وصايا لطلاب الشريعة الذين قاربوا التخرُّج

السؤال
أبناؤكم الحاضرون -حفظكم الله- كلهم على وشك التخرُّج -بإذن الله-، فبعد قرابة شهر من الآن سينتهون من الدراسة النظامية في الكلية، فإذا تكرمتم بكلمة توصون بها المستمعين جميعًا، وخصوصًا الإخوة الذين على وشك التخرُّج، والنزول إلى ميدان العمل، وهم من طلاب قسم الشريعة جميعًا.
الجواب

 هؤلاء الإخوة -وفقهم الله لكل خير- درسوا مدة ستة عشر عامًا، وحصَّلوا ما حصَّلوا من علم، وأدركوا ما أدركوا من خير، ونذكرهم بكلام ربيعة شيخ الإمام مالك إذ يقول -رحمه الله تعالى-: "لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيِّع نفسه"، هذه وصية للجميع، لكنها تنطبق عليكم؛ لأنكم الآن في مفترق طرق، منكم من سوف يذهب إلى القضاء، ومنكم مَن سيذهب إلى التعليم، والكثير سيذهب إلى وظائف إدارية، ككُتَّاب ونحو ذلك، فالآن أدركتم شيئًا من العلم، وبأيديكم المفاتيح، فالكليات الشرعية تؤهِّل طالبَ علم باحث، يستطيع أن يتعامل مع الكتب، لكنها ما تُخرِّج علماء، فلا يسوغ ولا يليق بطالب العلم أن يضيِّع نفسه، قد يقول قائل: كيف يضيِّع نفسه؟ هذا شيء مدرك وملموس، فهل تتصوَّرون أن من كبار القضاة، بل من قضاة التمييز، مَن هم في مستوى العوام في التحصيل العلمي الآن؛ لأنهم ضيَّعوا أنفسهم، ومن كبار الموظفين الذين تخرَّجوا من كليات شرعية، وحصلوا على ماجستير ودكتوراه في تخصصات شرعية، لكنهم لزموا الطاولات والوظائف الكتابية، وسنة وسنتان يضيِّع الإنسان ما حصَّل؛ لأنه الآن لا يتقدَّم، وإنما يرجع إلى الوراء، ويمحو ما حصَّل في هذه المدة؛ لأن العلم بالتعلُّم، ولا يَحفظ العلم ولا يزيده إلا متابعة القراءة والتحصيل، وحضور الدروس عند المشايخ، والتدريس إذا تأهَّل الإنسان له، والتأليف إذا تأهَّل له كذلك، فهذه روافد للتحصيل، بحيث يستمر، وكم زملاء المشايخ الموجودين البارزين -مثلًا-؟ دعنا نضرب أمثلة، فمثلًا: الشيخ ابن جبرين، كم له من زميل في وقته درسوا معه؟ خمسون، لنقل: مات منهم عشرون -مثلًا-، فأين الثلاثون الآخرون؟ انشغلوا بأمور دنياهم، وضيَّعوا أنفسهم، ولنقل: منهم اثنان أو ثلاثة تابعوا وحصَّلوا شيئًا من العلم، لكن هل فيهم مثل الشيخ؟ وكم زملاء الشيخ ابن فوزان، والشيخ ابن غديان، والشيخ فلان، والشيخ فلان؟ هؤلاء الشيوخ الكبار، فضلًا عن الشيوخ الذين مضوا في سبيلهم، لهم زملاء كثُر أين هم؟ هل تدرون ما السبب؟ السبب أنهم ضيَّعوا أنفسهم، وكم طلاب الشيخ عمر بن سليم؟ وكم طلاب الشيخ محمد بن إبراهيم؟ أين راحوا؟ والحديث ليس عن الطبقات التي مضت إلى سبيلها، وإنما عن الموجودين الآن، هل تتصوَّرون أن شخصًا من هيئة كبار العلماء، ورئيس محاكم منطقة، يمشي مع الشيخ ابن جبرين ولا كأنه سوَّاق الشيخ! ما السبب؟ وأنا كلمتُه مرارًا لماذا لا تضع دروسًا؟ قال: (وضعنا دروسًا أول الأمر، واجتمع لنا عشرة طلاب، ثم يوم جاء رمضان انقطع خمسة، ويوم حججنا ما عاد إلا واحد)، قلتُ: يكفيك الواحد، ولو أحضرتَه ليقرأ عليك بأجرة فليس بكثير، والمسألة مسألة امتحان.

وأنا أدركتُ الشيخ ابن جبرين وما عنده إلا طالب واحد، وليس بسعودي، والآن الحضور عنده بالمئات، وفي بعض دروسه بالآلاف، والله المستعان.

وذُكر في ترجمة الشيخ ابن عثيمين ما تعرفون، وقد جاء الشيخ مرة ودخل المسجد وإذا فيه كتاب في الحلقة، وضعه صاحبه وخرج، فأخذ الشيخ مصحفًا وجلس يقرأ؛ لئلا يُحرِج الطالب، ولمَّا جاء الطالب ورأى الشيخ يقرأ لم يُرِد أن يُكدِّر على الشيخ، فأخذ الكتاب وخرج.

وفي سنة خمس وتسعين لما بدأنا في أول درس على الشيخ ابن باز، كنا خمسة طلاب، ولم يتجاوزوا العشرة إلى سنة أربعمائة، وهو الشيخ ابن باز، فالمسألة تحتاج إلى معاناة، وتحتاج إلى جهاد، ولا يحقر الإنسان نفسه.

ومن أنفع ما ينفع الإخوان اختصار الكتب، فيأتي إلى (البخاري) ويختصره، ما المانع؟ ويأتي إلى (تفسير ابن كثير) ويختصره، والاختصار يثبِّت العلم، ولا أقول: يختصره ليطبعه وينفع الناس، وبكرة يكون عنده عشرون كتابًا أو ثلاثون كتابًا يُزاحم بها المؤلفين، وإنما يُبقيه عنده، ويستفيد هو منه، ثم إذا راجعه فيما بعد، ورأى أنه يستحق النشر، أو عرضه على مَن يثق بنصيحته، وقال: إنه يصلح للنشر، فينشر؛ لأن النفع مطلوب، لكن أهم ما عليه نفسه، فلا ينبغي للواحد منا أن يضيِّع نفسه، وفي بعض الروايات أن "يَضع نفسه"، كيف يَضع نفسه؟ إذا امتهن هذا العلم الذي في صدره، وضع نفسه.

ولوْ أنَّ أهلَ العلمِ صانوهُ صانهمْ               .

 

ولوْ عظَّموهُ في النفوسِ لعُظِّما             .

فتجد مَن عنده شيء من العلم يُذل نفسه بما يشبه التسوُّل، فهل مثل هذا يليق بطالب علم شرعي؟! لا يليق أبدًا، فنصيحتي للإخوان جميعًا أن يتابعوا التحصيل، والانتفاع من أهل العلم ماداموا موجودين، وأن يُكثروا من المطالعة المرتَّبة المنظَّمة، وإذا تأهَّلوا للنفع عليهم أن يُبادروا به.