التعليق على الموافقات (1430) - 23

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

 فصل: وهذا البحث مبنيٌ على أن للشارع مقاصد تابعة في العبادات والعادات، نعم، أما في العادات فهو ظاهر، وقد مر منه أمثلة، وأما في العبادات، فقد ثبت ذلك فيها. فالصلاة مثلاً أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بالذكر له، قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، وقال: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45]. وفي الحديث: إن المصلي يناجي ربه. ثم إن لها مقاصد تابعة".

وعلى هذا فالمسلم عليه أن يستحضر هذه الحِكم وهذه المصالح، التي تترتب على الصلاة، ومن الناس من يُركِّز على أمور قد تكون مصالح، لكنها لم يستنبطها أهل العلم من قبل، كرياضة البدن مثلاً، بعضهم يقول: إن المصلحة الأولى من الصلاة هي الرياضة للبدن، والمحافظة على الصحة في طول القيام والركوع والسجود، واكتشف بعض الأطباء أن في السجود إعانة على تنشيط دورة الدم في الرأس، وتخفيفًا للجلطات، وأمورًا كثيرة جدًّا، هذه من من المصالح العبادات، لكن ليست هي المقاصد الأصلية التي من أجلها شُرعت هذه العبادات بقدر ما ذُكِر.

"ثم إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن الفحشاء والمنكر والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا، في الخبر" «أرحنا بها يا بلال».

نعم، إذا حزبه أمر -عليه الصلاة والسلام- فزع إلى الصلاة، إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، الإشكال أن من حزبه أمر في حال كثيرٍ من المسلمين يؤدي الصلاة المفروضة، لكن لا يعقل منها شيئًا، الأصل أن يستعين على هذا الأمر الذي حزبه بالصلاة {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}[سورة البقرة: 153]، لكن هل المصاب إذا صفَّ، وقف بين يدي ربه عقل من صلاته شيئًا؟ هنا المحك، الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر والتي تعين الإنسان وتقويه على تحمل المشاكل والمصائب هي الصلاة التي تؤدى على الوجه الشرعي، والتي لُبها الخشوع والخضوع بين يدي الله -جل وعلا-، الآن أرحنا يا بلال بالصلاة، كثير من الناس وقد يصرحون بذلك، قد يصرحون بذلك، أرحنا منها، نعم، يعني كثير منهم لا سيما إذا كانوا في نزهة أو في رحلة، يقولونها صراحة، يعني ما هو بإلزام ولا توقع، لا، خلونا نرتاح، يعني أرحنا منها، بدلاً من أن يقول: أرحنا بها يا فلان.

"وفي الصحيح: «وجعلت قرة عيني في الصلاة»، وطلب الرزق بها قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132]. وفي الحديث تفسير هذا المعنى، وإنجاح الحاجات كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة، وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار، وهي الفائدة العامة الخالصة".

الفائدة العامة من جميع ما يتقرب إلى الله -جل وعلا- به طلب الفوز بالجنة والنجاة من النار، والله -جل وعلا- يذكر الثواب ثواب المطيعين، وأن لهم الجنة، ويذكر عقاب العاصين، وأن لهم النار وما أُعِدَّ فيها، فملاحظة الجنة وملاحظة النجاة من النار لا يضرُّ في الإخلاص، ليس من باب التشريك هذا، يعني كون الإنسان يصلي ويزكي، ويفعل العبادات، ويجتنب المحرمات؛ ليفوز بالجنة، وينجو من النار هو لا يعبد الجنة ولا يعبد النار، إنما يعبد الذي يجازيه بالجنة أو يعاقبه في النار؛ لأن بعض الناس يقول: إن ملاحظة الجنة والنار تشريك، {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ}[سورة الكهف: 110] نعم.

طالب:...

{فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}[سورة الكهف: 110]، قالوا: إن ملاحظة الجنة والنار فيه تشريك، لكن هذا الكلام ليس بصحيح، كل ما يُنَصّ عليه في الأخبار على أنه جزاء ملاحظته ليست تشريكًا، ولو كانت من التشريك ما ذُكِر، الآن لو أن شخصًا بيده سيف، وهدَّدك به، فخفته وتركت شيئًا مما هدَّدك بتركه أو فعلت شيئًا مما هدَّدك بفعله أنت خوفك هذا من السيف أو من حامل السيف؟ حامل السيف، فأنت تخاف الله -جل وعلا-، وترجو ثوابه وتطمع في ثوابه الذي هو الجنة، وتخاف من عقابه الذي هو النار.

"وكون المصلي في خفارة الله. في الحديث: «من صلى الصبح لم يزل في ذمة الله»".

وليس فيه في جماعة ليس في النص في جماعة، لكن أهل العلم فهموا ذلك وترجموا على الحديث بذلك: باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة، ترجموا على الأحاديث بهذا، والجماعة لم يُنصّ عليها في الحديث، لكن كيف يكون في كنف الله وفي رعايته وفي حفظه وفي ذمته، وقد أخلّ بواجب؟ لأنه إذا لم يصل ألبتة، هذا أمر ثانٍ، لكن إن صلى في الجماعة فهو في حفظ الله، في رعايته، في كنفه، إلى آخره.

"ونيل أشرف المنازل قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] فأعطي بقيام الليل المقام المحمود. وفي الصيام سد مسالك الشيطان والدخول من باب الريان والاستعانة على التحصن في العزبة، في الحديث: «من استطاع منكم الباءة فليتزوج»، ثم قال: «ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء»، وقال: «الصيام جنة»، وقال: «ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان». وكذلك سائر العبادات فيها فوائد أخروية، وهي العامة، وفوائد دنيوية، وهي كلها تابعة للفائدة الأصلية، وهي الانقياد والخضوع لله كما تقدم".

فيها فوائد أخروية وهي العامة التي تشمل جميع العبادات، وهي الفوز بالجنة والنجاة من النار، وفوائد دنيوية، لكنها تابعة لهذه.

"وبعد هذا يتبع القصد الأصلي جميع ما ذكر من فوائدها، وسواها، وهي تابعة، فينظر فيها بحسب التقسيم المتقدم. فالأول وهو المؤكِّد كطلب الأجر العام، أو الخاص، وضده كطلب المال والجاه، فإن هذا القسم لا يتأكد به المقصد الأصلي، بل هو على خلاف ذلك.

والثالث كطلب قطع الشهوة بالصيام، وسائر ما تقدَّم من المقاصد التابعة في مسألة الحظوظ، وينبغي تحقيق النظر فيها.

 وفي الثاني: المقتضي لعدم التأكد، وما يقتضي من ذلك ضد التأكد عينًا، وما لا يقتضيه عينًا. وأيضًا فهنا نظر آخر يتعلق بالعبادات من حيث يطلب بها المواهب التي هي نتائج موهوبة من الله تعالى للعبد المطيع، وحلى يحليه بها، وأول ذلك الثواب في الآخرة من الفوز بالجنة والدرجات العلى، ولما كان هذا المعنى إذا قصد باعثًا على العمل الذي أصل القصد به الخضوع لله والتواضع لعظمته، كان التعبد لله من جهته صحيحًا لا دخل فيه ولا شوب".

نعم؛ لأنه يعود إلى تعظيم وعبادة من خلق هذا الجزاء، ومن أعدَّ هذا الجزاء وهو الله- سبحانه وتعالى-، ولو كان مُخِلًّا بالإخلاص لما ذُكِر في النصّ؛ لأنه يُذكَر في النصّ ثم يقال: لا يلاحظ؟ هذا تكليف بما لا يُطاق، هذا تكليف بما لا يُطاق، يعني يُذكَر في النصّ، ويُحَثّ على العمل ويُلوَّح به من أجل الحثّ على العمل ثم يُقال: لا يُلاحظ؟ هذا لا يمكن أن يكون، نعم.

"لأن القصد الرجوع إلى من بيده ذلك والإخلاص له".

كما ذكرنا الخوف ممن بيده السيف لا من السيف.

"وما جاء في ذلك مما عده بعضهم طلبًا للإجارة وصاحبه عبد سوء، فقد مر الكلام عليه".

الآن يأتي على ألسنة بعض المتصوفة أنه إنما يُعبد الله -جل وعلا- لحبه فقط لمحبته فقط، لا للخوف والرجاء، ويُذكر عن رابعة أنها تقول: والله ما عبدتك خوفًا من عقابك، ولا رجاءً لثوابك ولجنتك وإنما عبدتك..، هذا زندقة هذه، ولذا يقول أهل العلم: أن من عبد الله بالرجاء فقط فهو مرجئ ومن عبده بالخوف فقط فهو حروري، ومن عبده بالحب فقط لا خوف ولا رجاء فهذا زنديق، والموحد من جمع بين الثلاثة.

"ومن ذلك الطرف الآخر العامل لأجل أن يحمد، أو يعظم، أو يعطى فهذا عامل على الرياء ولا يثبت فيه كما تقدَّم. وأيضًا فإن عمله على غير أصالة؛ إذ لا إخلاص فيه فهو عبث، وإن فرض خالصًا لله، لكنَّ قَصْدَ".

لكنْ قُصِدَ به.

"لكنْ قُصِدَ به حصول هذه النتيجة فليس هذا القصد بمقوٍ للإخلاص لله، بل هو مقوّ لترك الإخلاص. اللهم إلا أن يكون مضطرًا إلى العطاء فيسأل من الله العطاء، ويُسأَل له لأجل ما أصابه من الضراء بسبب المنع وفقد الأسباب، ويكون عمله بمقتضى محض الإخلاص لا ليراه الناس، فلا إشكال في صحة هذا، فإنه عمل مقتض لما شُرِع له التعبد، ومقوّ له، وأصله قول الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، ورُوِيَ عن النبي– عليه الصلاة والسلام- أنه كان إذا اضطر أهله إلى فضل الله ورِزقه، أمرهم بالصلاة لأجل هذه الآية. فهذه صلاة لله يُستَمنَحُ بها ما عند الله".

لكن الحديث معروف ضعفه، مُضعَّف عند أهل العلم، بعضهم يصلي لصلاح ولده، يتقرب إلى الله -جل وعلا- بالصلاة من أجل صلاة ولده، فيقول بعضهم: إني لأزيد ركعتين من أجلك، يعني ولده، يتقرب إلى الله -جل وعلا- بهذه الصلاة ليعينه بصلاح ولده، فهل مثل هذا مشروع أو غير مشروع؟ هو يتقرب إلى الله -جل وعلا-، ويستمنح ما عند الله -جل وعلا-، من مواهبه لهذا الولد، هذا مأثور عن بعض السلف، صرّح به ونطق به، خاطب ولده إنه ليزيد في صلاته الركعتين من أجلك، يعني هذه وسيلة يتوسل بها إلى الله -جل وعلا-، من أجل أن يصلح ولده.

"وعلى هذا المَهْيَعِ جرى ابن العربي، وشيخه فيمن أظهر عمله لتثبُتَ عدالته، وتصحُّ إمامته وليُقتَدى به إذا كان مأمورًا شرعًا بذلك لتوفر شروطه فيه، وعدم من يقوم ذلك المقام، فلا بأس به عندهما؛ لأنه قائمٌ بما أُمِرَ به، وتلك العبادة الظاهرة لا تقدح في أصل مشروعية العبادة بخلاف من يقصد نفس ثبوت العدالة عند الناس، أو الإمامة، أو نحو ذلك، فإنه مَخوفٌ ولا يقتضي ذلك العملُ المداومة؛ لأن فيه ما في طلب الجاه والتعظيم من الخلق بالعبادة".

يعني كون الإنسان صالحًا في نفسه، ولديه الأهلية لعمل ما، فيرى أنه لا يوجد أليق منه بهذا العمل، لكن صاحب الشأن لا يعرفه، يصلي مع الناس، يطلع البيت وما يكلم أحدًا فيظنه الناس أنه رجل عادي، إذا أظهر بعض العبادة من أجل أن يُعرف بهذه الصلاحية ليُوكل إليه العمل الذي تعيَّن عليه؛ لأنه لو أُشير به من قِبَل من يعرفه عموم الناس منهم من وُكل إلى أمر لا يعرفه، يمكن أن يولي شخصًا ما يصلح مع وجود هذا، أو يولي دونه مع وجوده، قالوا: لا مانع من أن يظهر بعض الشيء الذي يُعرَف به، ولا يُخلّ هذا بالإخلاص؛ لأنه يحقق هدفًا شرعيًّا؛ لأنه له أن يطلب إذا تعيّن عليه هذا العمل له أن يطلبه، من ذلك قول يوسف -عليه السلام-: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ} [سورة يوسف: 55]؛ لأنه لا يوجد غيره يقوم مقامه، لكن لو طلبه وهو ما عُرِف بشيء لن يُمكَّن من ذلك، فمثل هذا قالوا إنه لا يضرّ، مع أن أصحاب التحري، وإن رأوا أنهم أهل لذلك، وأنه لا يوجد من يقوم مقامهم فيه، يستمرون على التخفي، وقد يُطلب منهم الشيء مع أنه يتعيّن عليهم، ومع ذلك يؤثرون السلامة، بل بعضهم يصبر على الضرب، وبعضهم يهرب من الولايات إلى آخره.

طالب: يا شيخ هذا لا يعارض حديث عبد الرحمن بن سمرة؟

هو يعارضه إذا وُجِد من من يقوم مقامه، لكن ما وجد من يقوم مقامه.

طالب:...

إذا تعين عليه.

طالب: فقط.

أبدًا، نعم.

طالب: في غير التعيين ما ينبغي.

لا لا، إذا وجد غيره فالسلامة لا يعدلها شيء.

"ومما يُنظَرُ فيه هنا الانقطاع إلى العمل لنيل درجة الولاية، أو العلم، أو نحو ذلك فيجري فيه الأمران، ودليل الجواز قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74]، وحديث النخلة حين قال عمر لابنه عبد الله: لأن تكون قلتها أحبّ إلي من كذا، وكذا. وانظر في مسألة العَتبية".

العُتبية.

"العُتبية ترى أن اختلاف مالك وشيخه فيها إنما يتنزل على هذين الأمرين. ومما يُشكِلُ من هذا النمط التعبد".

لكن هذا المبحث من دقائق المباحث ومن مضائق الأنظار، يعني قد يلتبس على الإنسان المشروع بغيره؛ لأنه دقيق، والتفريق بينهما بواسطة خيط رفيع جدًّا؛ لأن الإنسان وهو يتقرب إلى الله -جل وعلا- بما ذكره أهل العلم مظنة لأن تزل قدمه فيصل إلى ما يُمنَع.

"ومما يُشكِلُ من هذا النمط التعبد بقصد تجريد النفس بالعمل، والاطلاع على عالم الأرواح ورؤية الملائكة، وخوارق العادات".

يعني يتعبد لهذه الغاية، يتعبد لهذه الغاية، يعني كثير من المتصوفة تعبد برياضات غير مشروعة، من أجل أن يُفرغ قلبه من الخواطر، والهواجس، وحديث النفس، وهذا مطلوب أن الإنسان يفرغ قلبه من هذه الأمور، لكن ماذا يضع؟ ما الذي يضعه في مكان هذه الأمور؟ التوحيد الخالص، يضع التوحيد الخالص لله -جل وعلا- وتعظيم الرب، والنظر في آياته الكونية، والمتلوة، يملأ قلبه بهذه الأمور، بالإيمان، بالتوحيد، بذكر الله وشكره، بقراءة القرآن، بتلاوة، وبتدبر القرآن، بالنظر في مخلوقات الله؛ لأنه إن لم يشغل قلبه بهذه الأمور وفرغه من الخواطر والهواجس، حلّ الشيطان بجميع جنوده في هذا القلب كما هو حاصل لكثير من المتصوفة، فرغ قلبه من الخواطر والهواجس المتعلقة بالخلق، وما حلّ محلّه الإيمان الصادق الصالح والتوحيد الخالص، والنظر في آيات الله وآلائه، فرغه مما يتعلق بالخلق، ولم يملؤه يما يتعلق بالخالق، ما فيه شيء إلا الشيطان يحلّ محله، ما فيه شيء، قلب خالٍ، فجاء الشيطان فتربع في هذا القلب، وأملى عليه ما يريد، فوقع في الشطحات التي تشبه الجنون، ومع ذلك يدعي أنه من أعظم أولياء الله، ويُدَّعى له ذلك.

"ونيل الكرامات والاطلاع على غرائب العلوم والعوالم الروحانية، وما أشبه ذلك، فلقائل أن يقول: إن قصدَ مثل هذا بالتعبد جائز، وسائغ؛ لأن حاصله راجعٌ إلى طلب نيل درجة الولاية، وأن يكون من خواص الله، ومن المصطفين من الناس، وهذا صحيح في الطلب، مقصود في الشرع الترقي إليه، ودليل الجواز ما تقدم في الأمثلة قبل هذا ولا فرق. وقد يقال: إنه خارج عن نمط ما تقدم".

لكنه ليس من عمل خيار هذه الأمة أن يتعبد من أجل أن يرى الملائكة أو ليحصل له خوارق، الخوارق قد يتمناها الإنسان إذا وقع في ورطة، لا يخلصه منها في مقابل من يريده إلا بأمرٍ خارق، وإلا فالأصل أن يعبد الله -جل وعلا- على ما أراد، سواءً حصل على يده شيء أو لم يحصل، هذا ليس بقصد ولا هدف، لكن قد يحتاج إلى ذلك في موطن، في موطن لا لمصلحته الخاصّة، وإنما لمصلحة الدِّين، كما حصلت المعجزات للرسل، جرت عليهم الخوارق والمعجزات؛ تأييدًا لما جاؤوا به، لا لذواتهم، حينما يُطلب من الإنسان طلب، فيعلّق أمر الدِّين عليه، كما طُلب من بعض الدعاة قبيلة كاملة تريد أن تُسلِم، وقالوا: لا نسلم حتى تدعو الله فتمطر السماء، هنا يلجأ إلى الله -جل وعلا- أن يحقق هذا الأمر، لا لمصلحته الخاصّة، فدعا الله -جل وعلا- فمُطِر.

 أما أن يتعبد الله -جل وعلا- ملاحظًا هذا الأمر، وجعله نصب عينيه، إنه من أجل أن يرى الملائكة، ومن أجل أن يسلم عليه عيانًا، ومن أجل...، يعني كما حصل لعمران بن الحصين، هذا قد يؤدي بالإنسان إلى الغرور، والناس في هذا الباب على طرفي نقيض، على طرفي نقيض، منهم من إذا تأخر عن الناس ربع ساعة في المسجد انتظر التسليم والتشميت من الملائكة، ومنهم من يعبد الله -جل وعلا- سبعين سنة، ولا يسأل الله الجنة، يقول: أنا ما أنا بكفء جنة، يكفيني أن أنجو من النار، والله لا هذا ولا هذا، تجلس بعد الناس بربع ساعة وإذا سمعت صوت الباب تقول الملائكة.

 فالمسلم عليه أن يعتدل، وعليه أن يقتدي بمن سلف، أما كون الهدف أن يرى الكرامات أو يرى الملائكة أو يرى كذا أو يكون له مكان في قلوب الناس، كل هذه ليست من المقاصد الشرعية التي من أجلها شُرِعت العبادات.

"فإنه تَخَرُّصٌ على علم الغيب، ويزيد بأنه جعل عبادة الله وسيلة إلى ذلك، وهو أقرب إلى الانقطاع عن العبادة؛ لأن صاحب هذا القصد داخل بوجه ما تحت قوله تعالى:  {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}الآية [الحج: 11]".

إذا تعبد لهذا الهدف مدة شهر شهرين سنة، سنتين، هو مأمور بأن يعبد الله -جل وعلا- حتى يأتيه اليقين، لكن ما رأى شيئًا من هذا المتوقع من العلامات الظاهرة رؤية كرامات أو ملائكة أو شيء من هذا فهل يستمر؟ لا لن يستمر.

"كذلك هذا إن وصل إلى ما طلب فرح به، وصار هو قصده من التعبد فقوي في نفسه مقصوده وضعفت العبادة".

قد ينشغل إذا وصل إلى هذه المرتبة انشغل بها عن العبادة، وقد يُسوِّل له الشيطان أنه ليس بحاجة إلى العبادة، كما سوَّل لبعض من ادعى من يُدَّعى له الولاية وأنه وصل إلى مرتبة سقطت عنه التكاليف.

طالب:...

والله كونه يترك أفضل لكم يبقى أنه إذا ترتب عليه مصلحة ظاهرة مثل هذا الذي قبيلة تسلم، هم كفار من الأصل يعني سواء مطروا أو لم يمطروا، لكن إن هداهم الله بسببه نعمة عظيمة، كذلك في مسألة القسم على الله من عباده من لو أقسم على الله لأبرَّه، الإنسان في كل مناسبة يقسم على الله ليحصل له ما تحقيق هذا الحديث؟ لا، هذا تزكية للنفس، لكن لو وقع في ورطة أو في مضيق أو، ما فيه ما يمنع، كل إنسان يعرف من نفسه موقعها.

"وإن لم يصل رمى بالعبادة وربما كذَّب بنتائج الأعمال التي يهبها الله تعالى لعباده المخلصين، وقد رُوي أن بعض الناس سمع بحديث: «من أخلص لله أربعين صباحًا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه» فتعرَّض لذلك، لينال الحكمة فلم يفتح له بابها".

لكن الحديث معروفٌ ضعفه، بل هو أوردوه في كتب الموضوعات.

 "فبلغت القصة بعض الفضلاء، فقال: هذا أخلص للحكمة ولم يخلص لله، وهكذا يجري الحكم في سائر المعاني المذكورة، ونحوها ولا أعلم دليلاً يدل على طلب هذه الأمور، بل ثم ما يدل على خلاف ذلك، فإن ما غُيِّبَ عن الإنسان مما لا يتعلق بالتكليف لم يطلب بدَرَكِه ولا حُضَّ على الوصول إليه.

وفي كتب التفسير أن رجلاً سأل النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: ما بال الهلال يبدو رقيقًا كالخيط، ثم ينمو إلى أن يصير بدرًا، ثم يصير إلى حالته الأولى؟ فنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] الآية، فجعل إتيان البيوت من ظهورها مثالاً شاملاً لمقتضى هذا السؤال؛ لأنه تطلُّب لما لم يؤمر بتَطَلُّبه. ولا يقال: إن المعرفة بالله، وبصفاته، وأفعاله على مقدار المعرفة بمصنوعاته، ومن جملتها العوالم الروحانية، وخوارق العادات فيها تقوية للنفس واتساع في درجة العلم بالله تعالى؛ لأنَّا نقول: إنما يطلب العلم شرعًا لأجل العمل، حسبما تقدَّم في المقدمات، وما في عالم الشهادة كافٍ، وفوق الكفاية فالزيادة على ذلك فضل، وأيضًا إن كان ذلك مطلوبًا على الجملة كما قال إبراهيم -عليه السلام-: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260] الآية، فإن الجواب عن ذلك من وجوه".

يعني زيادة الإيمان واليقين مثل هذا لا يُطلَب بمثل هذه الغيبيات، وإنما يُطلَب بالنظر في آيات الله المتلوة والكونية، يعني زيادته تحصل بهذا، النظر في مخلوقات الله -جل وعلا- لا شك أن هذا مما من أعظم ما يقوي اليقين في النفس، فابن القيم -رحمه الله تعالى- في الجواب الكافي ذكر من هذا العجائب، وكتاب الله بين أيدينا، وشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: إن قراءة القرآن على الوجه المأمور به يعني من الترتيب من الترتيل والتدبر تورث القلب من العلم واليقين والإيمان والطمأنينة شيء لا يدركه إلا من عاناه، يعني فعل مثل ما فعل.

 فتدبر القرآن إن رُمت الهدى           فالعلم تحت تدبر القرآن

هذا من جهة الآيات المتلوة، الآيات الكونية والنظر فيها يعني من قرأ في مفتاح دار السعادة، انبهر، مخلوقات لا يلتفت لها الناس، لا يلتفت لها الناس في، يعني الذرَّة من أصغر المخلوقات، فيها من العجائب ما يبهر العقول، يعني من الذي ألهمها إذا أدخلت الحبة في جحرها أن تقسمها نصفين؛ لئلا تنبت؟ من الذي ألهمها ذلك؟ الله -جل وعلا-، أمور كثيرة لا تخطر على البال، ذكرها ابن القيم -رحمه الله- وأفاد وأجاد في هذا الكتاب. فعلى كل طالب علم أن يقرأ في هذا الكتاب؛ لأن الإنسان قد لا يتوصل إلى النظر في الآيات الكونية بمفرده، ولا يهتدي إلى كيفية الإفادة منها بنفسه، يعني كثير من الناس يرى لكن ما يلتفت، ولا ينتبه لمثل هذه الأمور، لكن إذا نُبِّه بواسطة مثل هذا الكتاب استفاد فائدة عظيمة وفُتِح له فتوح غير ما في الكتاب؛ لأن آيات الله لا تنتهي.

"أحدها: أن طلب الخوارق بالدعاء وطلب فتح البصيرة للعلم به لا نكير فيه، وإنما النظر فيمن أخذ يعبد الله، ويقصد بذلك أن يرى هذه الأشياء، فالدعاء بابه مفتوح في الأمور الدنيوية والأخروية شرعًا ما لم يدع بمعصية، والعبادة إنما القصد بها التوجه لله، وإخلاص العمل له والخضوع بين يديه، فلا تحتمل الشركة، ولولا أن طلب الأجر والثواب الأخروي مؤكد لإخلاص العمل لله في العبادة لما ساغ القصد إليه بالعبادة، مع أن كثيرًا من أرباب الأحوال يعزب عنهم هذا القصد، فكيف يجعلان مثلين؟ أعني طلب الخوارق بالدعاء مع القصد إليها بالعبادة، ما أبعد ما بينهما لمن تأمل".

بعيد مع الإخلاص، مع الإخلاص لله -جل وعلا- يبعُد أن يكون قصد من طلب هذه الأمور طيب ماذا تستفيد؟ إذا حصلت على يدك الخوارق، أو سلمت عليك الملائكة، أو طرت في الهواء، ماذا تستفيد؟ وإن كنت في تردّد وثبتَّ بسبب ذلك يمكن أن تستفيد، لكن الغالب أنه إنما يترتب عليها الاغترار، الاغترار بالعمل، والاغترار بالنفس، أيضًا علم الناس بذلك يؤدي بالإنسان إلى مهلكة.

"والثاني: أنه لو لم نجد ما نستدل به على ذلك كله لكان لنا بعض العذر في التخطي عن عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فكيف وفي عالم الشهادة من العجائب والغرائب القريبة المأخذ السهلة الملتمس ما يفنى الدهر وهي باقية لم يبلغ منها في الاطلاع والمعرفة عشر المعشار ولو نظر العاقل في أقل الآيات، وأذل المخلوقات، وما أودع باريها فيها من الحكم والعجائب لقضى العجب".

يعني لو نظر إلى البعوضة التي ضرب الله بها المثل، والذباب، والنملة، والنحلة، وما أشبه ذلك، يعني شيء لا يخطر على البال، يعني تأمل في حال هذه الحشرات، التي لا يلتفت إليها كثير من الناس، انظر الترتيب عندها، الترتيب وإدراك ما ينفع وما يضر؛ لأن هذه لها قوى مُدرِكة، ليس لها عقول، لكن لها قوى مدركة، تدرك بها ما ينفعها فتطلبه، وما يضرها فتهرب عنه.

"وانتهى إلى العجز في إدراكه، وعلى ذلك نبه الله تعالى في كتابه أن تنظر فيه كقوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185]، {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ. وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [ الغاشية: 17 - 18 ] إلى آخرها. {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] إلى تمام الآيات. ومعلوم أنه لم يأمرهم بالنظر فيما حجب عنهم، ولم يكن لهم الاطلاع عليه عادة إلا بخارقة، فإنه إحالة على ما يندر التوصل إليه، وإذا تأملت الآيات التي ذكر فيها الملائكة، وعوالم الغيب لم تجدها مما أُحيل على النظر فيه، ولا مأمورًا بتطلُّب الاطلاع عليها، وعلى ذواتها، وحقائقها. فهذه التفرقة كافية في أن ذلك غير مطلوب النظر فيه شرعًا، وإذا لم يكن مطلوبًا لم ينبغِ أن يطلب.

والثالث: أن أصل هذا التطلب الخاص فلسفي، فإن الاعتناء بطلب تجريد النفس والاطلاع على العوالم التي وراء الحس، إنما نُقل عن الحكماء والمتقدمين، والفلاسفة المتعمقين في فنون البحث".

وما أُتي من أُتي من رؤوس المتصوفة إلا بسبب الخلط بين الفلسفة والدين، يعني الغزالي رجل معروف من فقهاء الشافعية، وهو من رؤوس المتصوفة، لكن ما الذي أضر به؟ الفلسفة، دخل فيها ولم يستطع الخروج منها، دخل فيها ولم يستطع الخروج منها، وذمّ الفلسفة وتهافت الفلاسفة وأمور كثيرة يعني، لماذا؟ لأنه تضرر بها ضررًا بالغًا، فصار يذمها ويذمّ أهلها، لكنها أثرت في كتاباته أثرت في تصرفاته شاء أم أبى؛ لأن هذه العلوم مزلة أقدام، يعني علم الكلام وعلم يعني علم لا يحتاج إليه في الأصل؛ لأن عندنا ما يغني عنه علم الكتاب والسُّنَّة، لكن قد يحتاج إليه من يريد الرد عليهم، مثل شيخ الإسلام، لأنه قد لا يفهم كلامهم إلا إذا تعلم المنطق وعلم الكلام، فمثل هذا يُحتاج إليه، فيكون من الضرورات التي يضطر إليها بعض الناس الذين تم تأهيلهم، وتحصينهم ضد التأثر بهذه العلوم، وإلا فمن أين لشيخ الإسلام أن يرد على كتب أهل الكلام وينقضها ويقوضها، يقوض دعائمها..

 ومن العجيب أنه بسلاحهم             أرداهم نحو الحضيض الداني

 فمن أهل العلم من يحتاج إلى هذا لكن بعد أن يتأهل، بحيث لا يخاف عليه من التأثر، أما أن تكون علومهم مضطربة، ولا علم له بالكتاب والسُّنة ثم يقول: أنا أدرس الفلسفة من أجل أرد عليها، أدرس القانون من أجل أن أنقض القانون هذا الكلام ما هو بصحيح، تمكن من الشريعة قبل، من أجل أن تنقض ضده، وبضدها تتميز الأشياء تتبين، أما أنت ما تعرف عقيدة السلف الصالح وتدخل في عقائد المخالفين تقول: أرد عليهم؟ بم ترد عليهم؟ على النصارى، السخاوي له كتاب اسمه الأصل الأصيل في نقل الإجماع على تحريم النظر في التوراة والإنجيل، إجماع، والنبي -عليه الصلاة والسلام- غضب على عمر، لما رأى بيده قطعة من التوراة، المقصود أن مثل هذه الأمور يحذرها الإنسان، هناك كتب مبتدعة ومشتملة على بدع منها البدع المغلظة ومنها المخففة وهكذا.

 على كل حال بحسب يلجأ إليها إذا كانت فائدتها أعظم، وبقدر الحاجة من شخصٍ متأهل، نعم.

"إنما نُقل عن الحكماء والمتقدمين، والفلاسفة المتعمقين في فنون البحث من المتألهين منهم، ومن غيرهم ولذلك تجدهم يقررون لطلب هذا المعنى رياضة خاصة لم تأت بها الشريعة المحمدية، من اشتراط التغذي بالنبات دون الحيوان".

بعضهم قبل ذلك يوصي بالإمساك عن الطعام أربعين يومًا، أربعين يومًا ما يأكل، ثم يدعي أنه حصل له أشياء، وخوارق، وصار يتراءى له أشياء غيبية ما كان يراها، الحافظ الذهبي يقول هلوسة هذه، الجوع يحدث عنه هذا وأشد.

"من اشتراط التغذي بالنبات دون الحيوان أو ما يخرج من الحيوان إلى غير ذلك من شروطهم التي لم تنقل في الشريعة، ولا وجد منها في السلف الصالح عَينٌ ولا أثر؛ كما أن ذكر التجريد والعوالم الروحانية، وما يتصل بذلك لم ينقل عن أحد منهم، وكفى بذلك حجة في أنه غير مطلوب، كما سيأتي على أثر هذا بحول الله تعالى.

والرابع: أن طلب الاطلاع على ما غُيِّبَ عنا من الروحانيات، وعجائب المغيبات كطلب الاطلاع على ما غُيِّبَ عنا من المحسوسات النائية، كالأمصار البعيدة والبلاد القاصية والمغيبات تحت أطباق الثرى".

لكن مع الفارق أن هذا يمكن الاطلاع عليه، البلاد النائية، سمعت أن بالهند كذا، بإمكانك أن تذهب إلى الهند وترى، سمعت بالأندلس وكذا بأقصى المشرق وبأقصى المغرب، بإمكانك، لكن المغيبات ليس هناك وسيلة إلى الاطلاع عليها، بالنسبة للخوارق والأمور كلها بيد الله- جل وعلا- إن شاء أطلعك وإن شاء لم يطلعك.

طالب: غيب نسبي.

لا، هو يقول الروحانيات، ما غُيِّب عنا من الروحانيات وعجائب المغيبات.

طالب:...

نعم، لكن هل يمكن أن يجزم الإنسان أن هناك سببًا يسلكه ويضمن له رؤية الملائكة؟ بخلاف ما غاب عنا في البلدان النائية بإمكانك أن تسلك السبيل، وتسافر إلى البلد وتشاهده، يعني مع الفارق.

"لأن الجميع أصناف من مصنوعات الله تعالى، فكما لا يصح أن يقال بجواز التعبد لله قصد أن يطلع الأندلسي على قطر بغداد، وخراسان، وأقصى بلاد الصين، فكذلك لا ينبغي مثله في الاطلاع على ما ليس من قبيل المحسوسات.

والخامس: أنه لو فرض كون هذا سائغًا فهو محفوف بعوارض كثيرة، وقواطع معترضة تحول بين الإنسان، ومقصوده، وإنما هي ابتلاءات، يبتلي الله بها عباده؛ لينظر كيف يعملون. فإذا وازن الإنسان بين مصلحة حصول هذه الأشياء، وبين مفسدة ما يعترض صاحبها، كانت جهة العوارض أرجح، فيصير طلبها مرجوحًا؛ ولذلك لم يخلد إلى طلبها المحققون من الصوفية، ولا رضوا بأن تكون عبادتهم يداخلها أمر، حتى بالغ بعضهم فقال في طلب الثواب ما تقدَّم. وأشد العوارض طلب هذه الأشياء بالعبادة من الصلاة والصيام والذكر، ونحوها مما يقتضي وضعها الإخلاص التام، فلا يليق به طلب الحظوظ، فإن طالب العلم بالروحانيات إما أن يكون لأمر الله ورسوله بها، وهذا لا يوجد، وإما لأنه أحب أن يطلع على ما لم يطلع عليه أحد من جنسه، فسار كالمسافر ليرى البلاد النائية والعجائب المبثوثة في الأرض لا لغير ذلك، وهذا مجرد حظٍ لا عبادة فيه، ومقصود الأمر أن مثل هذا لا يكون عاضدًا لما وضعت له العبادة في الأصل من التحقق بمحض العبودية".

يعني مثل هذا لا يصلح أن يكون من المقاصد الشرعية التي من أجلها شرعت العبادات.

"فإن قيل: فقد سُئل بعض السلف عن دواء الحفظ، فقال: ترك المعاصي، ومن مشهور القواعد أن الطاعة تعين على الطاعة، وأن الخير لا يأتي إلا بالخير كما في الحديث".

هذا في سؤال الإمام الشافعي -رحمه الله- لوكيع.

شكوت إلى وكيع سوء حفظي

 

فأرشدني إلى ترك المعاصي

وقال اعلم بأن العلم نور

 

ونور الله لا يؤتاه عاصي

 نعم.

"كما أن الشر لا يأتي إلا بالشر، فهل للإنسان أن يفعل الخير ليصل به إلى الخير أم لا؟ فإن قلت: لا؛ كان على خلاف هذه القاعدة، وإن قلت: نعم؛ خالفت ما أصلت".

نعم، سئل بعضهم قيل له: أنك تكثر من العبادات القاصرة، وتساهم في العبادات المتعدية، لماذا لا تقلل من هذا وتكثر من هذا؟ قال: أنا أستعين بهذا على هذا، ولولا هذا ما وُفِّقت لهذا، وهذا صحيح، يعني لا بد أن يكون للإنسان نصيب من التعبُّد ليعينه الله -جل وعلا- على ما عداه، نعم.

"فالجواب أن هذا نمط آخر، وذلك أن الإنسان قد يعلم أن الذي يصده مثلاً عن الخير الفلاني عمل شر".

نعم، يُقيَّد عن عمل الخير بسبب المعصية يصيبها.

"فيترك الشر ليصل إلى ذلك الخير الذي يثاب عليه، أو يكون فعل الخير يوصله إلى خير آخر كذلك فهذا عون بالطاعة على الطاعة، ولا إشكال فيه، وقد قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45]، وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] الآية. ومسألة الحفظ من هذا، وأما ما وقع الكلام فيه فحاصله طلب حظ شهواني يطلبه بالطاعة، وما أقرب هذا أن يكون العمل فيه غير مخلص فالحاصل لمن اعتبر أن ما كان من التوابع مقويًا، ومعينًا على أصل العبادة، وغير قادح في الإخلاص فهو المقصود التبعي السائغ، وما لا فلا، وأن المقاصد التابعة للمقاصد الأصلية على ثلاثة أقسام:

أحدها: ما يقتضي تأكيد المقاصد الأصلية وربطها والوثوق بها، وحصول الرغبة فيها، فلا إشكال أنه مقصود للشارع، فالقصد إلى التسبُّبِ إليه بالسبب المشروع موافق لقصد الشارع فيصحّ.

والثاني: ما يقتضي زوالها عينًا، فلا إشكال أيضًا في أن القصد إليها مخالف لمقصد الشارع عينًا، فلا يصح التسبُّب بإطلاق.

والثالث: ما لا يقتضي تأكيدًا ولا ربطًا، ولكنه لا يقتضي رفع المقاصد الأصلية عينًا فيصح في العادات دون العبادات. أما عدم صحته في العبادات فظاهر، وأما صحته في العادات فلجواز حصول الربط والوثوق بعد التسبُّب، ويحتمل الخلاف، فإنه قد يقال: إذا كان لا يقتضي تأكيد المقصد الأصلي، وقصد الشارع التأكيد، فلا يكون ذلك التسبُّب موافقًا لمقصد الشارع، فلا يصح، وقد يقال: هو وإن صدق عليه أنه غير موافق، يصدق عليه أيضًا أنه غير مخالف؛ إذ لم يقصد انحتام رفع ما قصد الشارع وضعه، وإنما قصد في التسبُّب أمرا يمكن أن يحصل معه مقصود الشارع".

يعني مثل ما قالوا لما سألوا النبي -عليه الصلاة والسلام- عن العزل، أُبيح أم ما أُبيح؟ أُبيح لكن هل يمنع ما أراده الله -جل وعلا-؟ ما يمنع ما أراده، إذا أراد الله الحمل سبقه، سبقه الماء، واستقر في الرحم وحبلت، وكم من حملٍ حصل مع وجود جميع الموانع، مع وجود جميع الموانع، تجد المرأة تستعمل الأدوية، وتستعمل العمليات وغيرها؛ من ربط ولوالب وحبوب وغيرها، نعم، يكتب الله الولد وتحمل، فهذا لا ينافي القصد في الأصل، وإن كان مقصود الفاعل، وإن كان مقصود الفاعل بالدرجة الأولى ألا يحصل ما كان ما قصده الشارع من النسل المرتب على النكاح.

"ويؤكد ذلك أن الشارع أيضًا مما يقصد رفع التسبُّب، فلذلك شرع في النكاح الطلاق، وفي البيع الإقالة".

يعني عند مُقتضِيه، يقصد رفع التسبُّب عند مقتضيه، وأما مع عدم المقتضي فالأصل أن المصلحة التي قصدها الشارع المطلوب تحقيقها وإيجادها لا رفعها، أما إذا وجد ما يقتضي الرفع فالشارع شرع ما يرفع كالطلاق.

"وفي القصاص العفو، وأباح العزل، وإن ظهر لبادئ الرأي أن هذه الأمور مضادة لقصد الشارع لما كان كل منها غير مخالف له عينًا، ومثله ما إذا قصد بالنكاح قضاء الوطر خاصّة، ولم يتعرض لقصد الشارع الأصلي من التناسُل فليس خلافًا لقصد الشارع كما تقدم فكذلك غيره مما مضى تمثيله. وليس من هذا أن المخالف لقصد الشارع بلا بدٍ هو الاحتيال بالتسبب على تحصيل أمر على وجهٍ يكون التسبب فيه عبثًا لا محصول تحته شرعًا إلا التوصل إلى ما وراءه، فإذا حصل انحل التسبب وانخرم من أصله، ولا يكون كذلك إلا وهو منخرم شرعًا في أصل التسبُّب.

وأما إذا أمكن أن لا ينخرم، أو أمكن أن لا يكون منخرمًا من أصله فليس بمخالف للمقصد الشرعي من كل وجه، فهو محل اجتهاد، ويبقى التسبُّب إن صحبه نهيٌ محلُ نظر أيضًا، وقد تقدَّم الكلام فيه، والله أعلم".

يعني من ذهب إلى مكان بعيد، من أجل الصلاة، والناس ينظرون إليه، أنه يذهب إلى هذا المكان لتحقيق مصلحة شرعية، من كثرة خطا، أو صلاة وراء إمام مؤثر أو ما أشبه ذلك من المقاصد التي هي في الأصل شرعية، لكن هذا الشخص إنما يذهب إلى هذا المكان البعيد؛ لأن المشي ينفعه في صحته، طبيب نصحه بأن يمشي في كل يوم كذا كيلو، وهذا المسجد مسافته عن بيته كيلو، فهو يمشي من أجله عشرة كيلو في اليوم، والناس ينظرون إليه على أنه يمشي في كل يوم عشرة آلاف خطوة من أجل الصلاة أو عشرين ألف خطوة، فيجلُّونه ويعظمونه من أجل هذا، وهو في الحقيقة الباعث له على هذا الاختيار لهذا المسجد كونه بحاجة إلى المشي، لا لدينه وإنما لبدنه، وقد يقصد من وراء ذلك أيضًا مقصدًا آخر وهدفًا يمكن أن يؤجر عليه، أنه حتى قصده بقاء صحته من أجل أن يعبد الله -جل وعلا-، ويكون ممن طال عمره وحسن عمله، فهذه المقاصد يعتريها ما يضعفها ثم يأتيها ما يقويها، فهذه الأنظار دقيقة تحتاج إلى تأمل طويل، والفاعل قد يضطرب في نفسه في بعض الأمور هل يؤجر على هذا أو لا يؤجر، لكن الأمور بمقاصدها، نعم. وكلام المؤلف -رحمه الله تعالى- يعني من الدقة والمتانة في كتابه كله، مرّ بنا أحيانًا مباحث تحتاج إلى وقوف طويل، لكن الإخوان ما يصبرون، الآن كم لنا؟ صار أربع سنوات ونصف مع الكتاب؟ نعم، ما يصبرون، وإلا الأصل أنه في كل درس ورقة بدل عشر ورقات، بدل خمس ورقات، ورقة واحدة، ونتأمل فيها، لكن مع الدرس الأسبوعي هذا ما يمشي، يطول.

"والجهة الرابعة: مما يعرف به مقصد الشارع السكوت عن شرع التسبُّب، أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضي له، وبيان ذلك أن سكوت الشارع عن الحكم على ضربين: أحدهما: أن يسكت عنه؛ لأنه لا داعية له تقتضيه ولا موجب يُقدَّرُ لأجله كالنوازل التي حدثت بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنها لم تكن موجودة، ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها، وإجرائها على ما تقرر في كلياتها".

يعني أصولها موجودة، وقواعد الشريعة تتناولها، لكنها ما نُصَّ عليها بأعيانها، وهذا مقصد شرعي أن لو حدَّد هذه الفرعيات النازلة أولاً مسألة تحديد جميع ما يمكن أن ينزل إلى قيام الساعة هذا مرهق للأمة بحيث يكون القرآن مائة ألف ضعف، ثم من يتحمله ومن يطيقه، والسنة كذلك، هذا مرهق للأمة، يعني لو فُصِّلت المسائل بأعيانها.

 الأمر الثاني أن هذا يقطع باب الأجور على من أراد أن يتعلم الشريعة، ولا يصير للاجتهاد مجال.

"فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها، وإجرائها على ما تقرر في كلياتها، وما أحدثه السلف الصالح راجع إلى هذا القسم كجمع المصحف، وتدوين العلم، وتضمين الصُنَّاع، وما أشبه ذلك مما لم يجرِ له ذكر في زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولم تكن من نوازل زمانه، ولا عرض للعمل بها موجب يقتضيها، فهذا القسم جارية فروعه على أصوله المقررة شرعًا بلا إشكال، فالقصد الشرعي فيها معروف من الجهات المذكورة قبل".

يعني نحن لا نحتاج في جميع أمورنا إلى غيرنا، النوازل تتجدد في كل يوم، ولا نهاية لها، ولا نهاية لها، فالمسألة مسألة اهتمام من المجتهدين لإلحاق هذه النوازل بأصولها، وإلحاقها بنظائرها التي ذكرها أهل العلم، والمسألة مسألة ليست مستحيلة أو صعبة أو غير مقدور عليها، أبدًا، لكن الأمة بحاجة إلى علماء عاملين، ومع ذلك لا نحتاج إلى غيرنا من الأمم لا نستورد لا قانونًا شرعيًّا ولا نستفيد من أحد كائنًا من كان، حتى لو قيل: إن الأنظمة يدركها بعض الناس من غير المسلمين أو كذا نستعين بهم فيها، أبدًا نحن لسنا بحاجة إلى هذا، الصحابة الذين فتحوا الأمصار واستولوا عليها وسيروها على مقتضى الكتاب والسُّنة كثير منهم لا يقرأ ولا يكتب، وكثير من العلوم التي تُنفق فيها الأموال الطائلة لسنا بحاجتها، مسائل تدريب وما تدريب، الدورات التدريبية التي ينفق فيها الأموال الطائلة الساعة بمئة ألف وما أدري كم، لسنا والله بحاجتها، بعض التخصصات التي أُنشئت حتى في كليات شرعية لسنا بحاجتها، العلم الكتاب والسُّنة كافٍ لكل شيء، لكن ينبغي أن يؤخذ علم الكتاب والسُّنة عن أهله وعلى وجوهه وعلى طريقة سلف هذه الأمة.

طالب:...

أعم من هذا أعم.

"والثاني: أن يسكت عنه، وموجبه المقتضي له قائم فلم يُقَرَّر فيه حكمٌ عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان، فهذا الضرب السكوت فيه كالنص على أن قصد الشارع أن لا يُزاد فيه ولا يُنقَص".

يعني هذا ما قرر به تحرير معنى البدعة، أن السبب قائم في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، والحاجة داعية إليه، وما فعله ففعله بعده يكون ماذا؟ بدعة، يعني مثلاً الخطوط التي تُعدَّلُ بها الصفوف في المساجد، أو الخط المحاذي للحجر الأسود، الحاجة داعية في عهد النبي- عليه الصلاة والسلام-؟ الرسول -عليه الصلاة والسلام- يهتم بتعديل الصفوف وينتظر حتى يستوون وينتهون، فالحاجة داعية في ذلك الوقت، وما فعلها هل نقول: بدعة أو ليست بدعة؟ لأن لنا أنظارًا في المسألة ما هو بنظر واحد، ما نقول الحاجة داعية ونسكت، هل دعاء الحاجة في ذلك الوقت بمستوى دعاء الحاجة بعده؟

طالب:...

وجهلهم وإعراضهم عن الدين، يعني الناس ما يهتمون، ما يهتمون بأمور دينهم، فيحتاجون إلى ما يعينهم، يعني لو نظرنا إلى الناس في مصليات العيد يعني لولا هذه الفرشات، يعني رأيناهم قبل اليوم الناس يصلون على على التراب، كأنهم محيطون بالكعبة، الصفوف كالأهلة، لطول المسافة.

طالب: قد يقال بأنهم تركوا السنة فالإمام يسوي الصف.

يسوي الصف لكن ما هو بالكثرة، كم عرض المسجد النبوي بالنسبة لعرض المساجد، بعض المساجد التي ما يصلي فيها أحد في بعض الأماكن؟ مع حرص الناس وحرص النبي -عليه الصلاة والسلام- فالناس بحاجة إلى ما يعينهم، من نظر إليه من هذه الحيثية وأن دعاء الحاجة أقل من دعائها الآن، أو الحاجة إليها فيما تقدَّم كلا حاجة لوجود ما يقوم مقامها ويسدُّ مسدَّها، لكن عندنا في وقتنا هذا يعني جهل، وكثرة، واتساع مساجد وطول صفوف، وإعراض ناس، إعراض كثير من الناس عن الصلاة، تجدهم مع هذه الخطوط يتقدَّم أم يتأخر، لا شك أن هذا مما يعين الناس، لكن أنا أقول: إن كلامه في تحرير البدعة من أبدع ما كُتب، لكن يبقى أن الحاجة التي تدعو إلى هذا العمل في عصره -عليه الصلاة والسلام- إن كانت بمستوى الحاجة التي تدعو إليها في عصرنا لا شك في بدعيتها، لكن إذا كانت أقل بكثير أو كلا حاجة يمكن أن لا تُذكر عند حاجتنا إليها فلا شك أن المصلحة تتحقق بهذا.

"لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجودًا، ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه كان ذلك صريحًا في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة، ومخالفة لما قصده الشارع؛ إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حدَّ هنالك لا الزيادة عليه ولا النقصان منه. ومثال هذا: سجود الشكر في مذهب مالك، وهو الذي قرَّر هذا المعنى في العُتبية من سماع أشهب وابن نافع، قال فيها: وسُئل مالك عن الرجل يأتيه الأمر يحبه فيسجد لله -عز وجل- شكرًا، فقال: لا يفعل، ليس هذا مما مضى من أمر الناس. قيل له: إن أبا بكر الصديق فيما يذكرون سجد يوم اليمامة، شكرًا لله، أفسمعت ذلك؟ قال: ما سمعت ذلك، وأنا أرى أن قد كذبوا على أبي بكر، وهذا من الضلال أن يسمع المرء الشيء، فيقول: هذا شيء لم أسمع له خلافًا. فقيل له: إنما نسألك لنعلمَ رأيك فنردَّ ذلك به. فقال: نأتيك بشيء آخر أيضًا لم تسمعه مني: قد فَتحَ الله، قد فُتِحَ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى المسلمين بعده، أفسمعت أن أحدًا منهم فعل مثل هذا؟ إذا جاءك مثل هذا مما قد كان في الناس وجرى على أيديهم لا يسمع عنهم فيه شيء فعليك بذلك؛ لأنه لو كان لذُكِرَ؛ لأنه من أمر الناس الذي قد كان فيهم، فهل سمعت أن أحدًا منهم سجد؟ فهذا إجماع".

يعني إجماع على تركه.

"فهذا إجماعٌ، إذا جاءك أمر لا تعرفه فدعه. هذا تمام الرواية".

يعني الرواية عن مالك.

"وقد احتوت على فرض سؤال والجواب عنه بما تقدَّم. وتقرير السؤال أن يُقال في البدع مثلاً: إنها فعل ما سَكت الشارع عن فعله، أو تركُ ما أذِنَ في فعله، أو تقول: فِعْلُ ما سكت الشارع عن الإذن فيه، أو ترك ما أَذِنَ في فعله، أو أمرٌ خارجٌ عن ذلك، فالأول كسجود الشكر عند مالك حيث لم يكن ثَمَّ دليل على فعله، والدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات".

على كل حال سجود الشكر في قضايا مجموعها يدل على أن له أصلاً، من ذلك ما يُقرِّره شيخ الإسلام وغيره في الصلاة على الغائب، أنه كم مات من الصحابة وما صلى عليهم النبي- عليه الصلاة والسلام-، ولما مات النجاشي نعاه للناس، ودعاهم إلى الصلاة عليه، هل يكفي هذا في أصل مثل هذا مثل هذه المسألة؟ يكفي أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- صلى على النجاشي أو يقال: إنه مات جمعٌ غفير من الصحابة وما صلى عليهم؟ هذا ينتابه أكثر من نظر، من جهات متعددة، فمن قال: لا تشرع صلاة الغائب مطلقًا قال: الرسول -عليه الصلاة والسلام- ما صلى إلا على النجاشي؛ لأنه لم يُصلَّ عليه في بلده، فإذا مات الإنسان في بلد لم يصل عليه فيه صلي عليه وإلا فلا، منهم من قال: إذا كان الشخص الميت له أثر في الإسلام ردء للمسلمين، نفع الله به نفعًا عظيمًا للإسلام والمسلمين مثل النجاشي صلى عليه وإلا فلا، وبعضهم يختار أنه إذا كان الميت في جهة القبلة يُصلى عليه وإلا فلا، يعني مثل النجاشي بالنسبة إلى المدينة إذا استقبلت الكعبة صارت الحبشة في قبلتك، إلى أقوال كثيرة من أهل العلم فكلٌّ نظر إليها من زاوية، كلٌّ نظر إليها من زاوية.

"والدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلوات".

يعني الذكر الجماعي والدعاء الجماعي، كل هذا من البدع؛ لأنه لم يحصل في عهده -عليه الصلاة والسلام-.

"والاجتماع للدعاء بعد العصر يوم عرفة في غير عرفات".

هذا ما يُعرف عند أهل العلم بالتعريف في الأمصار، التعريف في الأمصار، وعلى مراتب، الأمر الذي لا يُشك في بدعته وتحريم فعله، وأنه أمرٌ مُختَرع كون جمع من الناس يتجهون إلى صعيدٍ من الصُعدات بإحرامهم، ويجتمعون فيه يدعون، ويذكرون، متشبهين بأهل الموقف، هذا لا إشكال في تحريمه.

 الأمر الثاني: ما ذكره هنا، أن الناس يجتمعون للدعاء يجتمعون، انظر يجتمعون للدعاء يعني الجماعي، بعد العصر في يوم عرفة في غير عرفة، للدعاء بعد العصر في يوم عرفة لغير عرفة ولو لم يترتب على ذلك لبس إحرام، يعني تشبه بهم من وجه غير وجه، هذا ما عُرِف، لكن عُرف عن السلف أنهم يحفظون صيامهم بالمكث في المساجد، فلو أن إنسانًا صام يوم عرفة ولزم المسجد يحفظ صيامه، وينتظر الصلوات، فيدعو في هذا اليوم العظيم لتجتمع له أكثر من عبادة، هذا لا يظهر منعه؛ لأنه جلس في المسجد يحفظ الصيام اقتداءً بالسلف، ينتظر الصلاة ويدعو الله -جل وعلا- وهو صائم، وهو ينتظر صلاة، فهو في صلاة، وجالس بعد صلاة فالملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه، هذا لا إشكال فيه من هذا النوع، انفرادًا لا جماعة، ما يجلس الإمام بالمحراب ويدعو ويدعون معه، هذا بدعة.

طالب:...

المقصود أن هذا اليوم يوم عظيم، يوم عظيم وهو يشرع فيه الصيام، وأفضل ما قلت أنا والنبيون في عرفة أم في يوم عرفة؟ خير الدعاء نعم؟ دعاء عرفة يعني يحتمل اليوم ويحتمل المكان، المقصود إذا هلل الإنسان يُثَرَّب عليه؟ يعني كبر وهلل وذكر الله في هذا اليوم العظيم ما يُثَرَّب عليه، لكن الكلام في المشابهة التي ما وقعت في عهد السلف، أما المكث في المساجد لحفظ الصيام هذا محفوظ.

"والثاني: كالصيام مع ترك الكلام، ومجاهدة النفس بترك مأكولات معينة، والثالث: كإيجاب شهرين متتابعين في الظهار لواجد الرقبة".

إيجاب شهرين متتابعين في الظهار، يعني إذا لم يجد رقبة، يصوم شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، لكن هذا واجد رقبة، والمسألة وهي في مسألة من جامع في نهار رمضان أظهر؛ لأنها واقعة، جامع خليفة من الخلفاء في نهار رمضان، فقيل له: صم شهرين متتابعين، الذي أفتاه بذلك يقول: لو قلنا له أعتق رقبة لجامع في كل يوم، كان يجامع في كل يوم ما يضره إنه يعتق كل يوم رقبة، عنده ألوف من الأرقاء، فهذا لا تردعه الكفارة فينقل إلى ما بعدها إلى شيء يردعه، لكن لو قيل له: صم زيادة يوم واحد ما جامع، فضلاً عن شهرين متتابعين، فهذا لاحظ مصلحة، وغفل عن كونه عارض المنصوص، المقطوع به، ولا اجتهاد مع النصّ.

"وهذا الثالث مخالف للنص الشرعي، فلا يصح بحال، فكونه بدعة قبيحة بَيِّن".

طالب:...

نعم؛ لأن مرده إلى إطعام النفس.

طالب:...

لا، هذا له وجه له وجه؛ لأنه قال: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}[سورة المائدة: 89]، كيف تطعم أهلك أنت؟ أنت إطعامك لأهلك يختلف عن زيد، ويختلف عن عمرو، فهذا يطعمه أفضل وهذا يطعمهم أقل، فأنت تطعم ما يناسبك، على كل حال الحد الضابط عند أهل العلم؛ لأن هذه الأمور لا يمكن ضبطه لو قيل بها لا يمكن ضبطها، فأهل العلم جعلوا الكفارة مضبوطة متقنة لا تزيد ولا تنقص، من أراد أن يزيد فله ذلك.

"وأما الضربان الأولان، وهما في الحقيقة فعل، أو تركٌ لما سكت الشارع عن فعله، أو تركه، فمن أين يُعلَم مخالفتهما لقصد الشارع، أو أنهما مما يخالف المشروع، وهما لم يتواردا مع المشروع على محل واحد".

يعني لم تنفك الجهة، لم تنفك الجهة.

"بل هما في المعنى كالمصالح المرسلة والبدع إنما أحدثت لمصالح يدعيها أهلها، ويزعمون أنها غير مخالفة لقصد الشارع ولا لوضع الأعمال. أما القصد فمسلم بالفرض، وأما الفعل فلم يشرع الشارع فعلاً نوقض بهذا العمل المحدث ولا تركًا لشيء فعله هذا المحدث كترك الصلاة وشرب الخمر، بل حقيقته أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع، والمسكوت من الشارع لا يقتضي مخالفة ولا موافقة، ولا يُفهِم للشارع قصدًا معينًا دون ضده، وخلافه".

هذا الكلام يمشي لو لم يرد ما يدلّ على أن إحياء البدعة إماتة للسُّنَّة، يعني جاء ما يدلّ على أن من أحيا بدعة فقد أمات سُنَّة شاء أم أبى، وكل إنسان يلمسه من نفسه، تحرص على دعاء أو على ذكر لا يثبت عند التحقيق والتمحيص، في مقابله تترك ذكرًا أو دعاءً صحيحًا، وهذا مُجرَّب، فلو لم يرِد أن من اهتم ببدعة، يعني هذه البدعة يقول: زيادة خير وقصد إصلاح وكذا ونية خالصة لله -جل وعلا-، لكن في طيّها إماتة سُنَّة، والسبب في ذلك أنها لم تكن على ما كان عليه النبي -عليه الصلاة والسلام-: «من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد»، وإن زعم صاحبها أنه على خير، وكم من مريد للخير لا يصيبه.

"فإذا كان كذلك رجعنا إلى النظر في وجوه المصالح، فما وجدنا فيه مصلحةً قبلناه إعمالاً للمصالح المرسلة، وما وجدنا فيه مفسدة تركناه إعمالاً للمصالح أيضًا، وما لم نجد فيه هذا ولا هذا فهو كسائر المباحات إعمالاً للمصالح المرسلة أيضًا، فالحاصل أن كل مُحدثة يُفرَضُ ذمها تساوي المحدثة المحمودة في المعنى".

لأن البدعة يضاهى بها السُّنَّة؛ لأن هذا العمل يُضاهي به السُّنَّة، هذا المبتدع إنما فعل هذا الفعل ليعمل عملاً يعمل نظيره المتَّبِع.

"فما وجه ذمّ هذه ومدح هذه ولا نَصّ يدل على مدحٍ ولا ذم على الخصوص؟ وتقرير الجواب ما ذكره مالك، وأن السكوت عن حكم الفعل، أو الترك هنا إذا وجد المعنى المقتضى للفعل أو الترك".

مقتضي.

 "المقتضي للفعل، أو الترك إجماع من كل ساكت على أن لا زائد على ما كان، وهو غاية في تحصيل هذا المعنى. قال ابن رشد: الوجه في ذلك أنه لم يَره مما شُرِع في الدين -يعني سجود الشكر-، لا فرضًا ولا نفلاً؛ إذ لم يأمر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا فعله، ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله".

لكن جاء في السنن والمسند ما يدل عليه.

"ولا أجمع المسلمون على اختيار فعله، والشرائع لا تثبت إلا من أحد هذه الوجوه".

الكتاب والسُّنة والإجماع.

"قال: واستدلاله على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يفعل ذلك ولا المسلمون بعده بأن ذلك لو كان لنُقِلَ صحيح؛ إذ لا يصح أن تتوفر دواعي المسلمين على ترك نقل شريعة من شرائع الدين، وقد أُمِرُوا بالتبليغ. قال: وهذا أصل من الأصول، وعليه يأتي إسقاط الزكاة من الخُضَرِ والبقول، ومع وجوب الزكاة فيها بعموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فيما سقت السماء والعيون البعل»".

والبعل.

 "«والبعل العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر»؛ لأنا نزلنا تَرْكَ نقل أَخْذِ النبي -صلى الله عليه وسلم- الزكاة منها كالسَنة".

كالسُّنَّة.

"كالسُّنَّة القائمة في أن لا زكاة فيها، فكذلك ننزل ترك نقل السجود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الشكر كالسُّنَّة القائمة في أن لا سجود فيه".

مع أنه جاء ما يدل عليه، ومثله صيام الست، الإمام مالك يرى أنها ليست بسنة، وأنه لم ير أحدًا من أهل الفقه والفضل والعلم يصومها، فهي عنده ليست بمشروعة، لكن إذا جاء نهر الله بطل نهر معقِل. مالك يقول هذا، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقِل، وما دام ثبتت بها السُّنَّة فلا كلام لأحد لا مالك ولا غير مالك.

 "ثم حكى خلاف الشافعي والكلام عليه، والمقصودُ من المسألة توجيه مالك لها من حيث إنها بدعة، لا توجيه أنها بدعة على الإطلاق".

يعني تقرير قول مالك وتوضيح وجهة نظره هذا المقصود، لا أن المقصود موافقة مالك أو مخالفة مالك.

"وعلى هذا النحو جرى بعضهم في تحريم نكاح المُحلِّل، وأنها بدعة منكرة، ومن حيث وُجِدَ في زمانه -عليه الصلاة والسلام- المعنى المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين، بإجازة التحليل ليُراجِعَا كما كانا أول مرة، وأنه لما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه، دلَّ على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها، وهو أصلٌ صحيح، إذ اعتَبَرَ".

إذا اعتُبِرَ.

"إذا اعتُبِرَ".

وضح.

"وضح به الفرق بين ما هو من البدع، وما ليس منها، ودل على أن وجود المعنى المقتضي مع عدم التشريع دليل على قصد الشارع إلى عدم الزيادة على ما كان موجودًا قبل، فإذا زاد الزائد ظهر أنه مخالف لقصد الشارع فبَطَلَ".

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

"