
الكلام على هل، هل تأتي بعدها أم أو ما تأتي؟
(قلت: ومراده هل هذه الألفاظ بمعنى واحد أم لا؟ وإيراده قول ابن عيينة دون غيره دال على أنه مختاره) هو يختار عدم التفريق، ابن عيينة كذلك.
(قوله: وقال الحميدي في رواية كريمة والأصيلي، وقال لنا الحميدي) قال الحميدي، وقال لنا الحميدي، ما الفرق بينهما؟ الحميدي شيخه الذي تحمل عنه بصيغة قال، قال بعضهم: إنه يتعين أن يكون تحمَّله بطريق المذاكرة لا بطريق الرواية، مع أن ابن حجر في مواضع صرَّح بأنه لا دليل على ذلك.
(وكذا ذكره أبو نعيم في المستخرج فهو متصل) قال لنا؛ لأن قال حكمها حكم العنعنة، حتى لو ما فيها لنا وقلنا: إن حكمها حكم العنعنة، قال هنا محمولة على الاتصال؛ لأنه شيخه، الحميدي شيخ البخاري، روى عنه أحاديث، وصرح بالتحديث عنه، والبخاري لم يوصف بتدليس.
(وسقط من رواية كريمة قوله وأنبأنا، ومن رواية الأصيلي قوله أخبرنا، وثبت الجميع في رواية أبي ذر.
قوله: وقال ابن مسعود، هذا التعليق طرف من الحديث المشهور في خلق الجنين، وقد وصله المصنف في كتاب القدر، ويأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله تعالى) حديث مشهور ومحفوظ لدى الكبار والصغار؛ لأنه من الأربعين.
(قوله: وقال شقيق) شقيق بن سلمة أبو وائل صاحب ابن مسعود.
(هو أبو وائل، عن عبد الله هو ابن مسعود، سيأتي موصولاً أيضًا حيث ذكره المصنف في كتاب الجنائز، ويأتي أيضًا حديث حذيفة في كتاب الرقاق) قال حذيفة: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
(ومراده من هذه التعاليق أن الصحابي قال تارةً: حدثنا، وتارةً: سمعت، فدل على أنهم لم يفرقوا بين الصيغ) لا شك أن التفريق على ضوء الاصطلاح حادث؛ ليختص كل لفظ بمعنى مستقل.
(وأما أحاديث ابن عباس وأنس وأبي هريرة في رواية النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه) يعني من الأحاديث القدسية فيما يرويه عن ربه.
(فقد وصلها في كتاب التوحيد) يعني الإمام البخاري في كتاب التوحيد من صحيحه.
يعني من بعده.
(وأراد بذكرها هنا التنبيه على العنعنة، وأن حكمها الوصل عند ثبوت اللقي) هذا اختياره- رَحِمَهُ اللهُ-، ومسلم يكتفي بالمعاصرة، وصحَّحوا فصل معنعن سلم من دلسة راويه واللقى علم، هذا اختيار البخاري.
(وأشار على ما ذكره ابن رشيد إلى أن رواية النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هي عن ربه سواء صرَّح الصحابي بذلك أم لا، ويدل له حديث ابن عباس المذكور فإنه لم يقل فيه في بعض المواضع عن ربه، ولكنه اختصار، فيحتاج إلى التقدير.
قلت: ويستفاد من الحكم بصحة ما كان ذلك سبيله صحةُ الاحتجاج بمراسيل الصحابة) مراسيل الصحابة عامة أهل العلم على أنها حجة، وأن حكمها حكم الوصل:
أما الذي أرسله الصحابي فحكمه الوصل على الصواب
خالف في ذلك نذر يسير من أهل العلم؛ منهم أبو إسحاق الإسفراييني ومعه قليل قالوا: إن حكمها حكم غيرها، مراسيل الصحابة؛ لأنه قد يروي عن تابعي ويسقطه وهذا التابعي، يحتمل أن يكون ثقة، وأن يكون غير ثقة، لكن الصحيح ما عليه عامة أهل العلم، بل نُقل عليه الإجماع؛ لأن حكمها حكم الموصولات.
(لأن الواسطة بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين ربه فيما لم يكلِّمه به مثل ليلة الإسراء) مكافحة بدون واسطة، فالواسطة هو (جبريل، وهو مقبول قطعًا، والواسطة بين الصحابي وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- مقبول اتفاقًا وهو صحابي آخر، وهذا في أحاديث الأحكام دون غيرها، فإن بعض الصحابة ربما حملها عن بعض التابعين مثل كعب الأحبار) يعني يستثنون من ذلك من عُرف بالتلقي عن أهل الكتاب، لكنه إذا صرَّح بنسبه ورفعه للنبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- فلا يرد مثل هذا الاحتمال.
(تنبيه: أبو العالية المذكور هنا هو الرِّياحي بالياء الأخيرة، واسمه رُفيع بضم الراء، ومن زعم أنه البرَّاء بالراء الثقيلة فقد وهم) أبو العالية البراء بالتشديد؛ لأنه يبري السهام، والبراء فعَّال صيغة مبالغة.
(فإن الحديث المذكور معروف برواية الرياحي دونه، فإن قيل فمن أين تظهر مناسبة حديث ابن عمر للترجمة ومحصل الترجمة التسوية بين صيغ الأداء الصريحة وليس ذلك بظاهر في الحديث المذكور؟ فالجواب أن ذلك يستفاد من اختلاف ألفاظ الحديث المذكور، ويظهر ذلك إذا اجتمعت طرقه، فإن لفظ رواية عبد الله بن دينار المذكور في الباب: فحدثوني ما هي، وفي رواية نافع عند المؤلف في التفسير: أخبروني، وفي رواية عند الإسماعيلي: أنبئوني) والقصة واحدة، وعبَّر مرة بالإخبار، ومرة بالتحديث، ومرة بالإنباء، فدل على أن معانيها واحدة.
(وفي رواية مالك عند المصنف في باب الحياء في العلم: حدثوني ما هي، وقال فيها: فقالوا أخبرنا بها، فدل ذلك على أن التحديث والإخبار والإنباء عندهم سواء) {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] التحديث والإخبار بمعنى واحد، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14] خبير فعيل قد لا يتم بها الاستدلال؛ لأنه قد لا يراد به المخبر؛ لأن الخبير لو أريد به المخبر تم الاستدلال، المنبئ هو الخبير، لكن الذي يظهر أنه من الخبرة، لا من الخبر.
(وهذا لا خلاف فيه عند أهل العلم بالنسبة إلى اللغة) يعني من حيث اللغة هي معانيها واحدة أو متقاربة، يكون بين الألفاظ بعض الفروق الدقيقة التي لا تؤثِّر في مثل هذا.
(ومن أصرح الأدلة فيه قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]، وقوله تعالى: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، وأما بالنسبة إلى الاصطلاح ففيه الخلاف، فمنهم من استمر على أصل اللغة، وهذا رأي الزهري ومالك وابن عيينة ويحيى القطان)، يعني من غير تفريق بين هذه الصيغ، (وأكثر الحجازيين والكوفيين، وعليه استمر عمل المغاربة، ورجَّحه ابن الحاجب في مختصره، ونُقل عن الحاكم أنه مذهب الأئمة الأربعة) يعني عدم التفريق بين التحديث والإخبار وغيرهما من صيغ الأداء، (ومنهم من رأى إطلاق ذلك حيث يقرأ الشيخ من لفظه وتقييده حيث يُقرأ عليه) يطلق إذا قرأ الشيخ من لفظه، يعني سمعوا من لفظ الشيخ أطلقوا فقالوا: حدثنا وأخبرنا، وإذا قُرئ على الشيخ بإمكانه أيضًا، يقول: حدثنا، ويقول: أخبرنا، لكن بالتقييد: حدثنا قراءة عليه أو فيما قُرئ عليه، أخبرنا قراءة عليه، أو فيما قرئ عليه.
(وهو مذهب إسحاق بن راهويه والنسائي وابن حبان وابن منده وغيرهم، ومنهم من رأى التفرقة بين الصيغ بحسب افتراق التحمل) التحمل أخذ الحديث عن الشيوخ، والأداء تبليغ الحديث إلى الطلاب.
(فيخصون التحديث بما يلفظ به الشيخ، والإخبار بما يقرأ عليه، وهذا مذهب ابن جريج والأوزاعي والشافعي وابن وهب وجمهور أهل المشرق، ثم أحدث أتباعهم تفصيلاً آخر، فمن سمع وحده من لفظ الشيخ أفرد فقال: حدثني، ومن سمع مع غيره جمع) وقال: حدثنا، (ومن قرأ بنفسه على الشيخ أفرد فقال: أخبرني، ومن سمع بقراءة غيره جمع) قال: أخبرنا، (وكذا خصصوا الإنباء بالإجازة التي يشافِه بها الشيخ من يجيزه، وكل هذا مستحسن وليس بواجب عندهم، وإنما أرادوا التمييز بين أحوال التحمل، وظن بعضهم أن ذلك على سبيل الوجوب، فتكلفوا في الاحتجاج له وعليه بما لا طائل تحته. نعم يحتاج المتأخرون إلى مراعاة الاصطلاح المذكور؛ لئلا يختلط).
يحتاج المتأخرون يعني بعد استقرار الاصطلاح، وذهاب عموم المشارقة إلى اعتبار هذا الاصطلاح، يحتاجون إلى أن يفرقوا بين هذه الألفاظ وما تُستعمل فيه من صيغ ومن طرق التحمل؛ لئلا يقعوا في الخطأ.
(لئلا يختلط الأمر؛ لأنه صار حقيقةً عرفيةً عندهم، فمن تجوز عنها احتاج إلى الإتيان بقرينة تدل على مراده، وإلا فلا يؤمَن اختلاط المسموع بالمجاز بعد تقرير الاصطلاح فيحمل ما يرد من ألفاظ المتقدمين على محمل واحد بخلاف المتأخرين) الذين راعوا مثل هذا الاصطلاح.
نعم.
هو عُرف عن بعض الصحابة أنهم تلقوا عن بني إسرائيل، كعب الأحبار تابعي، وبعض الصحابة روى عنه، لكن فيما عدا الأحكام. عبد الله بن عمرو أصاب يوم اليرموك زاملتين من كتب أهل الكتاب، صاروا يحدثون عنها من باب: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.
عرفنا تفريقهم بين التحديث والإخبار، وأن التحديث يؤدى به ما سُمع من لفظ الشيخ، والإخبار بما قُرئ على الشيخ. فإذا كان وحده بحال التحديث يقول إذا حدثه الشيخ وحده قال: حدثني، وإذا كان مع جماعة قال: حدثنا، وإذا قرأ على الشيخ وحده قال: أخبرني، وإذا كان معه مجموعة قال: أخبرنا. فإذا طال به العهد ونسي هل كان وحده أو معه جمع ما يدري سمع من لفظ الشيخ أو قرأ على الشيخ، لكن ما يدري هل مع أحد أم لا؟ ماذا يقول؟
طالب: .......
ماذا؟
طالب: أخبرني.
يعني يفرد؛ لأنه المتيقن؛ لأن وجوده محقق، ووجود من عداه مشكوك فيه. منهم من يقول: لا، يجمع.
طالب: .......
نعم. يجمع؛ لأن حدثنا وأخبرنا أضعف من حدثني وأخبرني؛ لأن الإفراد دليل على اختصاص هذا الطالب بهذا الشيخ، وأنه مقصود بالتحديث والإخبار، بخلاف ما إذا كان مع مجموعة فالأمر أخف بلا شك.
قال -رَحِمَهُ اللهُ-: "حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ" هو ابن سعيد، "قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ المُسْلِمِ، فَحَدِّثُونِي مَا هِيَ»، فَوَقَعَ النَّاسُ فِي شَجَرِ البَوَادِي، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، فَاسْتَحْيَيْتُ، ثُمَّ قَالُوا: حَدِّثْنَا مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «هِيَ النَّخْلَةُ»".
عمر -رَضِيَ اللهُ عنهُ- تمنى أن لو كان ابنه عبد الله صرَّح بذلك إلى النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-، لكن ابن عمر استحيا؛ لأنه صغير بالنسبة للقوم، فاستحيا أن يجيب، ولو أجاب لَسر والده وأبهجه.
(قوله: «إن من الشجر شجرةً» زاد في رواية مجاهد عند المصنف في باب الفهم في العلم، قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة فقال: كنا عند النبي -صلى الله عليه وسلم- فأتي بجُمَّار) الجمار معروف، يقولون: شحم النخل. النخل في قلبه وفي جوفه شيء أبيض حلو.
لا، لا لا غير الطلع، غير الكافور والطلع، لا. شيء في قلبه أبيض قريب من طعم الخس والملفوف، له طعم.
(فأتي بجمار، وقال: «إن من الشجر») الجمار بيده ويقول: إن من الشجر ويسأل عنه، القرينة موجودة، لكن هيبته -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-.
(وله عنه في البيوع: كنت عند النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يأكل جُمارًا.
قوله: «لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم» كذا في رواية أبي ذر بكسر ميم مثل وإسكان المثلثة، وفي رواية الأصيلي وكريمة بفتحهما) مَثل (وهما بمعنًى. قال الجوهري: مِثله ومَثله كلمة تسوية، كما يقال: شِبهه وشَبهه بمعنًى. قال: والمَثَل بالتحريك أيضًا ما يُضرب من الأمثال، انتهى. ووجه الشبه بين النخلة والمسلم من جهة عدم سقوط الورق)؛ لأنها منصوصة: «لا يسقط ورقها» في الحديث.
(ووجه الشبه بين النخلة والمسلم من جهة عدم سقوط الورق ما رواه الحارث بن أبي أسامة في هذا الحديث من وجه آخر عن ابن عمر ولفظه قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم فقال: «إن مثل المؤمن كمثل شجرة لا تسقط لها أنملة») نعم لا يسقط ورق الشجر الذي هو النخل، السعف يسقط أو العسفان؟ كذلك المؤمن كل يوم .......، لا، لا يسقط منه شيء. هو الأصل للمؤمن، لكن ما دام قال: «لا تسقط له أنملة» تشبيهها بأنامل المؤمن غير المؤمن كذلك، فلا تختص بالمؤمن.
(«أتدرون ما هي؟» قالوا: لا، قال: «هي النخلة لا تسقط لها أنملة، ولا تسقط لمؤمن دعوة». ووقع عند المصنف في الأطعمة من طريق الأعمش قال: حدثني مجاهد عن ابن عمر قال: بينا نحن عند النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ أتي بجمار، فقال: «إن من الشجر لَما بركته كبركة المسلم»، وهذا أعم من الذي قبله، وبركة النخلة موجودة في جميع أجزائها مستمرة في جميع أحوالها، فمن حين تُطلع إلى أن تيبس تؤكل أنواعًا، ثم بعد ذلك ينتفع بجميع أجزائها، حتى النوى في علف الدواب والليف في الحبال وغير ذلك مما لا يخفى) فيه مناظرة بين عراقي وشامي، فالعراقي يفضل التمر، والشامي يفضل الزيتون، أتوا بما لديهم من وجوه التفضيل، والعراقي ختم المناظرة بقوله: نحن نشتري بنوى التمر زيتونًا، فماذا تشترون بنوى الزيتون؟
(حتى النوى في علف الدواب والليف في الحبال وغير ذلك مما لا يخفى. وكذلك بركة المسلم عامة في جميع الأحوال، ونفعه مستمر له ولغيره حتى بعد موته. ووقع عند المصنف في التفسير من طريق نافع عن ابن عمر قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «أخبروني بشجرة كالرجل المسلم لا يتحات ورقها ولا ولا ولا») إلى غير ذلك من وجوه الشبه.
(كذا ذكر النفي ثلاث مرات على طريق الاكتفاء) وقد يكتفون بالواو: لا يتحات ورقها ووو إلى آخره، هذا أسلوب معاصر، لكن: ولا ولا ولا، هذا موجود في الخبر.
(كذا ذكر النفي ثلاث مرات على طريق الاكتفاء فقيل في تفسيره: ولا ينقطع ثمرها، ولا يُعدم فيؤها، ولا يبطل نفعها. ووقع في رواية مسلم ذِكر النفي مرةً واحدةً، فظن إبراهيم بن سفيان) راوي الصحيح عن الإمام مسلم (الراوي عنه أنه متعلق بما بعده، وهو قوله: «تؤتي أكلها»، فاستشكله وقال: لعل «لا» زائدة ولعله: وتؤتي أكلها) بدل: ولا تؤتي أكلها، (وليس كما ظن، بل معمول النفي محذوف على سبيل الاكتفاء كما بيناه.
وقوله: «تؤتي» ابتداء كلام على سبيل التفسير لما تقدم، ووقع عند الإسماعيلي بتقديم: «تؤتي أكلها كل حين» على قوله: «لا يتحات ورقها» فسلم من الإشكال.
قوله: «فوقع الناس» أي ذهبت أفكارهم في أشجار البادية، فجعل كل منهم يفسرها بنوع من الأنواع، وذهلوا عن النخلة، يقال: وقع الطائر على الشجرة إذا نزل عليها.
قوله: قال عبد الله هو ابن عمر الراوي، قوله: ووقع في نفسي، بيَّن أبو عوانة في صحيحه من طريق مجاهد عن ابن عمر وجه ذلك قال: فظننت أنها النخلة من أجل الجُمار الذي أتي به) يعني استدل به على قرينة الحال.
(وفيه إشارة إلى أن المُلغَز له ينبغي أن يتفطن لقرائن الأحوال الواقعة عند السؤال، وأن المُلغِز ينبغي له أن لا يبالغ في التعمية بحيث لا يجعل للمُلغَز بابًا يدخل منه، بل كلما قربه كان أوقع في نفس سامعه) يعني لا يكون الشيء مكشوفًا يعرفه الناس كلهم، ولا يكون منه الخفاء بحيث لا يتنبه له أحد، وإلا ما الفائدة منه إذا كان يعرفه الناس كلهم أو لا يعرفه الناس كلهم، ما فيه فائدة، إنما المقصود أن اللغز يعرفه المتميز من الناس.
(بل كلما قربه كان أوقع في نفس سامعه.
قوله: فاستحييت، زاد في رواية مجاهد في باب الفهم في العلم: فأردت أن أقول هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم، وله في الأطعمة: فإذا أنا عاشر عشرة أنا أحدثهم، وفي رواية نافع: ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان، فكرهت أن أتكلم، فلما قمنا قلت لعمر: يا أبتاه. وفي رواية مالك عن عبد الله بن دينار عند المؤلف في باب الحياء في العلم قال عبد الله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي، فقال: لأن تكون قلتها أحب إليَّ من أن يكون لي كذا وكذا. زاد ابن حبان في صحيحه: أحسبه قال: حمر النعم.
وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم امتحانُ العالم أذهانَ الطلبة بما يخفى مع بيانه لهم إن لم يفهموه) لا يستمر مستغلقًا، إنما يبيِّن.
(وأما ما رواه أبو داود من حديث معاوية عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه نهى عن الأغلوطات، قال الأوزاعي أحد رواته: هي صعاب المسائل) يعني التي يُقصد منها التعجيز، بيان عجز المسؤول أو التعالم في بيان علم السائل، كل هذا لا يجوز.
(قال الأوزاعي أحد رواته: هي صعاب المسائل، فإن ذلك محمول على ما لا نفع فيه أو ما خرج على سبيل تعنت المسؤول أو تعجيزه.
وفيه التحريض على الفهم في العلم، وقد بوب عليه المؤلف: باب الفهم في العلم، وفيه استحباب الحياء ما لم يؤدِّ إلى تفويت مصلحة، ولهذا تمنى عمر أن يكون ابنه لم يسكت. وقد بوَّب عليه المؤلف في العلم وفي الأدب، وفيه دليل على بركة النخلة وما تُثمره، وقد بوَّب عليه المصنف أيضًا، وفيه دليل على أن بيع الجمار جائز؛ لأن كل ما جاز أكله جاز بيعه، ولهذا بوَّب عليه المؤلف في البيوع، وتعقَّبه ابن بطال لكونه من المجمع عليه، وأجيب بأن ذلك لا يمنع من التنبيه عليه؛ لأنه أورده عقب حديث النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها).
لأنه نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، والجمار موجود، ومنهي عن بيع التمر أو البسر قبل أن يبدو صلاحه وهو أخضر، قد يقول قائل: لماذا لا يُمنع الجمار؟ هل الجمار يؤكل والنخلة قائمة تثمر أو إذا ماتت وقُطع قلبها أُخذ الجمار؟ طيب وبعد تعود لتغرس ثانية، هذا نفس الشيء.
(وأجيب بأن ذلك لا يمنع من التنبيه عليه؛ لأنه أورده عقب حديث النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، فكأنه يقول: لعل متخيلاً يتخيل أن هذا من ذاك وليس كذلك. وفيه دليل على جواز تجمير النخل، وقد بوَّب عليه في الأطعمة؛ لئلا يظَن أن ذلك من باب إضاعة المال) لكن يرد عليه أنه إذا كانت لا يمكن أن تعيش بعد أخذ الجمار، إذا أريد التخفيف عن النخلة باجتثاث بعض فروعها يؤكل الجمار والنخلة الأصل باقية.
طالب: .......
ماذا؟
طالب: .......
الوصلة التي تقتلعها هذه ....... الفرق .......
طالب: .......
لا لو مثل الجمار ما هو مثل قلب المؤمن، هذا من وجوه الشبه، يعني إذا ماتت واجتثت، لا أنا أقول وهي قائمة يمكن أن يؤخذ الفرخ وفي أسفله الجمار وهي باقية ....... سبعة فروخ مثلاً، من إضاعة المال، قد تكون النخلة من النوع الرديء الذي لا يثمر تتعب عليه وفي النهاية الكيلو بريال ماذا تفعل به؟ تحتاج ماءً وتحتاج عمالًا.
طالب: .......
لا لا تثمر، هذه الخبرة، خذ الخبرة من أفواه الخبراء!!
(وفيه دليل على جواز تجمير النخل، وقد بوَّب عليه في الأطعمة؛ لئلا يظَن أن ذلك من باب إضاعة المال، وأورده في تفسير قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم: 24] إشارةً منه إلى أن المراد بالشجرة النخلة، وقد ورد صريحًا فيما رواه البزار من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكر هذه الآية، فقال: «أتدرون ما هي؟» قال ابن عمر: لم يخفَ علي أنها النخلة، فمنعني أن أتكلم مكان سِني، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «هي النخلة»، ويُجمع بين هذا وبين ما تقدم أنه -صلى الله عليه وسلم- أُتي بالجمار، فشرع في أكله تاليًا للآية قائلاً: «إن من الشجر شجرة» إلى آخره. ووقع عند ابن حبان من رواية عبد العزيز بن مسلم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من يخبرني عن شجرة مثلها مثل المؤمن، أصلها ثابت وفرعها في السماء»، فذكر الحديث، وهو يؤيد رواية البزار. قال القرطبي: فوقع التشبيه بينهما من جهة أن أصل دين المسلم ثابت، وأن ما يصدر عنه من العلوم والخير قوت للأرواح مستطاب، وأنه لا يزال مستورًا بدينه، وأنه يُنتفع بكل ما يصدر عنه حيًّا وميتًا، انتهى)، يعني وكذلك النخلة فوائدها لا تحصى حتى بعد موتها.
(وقال غيره: والمراد بكون فرع المؤمن في السماء رفع عمله وقبوله. وروى البزار أيضًا من طريق سفيان بن حسين عن أبي بشر عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمن مثل النخلة ما أتاك منها نفعك»، هكذا أورده مختصرًا وإسناده صحيح، وقد أفصح بالمقصود بأوجز عبارة. وأما من زعم أن موقع التشبيه بين المسلم والنخلة من جهة كون النخلة إذا قُطع رأسها ماتت، أو لأنها لا تحمل حتى تلقح، أو لأنها تموت إذا غرقت، أو لأن لطلعها رائحة مني الآدمي، أو لأنها تعشق، أو لأنها تشرب من أعلاها، فكلها أوجه ضعيفة؛ لأن جميع ذلك من المشابهات مشترك في الآدميين لا يختص بالمسلم) يعني أوجه الشبه التي ذُكرت لا تختص بالمسلم، مشترك في الآدميين من المسلم وغيره، لا تختص بالمسلم.
(وأضعف من ذلك قول من زعم أن ذلك لكونها خُلقت من فضلة طين آدم، فإن الحديث في ذلك لم يثبت، والله أعلم) وجاء فيه: «أكرموا عمتكم النخلة؛ لأنها من فضلة طين آدم»، ولكن هذا الخبر ليس بصحيح.
(وفيه ضرب الأمثال والأشباه لزيادة الإفهام، وتصوير المعاني لترسخ في الذهن، ولتحديد الفكر في النظر في حكم الحادثة، وفيه إشارة إلى أن تشبيه الشيء بالشيء لا يلزم أن يكون نظيره من جميع وجوهه)، لا يلزم أن يكون وجه الشبه مطابقًا من جميع الوجوه بين المشبه والمشبه به، كما جاء في أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر، هل يقال: إن هؤلاء على صورة القمر تصويرًا متطابقًا ما لهم عيون ولا؟ لا، إنما في الاستدارة والإضاءة لا من غيرها.
(فإن المؤمن لا يماثله شيء من الجمادات ولا يعادله. وفيه توقير الكبير وتقديم الصغير أباه في القول، وأنه لا يبادره بما فهمه، وإن ظن أنه الصواب. وفيه أن العالم الكبير قد يخفى عليه بعض ما يدركه من هو دونه؛ لأن العلم مواهب)، وقد يخفى على هذا شيء ويعرف أشياء، ويخفى على هذا أشياء ويعرفها غيره.
(لأن العلم مواهب، والله يؤتي فضله من يشاء. واستدل به مالك على أن الخواطر التي تقع في القلب من محبة الثناء على أعمال الخير لا يقدح فيها إذا كان أصلها لله)، حتى لو تكلم وأحب أن يُمدح ويُثنى عليه بما فعل يقدح أم ما يقدح؟ في كلام لابن القيم وغيره يقدح قدحًا شديدًا.
طالب: .......
ما يخالف، لكن هل محبة الثناء تقدح أو لا تقدح؟ الأصل في المسألة، عامة أهل العلم على أنه يقدح، واستنبط بعضهم من آخر سورة آل عمران: {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} [آل عمران: 188]، أن مفهومه أنهم إذا أحبوا أن يحمدوا بما فعلوا أن هذا لا يضرهم. سيجيء هذا كله، بينبه عليه المؤلف.
يقول: (إذا كان أصلها لله، وذلك مستفاد من تمني عمر المذكور، ووجه تمني عمر -رَضِيَ اللهُ عنهُ- ما طُبع الإنسان عليه من محبة الخير لنفسه ولولده، ولتظهر فضيلة الولد في الفهم من صغره، وليزداد من النبي -صلى الله عليه وسلم- حظوةً، ولعله كان يرجو أن يدعو له إذ ذاك بالزيادة في الفهم، وفيه الإشارة إلى حقارة الدنيا في عين عمر؛ لأنه قابل فهم ابنه لمسألة واحدة بحمر النعم مع عظم مقدارها وغلاء ثمنها.
فائدة: قال البزار في مسنده: ولم يَروِ هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا السياق إلا ابن عمر وحده، ولما ذكره الترمذي قال: وفي الباب عن أبي هريرة، وأشار بذلك إلى حديث مختصر لأبي هريرة أورده عبد بن حميد في تفسيره لفظة: «مثل المؤمن مثل النخلة»، وعند الترمذي أيضًا والنسائي وابن حبان من حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ: ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة قال: «هي النخلة»، تفرَّد برفعه حماد بن سلمة، وقد تقدم أن في رواية مجاهد عن ابن عمر أنه كان عاشِر عشرة. فاستفدنا من مجموع ما ذكرناه أن منهم أبا بكر وعمر وابن عمر وأبا هريرة وأنس بن مالك إن كانا سمعا ما روياه من هذا الحديث في ذلك المجلس، والله تعالى أعلم).
"