معنى الكراهة عند الفقهاء

السؤال
يُشكل عليَّ قول السادة الأئمة الفقهاء: (هذا مكروه)، وقولهم: (يُكره فعله)، وقولهم: (أكره ذلك)، وغيرها من العبارات التي يُعبِّر بها العلماء، وسؤالي -يا فضيلة الشيخ- عن معنى الكراهة هنا، هل هي الكراهة التحريمية، أم يقصد بها الكراهة التنزيهية؟ وكيف نوفِّق بين هذا وبين قول الله -جل وعلا- في آية الإسراء: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}؟
الجواب

الكراهة تَرد في النصوص وفي كلام أهل العلم ويُراد بها كراهة التحريم التي يأثم مَن فَعَل الفِعل الذي وُصِفَ بها، فترادف قولنا: حرام، وهذا كثير في إطلاق المتقدمين، وكثير وروده في النصوص، ومنه ما جاء في آية الإسراء: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] بعد أن عَدَّد -جل وعلا- كثيرًا من المحرمات المقطوع بتحريمها، بل المجمع عليها، فالكراهة هنا يراد بها كراهة التحريم التي يأثم مَن فَعَل ما وُصِفَ بها، والفقهاء اصطلحوا على الأحكام الخمسة التي هي: الوجوب، والاستحباب، والإباحة، والكراهة، والتحريم، فجعلوا الكراهة قسيمًا للتحريم وليست قسمًا منه، فيطلقونها على ما يُثاب تاركه امتثالًا ولا يعاقب فاعله، فليس فيها عقوبة، وإنما هي مجرد كراهة تنزيه، وعلى هذا استقر الاصطلاح.

وعلينا أن نفرِّق بين ورود اللفظ في كتب المتقدمين فيحتمل الكراهتين: التحريم والتنزيه، وهو في التحريم أكثر، وبين ما يرد في كتب المتأخرين عند استقرار الاصطلاح، فلا تكاد تجدها إلا بإزاء كراهة التنزيه.

وعلى كل حال المسألة اصطلاح ولا مُشاحَّة في الاصطلاح، كما أن الواجب في النصوص يطلق بإزاء ما يأثم تاركه، ويطلق أيضًا بإزاء الشيء المتأكِّد في حق الإنسان ولو لم يأثم تاركه، ومن ذلك عند جمهور أهل العلم قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث: «غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم» [البخاري: 858] يعني: متأكِّد. فينبغي أن تُلاحظ هذه الأمور ويُلاحظ تَغَيُّر الاصطلاح واختلافه مِن جيلٍ إلى آخر، فالاصطلاح عند المتقدمين يختلف عن الاصطلاح عند المتأخرين، وكلما قَرُب الاصطلاح من الاستعمال الشرعي في نصوص الكتاب والسنة كان أولى وأحرى بالاعتماد، لكن كونه يرد مخالفًا أو فيه نوع مخالفة لما جاء عند الأئمة المتقدمين فهو مجرد اصطلاح وبيَّنوا اصطلاحهم، ولا مُشاحَّة حينئذٍ في الاصطلاح مع هذا البيان، وعليه استقر عمل أهل العلم، على كل حال هذا -مثل ما ذكر أهل العلم- لا مُشاحَّة فيه، مع أن هذه الجملة (لا مُشاحَّة في الاصطلاح) لا تؤخذ على إطلاقها، فإذا وُجد اصطلاح من متأخرٍ يخالف ما اتفق عليه علماء فنٍّ من الفنون فلا بد أن يُشاحح فيه، فلو أَلَّف شخص في الجغرافيا وقال: أنا أُسَمِّي جهة الشمال جنوبًا، أو جهة الجنوب شمالًا؛ نقول: هذا يخالف ما عليه أهل الفن، ويغيِّر من الواقع، وكذلك لو قال: إن السماء تحت والأرض فوق، هذا يخالف الواقع ويُشاحَح فيه ولو بَيَّن في مقدمة مصطلحه، لكن لو ترك الشمال على جهته والجنوب على جهته، وخالف في وضع الخارطة فَقَلبها وجعل الشمال تحت والجنوب فوق، نقول: لا مُشاحَّة في الاصطلاح؛ لأن هذا لا يخالف من الواقع شيئًا.

على كل حال، الاصطلاح المخالف لما تقرر في علم من العلوم وعند أهله ودرجوا عليه بحيث لا يُعرف بل تتغير فيه الأحكام المرَتَّبة عليه، هذا يُشاحَح فيه، ولذا لما اصطلح البغوي لنفسه في (المصابيح) أن يسمي ما خُرِّج في الصحيحين: الصحاح، وما خُرِّج في السنن الأربعة: الحسان،

وَ(البَغَوِيْ) إذ قسَّم المصَابحا

أن الحسان ما رووه في السنن

إلى الصِّحاح والحسان جَانحا

رُدَّ عليه إذ بها غير الحَسَن.

فهو اصطلاح يُرد عليه، لماذا يُرد عليه والناس يقولون: لا مشاحة في الاصطلاح؟ لأنه يَحكم على أحاديث السنن كلها بأنها حسان! وفيها الصحيح وفيها الحسن وفيها الضعيف، ومقتضى ذلك أن نحكم على الضعيف بأنه حسن، وأن نحكم على الصحيح بأنه حسن، فهذا فيه مخالفة لما تقرر في علم الحديث، فيُرد عليه ويشاحَح فيه، فمثل هذه القاعدة تحتاج إلى شيء من التقييد، ولا تُقبل بإطلاقها.