الغشي عند قراءة القرآن

السؤال
مَن قرأ القرآن وغُشي عليه، هل هذا الفعل صفة مدح، أو ذم؟
الجواب

أولًا: النبي -عليه الصلاة والسلام- أخشى الناس لله، وأتقاهم، وأعلمهم بالله، لم يحصل له شيء من ذلك، يقرأ القرآن ولصدره أزيز كأزيز المِرْجَل، يعني: يبكي [أبو داود: 904 / والنسائي: 1214]، لكنه لم يُؤثَر عنه أنه صُعق أو غُشي عليه، وكذلك الصحابة -رضوان الله عليهم-. ووُجِد في التابعين، فمن أهل العلم مَن ينفيه بالكلية، ويقول: هذا لا يصير، ولو صار فليس بشرعي ولا يُمدح عليه. وابن سيرين يُنكر أن يوجَد، ويقول: ضعوا هذا الذي يُغشى عليه على جدار، واقرؤوا عليه القرآن، فإن سقط من الجدار ففعله صحيح، وإلا فهو تمثيل.

وكثير من أهل العلم يرون أن هذا واقع، وقد حصل لبعض التابعين ومَن بعدهم، وإن لم يحصل للنبي -عليه الصلاة والسلام- وكبار الصحابة -رضي الله عنهم- وسادات الأمة. وشيخُ الإسلام يُبرِّر هذا ويُعلِّله بأن القرآن ثقيل ومُؤثِّر أثرًا بالغًا في النفوس، لكن هذا الكلام الثقيل المُؤثِّر إذا وقع على قلبٍ قويٍّ كقلب النبي -عليه الصلاة والسلام- وقلوب الصحابة -رضي الله عنهم- حصل التكافؤ، فتحتمل قلوبهم مثل هذا القول الثقيل، لكن إذا وقع هذا القول الثقيل العظيم على قلب يستشعر عظمة هذا القول مع ضعف المورود الذي هو القلب يحصل مثل هذا الغشي، وهذا بالنسبة للتابعين وتابعيهم موجود وكثير، فعندنا: وارد ومورود، الوارد على كل حال ثقيل ومُؤثِّر تأثيرًا بليغًا، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، وهو جبل، فإذا كان المورود قويًّا يحتمل هذا القول الثقيل لم يحصل له اختلال، لكن إذا كان المورود ضعيفًا، كحال مَن بعد عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة -رضي الله عنهم-، فقد ضَعُفت القلوب مع استشعارها قوة الوارد، فإنه يحصل هذا الاختلال، لكن لا بد من استشعار قوة الوارد، وإلَّا فقد يقول قائل: (قلوبنا أضعف من قلوب التابعين)، لكننا مع الأسف لا نستشعر قوة الوارد؛ لِما ران على قلوبنا من الذنوب، {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: ١٤]، فما نكسبه يُغطي على قلوبنا من استشعار قوة الوارد، فلا يحصل لنا شيء، فيبدأ الإنسان، وأنا أتحدث عن نفسي، ولا أقول هذا إلا مع مطابقة الواقع، بدأتُ في سورة يونس، ولم أشعر إلا وأنا بيوسف، والله إنها مرَّتْ علي سورة هود كاملة وما أدري أنا قرأتُها أو ما قرأتُها! وجاء في الحديث «شيَّبتني هود وأخواتها» [الترمذي: 3297 / والمعجم الكبير للطبراني: 5804]، إلى الله المشتكى، وزرارة بن أوفى -رحمه الله- قرأ: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] في صلاة الصبح، فخرَّ مغشيًّا عليه فمات، فهل نقول: إن هذا يُمثّل؟ قد يقول قائل: (هل هي أول مرة يسمع هذه الآية، أو يقرأ هذه الآية؟ فقد قرأها مرارًا، وسمعها مرارًا)، نقول: نعم، هذا على قول مَن يقول: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، كلام صحيح، لكن إذا قلنا -وهو قول أهل السنة والجماعة-: إن الإيمان يزيد وينقص، فزاد عنده الإيمان، واستشعر القوة في هذا القرآن، وقلبه ضعيف عن احتمال هذه القوة، فحصل له ما حصل. ونحن ما عرفنا أن هذه الآية لها معنى حتى سمعنا مثل هذه القصة، مع أننا قرأنا عنها في التفسير، وتأمَّلناها، ونظرنا فيها، بكلام عربي فصيح، يفهمه كل الناس، ومع ذلك هل نستشعر هذه العظمة؟ فكيف يُؤثِّر فينا وهذا واقعنا؟! نقرأ القرآن من أوَّله إلى آخره، ونخرج منه بدون جدوى، وغاية ما نؤمِّل أن يحصل لنا أجر قراءة الحروف: بكل حرف عشر حسنات، أما مسألة التدبُّر، والترتيل، والقراءة على الوجه المأمور به، التي يقول فيها شيخ الإسلام: مَن قرأ القرآن على الوجه المأمور به، حصل له من العلم واليقين والطمأنينة ما لا يُدركه إلا من فعل.

فتدبَّرِ القرآنَ إنْ رُمتَ الهُدى
 

 

فالعلمُ تحتَ تدبُّرِ القرآنِ
 

فإننا مع الأسف أننا نقرأ القرآن كأننا نقرأ الجرائد، ونسمع القرآن كأننا نسمع الأخبار، بل العكس: الإنسان إذا قرأ الجريدة ينتبه لما يقرأ، وإذا سمع الأخبار يُصغي إلى هذه الأخبار، لكن يسمع القرآن وكأنه لا يُقرأ، وإذا جاءت الأنظمة والتعليمات واللوائح إلى دائرة من الدوائر، اجتمع مدير الدائرة ورئيسها ووكلاؤها ورؤساء الأقسام والمسؤولون في هذه الدائرة، اجتمعوا لدراسة هذه اللوائح، ودوَّنوا ما يُشكل عليهم، ورفعوها للاستفسار، وعندنا كلام ربنا الذي نُؤمر فيه ونُنهى مباشرة من قبل الله -جل وعلا-، ولا نهتم لشيء من ذلك، والله المستعان.