كتب التاريخ التي يُنصح بها طالب العلم

السؤال
ما هي أفضل كتب التاريخ؟ وهل ترون أن طالب العلم يلزمه أن يطّلع على التاريخ؟
الجواب

الأصل في العلم الذي وردت به النصوص في فضله والحث عليه وبيان شرفه ومكانة أهله وحملته أنه العلم الموروث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، والعلماء هم ورثة الأنبياء، والمراد بهم الذين يخشون الله -جل وعلا-، الذين يورثهم علمُهم الخشية. هناك علوم تعد روافد فيها فوائد وفيها مُتَع واستجمام واعتبار واتعاظ، فمنها كتب التواريخ التي فيها نوع من الاستجمام للذهن والتنشيط له، وفيها أيضًا عبرة وعظة، ولا شك أن التواريخ وقراءة السيَر من أعظم ما يفيد العالم وطالب العلم في معرفة النظائر؛ لأن السنن الإلهية لا تتغير ولا تتبدل.

من كتب التواريخ التي كتبت (تاريخ الإمام محمد بن جرير الطبري)، لكن باعتباره متقدمًا ينقصه كثير مما يتعلق بالقرون المتأخرة، فالإمام ابن جرير توفي سنة عشر وثلاثمائة، فانقطع قبل بداية القرن الرابع، مع نهاية القرن الثالث، وهو تاريخ عظيم يرويه الإمام محمد بن جرير عن شيوخه بالأسانيد، وفيه أخبار ضعيفة وبرئ من عهدتها بذكر السند. ومن التواريخ المهمة تاريخ ابن الأثير المسمى بـ(الكامل)، وهو ليس بكامل؛ لأن فيه خرمًا في آخره، وأنا لا أجزم أنه من أصل المؤلَّف لكن نهايته ليست طبيعية في جميع طبعاته، ومع ذلك في سياق الأحداث وصياغتها لا نظير له، يفوق ابن كثير من هذه الحيثية، وتاريخ الحافظ ابن كثير المسمى بـ(البداية والنهاية) تاريخٌ جامعٌ للحوادثِ والفوائد العلمية والتراجم والنقد والتمحيصِ -على أنه يمر في أشياء كثيرة بدون تمحيص، لكن ابن كثير رحمه الله ناقد- وبيانِ مناهج بعض من تقدّم من المؤرخين، فينتقد المؤرخين وينصفهم -رحمة الله عليه-، فعلى سبيل المثال في ترجمة ابن الراوندي ذكر الحافظ ابن كثير أن ابن خَلِّكان ترجمه وأطنب في ذكره والثناء عليه على عادته في العناية بالأدباء دون الفقهاء والعلماء، فأثنى على هذا الرجل الذي رُمي بالزندقة، قال ابن كثير: (ولا كأن الكلب أكل له عجينًا)، يعني ما اهتم بما يعتقده هذا الشخص من إلحاد ومن مخالفة وزندقة، المفترض أن العالم يبيّن، والبيان واجب؛ لئلا يُغتر به، فتجد بعض الناس يثني على بعض من رُموا بالإلحاد اعتمادًا على كلام ابن خَلِّكان، وابن خلكان ينظر إليه من الناحية الأدبية ولا ينظر إليه من ناحية الاعتقاد ولا غيره، المقصود أن هذا اهتمامه، والحافظ ابن كثير بيّن في هذه النقطة منهج ابن خلكان في تراجم الرواة، فليكن طالب العلم منها على حذر، ابن كثير يبيّن ما للرجل وما عليه، وهو كتاب حافل، يُعد مصدرًا في تراجم أهل العلم، وفي كل سنة يذكر من توفي فيها من الأعيان من العلماء وغيرهم، فهو تاريخ جامع للحوادث وللتراجم.

ومن التواريخ أيضًا التواريخ الخاصة بالبلدان كتاريخ ابن عساكر (تاريخ دمشق)، أو (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي، أو (تاريخ أصفِهان) لأبي نُعيم وغير ذلك من التواريخ، كتواريخ مكة، وتواريخ المدينة، وتواريخ البلدان هذه فيها فوائد، وفيها نفائس وكلام على الرواة، وفيها أيضًا أحاديث تُروى من طرق هؤلاء العلماء، فهي من مصادر التخريج وإن كان فيها الضعيف كثيرًا لكنها من مصادر التخريج، ويُعنى بها أهل العلم؛ لأنها تذكر الأحاديث بالأسانيد عن طريق هؤلاء العلماء الذين يترجمون لهم، فهي من الكتب المهمة ويعنى بها طالب العلم.

ومن التواريخ ما يُحتاج إليه في تكميل التواريخ السابقة، فإذا كان (تاريخ الطبري) ينتهي قبل سنة ثلاثمائة، وابن كثير ينتهي قبل سنة سبعمائة وأربع وسبعين، وابن الأثير ينتهي قبل ذلك في ستمائة، يحتاج الإنسان إلى ما تأخر من التواريخ، يحتاج إلى مثل كتب الحافظ الذهبي، ويحتاج (شذرات الذهب) لابن العماد؛ لأنه إلى سنة ألف، ويحتاج أيضًا إلى التواريخ المرتبة على القرون كـالقرن السابع –مثلاً- وفيه (البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع) للشوكاني، فيه تراجم لا توجد في غيره، يحتاج أيضًا للقرن الثامن وفيه (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة) للحافظ ابن حجر، ويحتاج إلى القرن التاسع وفيه (الضوء اللامع) للحافظ السخاوي، ويحتاج أيضًا إلى (الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة) للغزي، ويحتاج إلى القرن الحادي عشر وفيه (خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر) ويحتاج إلى الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر وفيها (نيل الوَطَر) وفيها غيره من الكتب، المقصود أن طالب العلم يجمع هذه الكتب ليكمِّل بعضها بعضًا.

وهناك أيضا كتب تواريخ لكنها تواريخ نقدية، تنقد وتمحص الأخبار بالرأي لا من حيث الأسانيد، كتاريخ ابن خلدون (العِبَر وديوان المبتدأ والخبر) أما (العِبَر في خبر من عبر) أو (غبر)، فهذا للحافظ الذهبي، وكتاب ابن خلدون لا شك أنه يرسم منهجية لطالب العلم بحيث لا يقبل التواريخ على عواهنها وعلاتها، ولذا يقول القحطاني في نونيته:

لا تقبلن من التوارخ كلما

جمع الرواة وخط كل بنان

فلا شك أن المؤرخين لهم نظراتهم وتحليلهم للأحداث والأخبار، وتقييمهم للرجال يختلف، ولا شك أن المؤثرات موجودة، وهم بشر، فإذا قرأت في ترجمة حنبلي –مثلاً- عند مؤرخ حنفي أو العكس لا شك أن لاختلاف المذهب أثره في النفس، ولذلك -وهذا من الطرائف- في ترجمة ابن مفلح عند ابن تغري بردي في (المنهل الصافي) أو في (النجوم الزاهرة) غمزه في مسألة تيمور، فابن تغري بردي حنفي غمز برهان الدين ابن مفلح وهو من الحنابلة، فأثنى عليه كثيرًا ثم قال: لولا دخوله في مسألة تيمور، ومسألة تيمور مبسوطة في (النجوم الزاهرة) في الجزء الثاني عشر صفحة مائتين وأربعين فما بعدها، وهي قصة مؤثرة جدًا جدًا جدًا، لو قرأها عرف كيف يتعامل هؤلاء الظلمة في حروبهم للمسلمين كما يحصل الآن في بلاد المسلمين، وأن لكل قوم وارث، غمزه في دخوله في مسألة تيمور؛ لأنه حنبلي وهذا حنفي والله أعلم بالمقاصد، لكن هذا الذي يظهر، بينما السفّاريني في (غذاء الألباب) مدحه بسبب مسألة تيمور؛ لأن السفاريني حنبلي، فلا شك أن هذه المذاهب لها أثر في النفوس وإن كان الأصل في المسلم الإنصاف ولا يظن به غير ذلك إلا إذا ظهر في ثنايا كلامه ما يدل على خلاف ذلك، فالإنسان يكون على حذر من قراءة التواريخ، ولذا القحطاني في نونيته الشهيرة المفيدة النافعة الجامعة يقول:

لا تقبلن من التوارخ كلما

جمع الرواة وخط كل بنان

فلذا التاريخ النقدي مهم جدًا، وطالب العلم إذا قرأ في تاريخ ابن خلدون تولدت لديه ملكة، لكن لا تكون حساسيته أكثر من اللازم بحيث يرد كل شيء، بل الأصل في المؤرخين أنهم مسلمون وعلماء وثقات، لكن يبقى التحسس فلا يقبل كل شيء.