فضل ليلة القدر واستحباب تحرِّيها

السؤال
في ختام شهرٍ كريم هو شهر الصوم -شهر رمضان- المبارك حريٌّ بالمسلم أن يتحرَّى ليلة القدر، وأن يعرف شيئًا من فضلها، فهلَّا تفضلتم بالحديث عن ذلك شيخنا؟
الجواب

ليلة القدر شأنها عظيم كما قال –سبحانه وتعالى-: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}؛ تعظيمًا لشأنها، {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 1-3]، أي: خيرٌ من ثلاثٍ وثمانين سنة، ليلة واحدة تعدل عُمر شخصٍ عُمِّر في هذه الدنيا ثلاثًا وثمانين سنة ليس فيها ليلة القدر، يعني: هذه السنوات أو هذه الأشهر -الألف شهر- ليس فيها ليلة القدر، فليلة واحدة هي من ليالي القدر خيرٌ من ثلاثٍ وثمانين سنة.

وجاء فيها الحديث الصحيح في (البخاري) وغيره من حديث أبي هريرة –رضي الله تعالى عنه-: «مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه»، الحديث في الصحيحين [البخاري: 35 / ومسلم: 760]، «إيمانًا واحتسابًا» أي: تصديقًا بوعد الله –جلَّ وعلا- واحتسابًا لثوابه لا رياءً ولا سُمعة.

فعلى المسلم أن يحرص على قيامها، فعن عائشة –رضي الله عنها- قالت: «كان النبي –صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر شدَّ مِئْزَرَهُ، وأحيا ليله، وأيقظ أهله»، وهذا أيضًا في الصحيحين [البخاري: 2024 / ومسلم: 1174].

ومفهوم قولها: «أحيا ليله» أنه لا ينام في هذه الليالي، وكان –عليه الصلاة والسلام- يخلط العشرين بقيامٍ ونوم، لكن إذا دخلت العشر شدَّ المئزر، وطوى فراشه، وأحيا الليل، مع أنه –عليه الصلاة والسلام- ما حُفِظ عنه أنه قام ليلةً كاملة إلا في هذه العشر، والتي هي أفضل ليالي العام؛ لأن فيها ليلة القدر.

والعلماء حينما يُفاضلون بين هذه العشر وبين عشر ذي الحجة، يُقرِّر بعضهم أنه بالنسبة لليالي فليالي عشر رمضان أفضل، وبالنسبة للنهار فنهار عشر ذي الحجة أفضل، وما ذلكم إلا لأن ليالي عشر رمضان فيها ليلة القدر، وأيام العشر من ذي الحجة فيها يوم عرفة أفضل يومٍ طلعت عليه الشمس.

وسُميتْ ليلة القدر بهذا الاسم؛ لِعظم شأنها عند الله –جلَّ وعلا-، أو لِعظم شأن وقدر مَن يقوموها، أو لأنه يُقدَّر فيها ما يكون في أيام العام، والمقصود أنها ذات قدرٍ عظيم وشأن، فمن وُفِّق لقيامها إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن حُرِم القيام فيها «فَقَدْ حُرِمَ» كما جاء في الحديث [النسائي: 2106]، فلا أشد من هذا الحرمان؛ ولذا فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- كان يُحيي هذه الليالي؛ رجاء أن يُصيب هذه الليلة العظيمة.

وهي تنتقل في ليالي العشر كلَّ سنةٍ في ليلة؛ ولذا جاءت النصوص الصحيحة مختلفة في هذا الباب، فقد جاء في الحديث المتفق عليه عنه –عليه الصلاة والسلام-: «مَن كان اعتكف معي، فليعتكف العشر الأواخر، وقد أُريتُ هذه الليلة ثم أُنسيتُها، وقد رأيتُني أسجد في ماءٍ وطينٍ من صبيحتها»، قال أبو سعيدٍ الخدري –رضي الله عنه- راوي الحديث: فوكف المسجد ليلة إحدى وعشرين، ورُؤي الطين في وجهه –عليه الصلاة والسلام- صبيحة إحدى وعشرين [البخاري: 2027 / ومسلم: 1167].

ومع ذلك يقول في الحديث الصحيح: «أرى رؤياكم قد تواطأتْ في السبع الأواخر، فمَن كان مُتَحَرِّيها فلْيَتَحَرَّها في السبع الأواخر» [البخاري: 2015]، إذن هي تنتقل، فقد تكون ليلة إحدى وعشرين، وقد تكون ليلة ثلاثٍ وعشرين، والأوتار آكد وأرجى، لكنها قد تقع في غير الأوتار، إذا كان في العشر الأواخر «في سابعةٍ تبقى، في خامسةٍ تبقى» [البخاري: 2021]، فإذا كان الشهر كاملًا فالسابعة تبقى هي ليلة أربعٍ وعشرين، وهي المُرجَّحة عند أهل البصرة: عند أنس بن مالك -رضي الله عنه-، والحسن البصري -رحمه الله-.

 فإخفاء ليلة القدر مقصد شرعي؛ من أجل أن يجتهد المسلم، ويتعرَّض لنفحات الله –جلَّ وعلا-، ويُري الله –عزَّ وجلَّ- من نفسه خيرًا خلال هذه العشر كلها، وإلا فإن المؤيَّد بالوحي –عليه الصلاة والسلام- يُمكنه أن يُحدِّدها بليلةٍ معينة، مع أنه كان يُريد –صلى الله عليه وسلم- أن يُبينها، فتلاحى رجلان، فرُفِعت [البخاري: 49]، يعني: رُفِع تحديدها. وعلى هذا ليس من المصلحة، بل من الخطأ من بعض الناس أن يُشيع من خلال الرسائل أو المكالمات أن ليلة القدر في هذه السَّنة ليلة كذا، من خلال رؤيًا رآها بعضهم، ولو ترجَّحتْ عنده، والرسول –عليه الصلاة والسلام- المؤيَّد بالوحي ما حدَّد، ورأى رؤياهم قد تواطأتْ يعني: توافقتْ، ولا بيَّن –عليه الصلاة والسلام- أن رؤياهم تواطأت على ليلةٍ معينة «أرى رؤياكم قد تواطأتْ في السبع الأواخر»، والتواطؤ يعني: التوافق، ومع ذلك لم يُحدِّد ليلةً بعينها، وهو المؤيَّد بالوحي -صلى الله عليه وسلم-، فمن الخطأ أن يتبادل الناس الرسائل أو المكالمات في تحديد ليلةٍ معيَّنة بناءً على رؤيا؛ لأن الحكمة من إخفائها أن يجتهد المسلم، ويَكثر منه التعبُّد كما أُخفيتْ ساعة الجمعة، وإلا فبالإمكان أن يأتي النص القاطع أن ساعة الجمعة كذا، وأن ليلة القدر كذا، وهكذا، لكن من الحكمة ألَّا تُحدَّد، فيجتهد المسلم، ويكثر العمل في حياته، وهو على خير على كل حال، وأما كونه يعتمد شيئًا معينًا بذاته بحيث لا يزيد عليه فلا شك أن مثل هذا حرمان، والله أعلم.