المفاضلة في هذا الزمان بين الدعوة إلى الله وبين أعمال البر

السؤال
الكثير اليوم من الشباب وطلاب العلم يتزاحمون على أعمال البر عمومًا، والاشتراك فيها، وتأسيس الجمعيات التي تُعنى بذلك، ولا تجد لأحدهم أيَّة مشاركة في الدعوة إلى الله، وإذا طُلب منهم ذلك تحجَّجوا باستغراق أوقاتهم بأعمال البر، فلا نجد إلا القليل الذي يهتم بالشباب، ودعوتهم، والجلوس معهم، وزيارتهم في أماكن تجمعاتهم، فأيهما أفضل: الدعوة إلى الله، أم أعمال البر في هذا الزمان؟
الجواب

من نعم الله -جل وعلا-، بل من أعظم نعمه على هذه الأمة أن نوَّع لها العبادات، وكلٌّ ميسَّر لما خُلق له، فبعض الناس عنده البذل البدني، تجده ليل نهار يعمل ببدنه، لا يَملُّ ولا يَكلُّ، وبعض الناس يبذل العلم ليل نهار، وبعضهم يبذل المال بدون قياس، والأمة في مجموعها متكاملة والحمد لله، وكل الأبواب -ولله الحمد- مغطَّاة بقَدرٍ ولو لم يكن كاملًا أو قريبًا من الكمال، لكن التوازن موجود، فالدعاة موجودون، وكذلك القضاة، والعلماء، والعاملون بأعمال الأبدان، والمنفقون للأموال، كلهم موجودون، وإن كان التقصير عند كلٍّ حاصلًا، لكن يبقى أن التنوُّع هذا من مقاصد الشرع، فلا يتَّجه الناس كلهم إلى عمل واحد، وعلى سمْت واحد، فتُعطَّل الأعمال الأخرى.

وبعض الناس عنده استعداد أن يقرأ في اليوم من القرآن عشرة أجزاء، لكن يشق عليه أن يصلي ركعتين، حتى إنه من الإيغال في مثل هذا الباب يجلس ساعتين أو ثلاثًا يقرأ عشرة أجزاء، فإذا مرَّتْ به آية السجدة استصعبها! وبعض الناس مستعدٌّ لأن يدفع الملايين، ولا يركع ركعتين، وبعض الناس عنده استعداد أن يصلي مائة ركعة، ولا يدفع درهمًا، فتنوُّع هذه العبادات من نِعم الله -جل وعلا- على خلقه، والواجب لا بد من أدائه على كل أحد، وهذا قاسم مشترك للجميع، ويبقى القدر الزائد على الواجب، فهذا نفسه ما تسمح ببذل الأموال، مع وفائه بالزكاة والنفقات الواجبة، وعنده استعداد لأن يخدم ببدنه، فيُؤجَر على خدمته، وفَتَح الله له بابًا. وبعض الناس مستعدٌّ لأن يبذل الأموال، ولا يُحرِّك ساكنًا ببدنه، نقول: ادفع الأموال، والأمة بحاجة إلى المال، وهكذا في جميع أبواب البر.

وإذا قام شخص بعمل ونجح فيه، فليس من المصلحة أن يُكلَّف بغيره، إلَّا إذا كان وقته يستوعب، ويُرَى منه ويُؤنَس منه النجاح في العمل الثاني. فتأتي إلى شخصٍ لَزِم التعليم، وعنده دروس منظَّمة وثابتة، وتقول له: (تعال في عصر رمضان نخرج إلى أماكن تجمع الشباب، وندعوهم، ونوزِّع عليهم أشرطة ومطويات)! هو عنده درس يا أخي، بينما عندك شخص آخر مستعدٌّ أن يمكث إلى الفجر يوزِّع، والحمد لله إذا قامت هذه الأمور، هذا على يدِ بعض الناس، وهذا على يدِ آخرين، فالحمد لله، هذا هو التكامل، وهذا هو المطلوب شرعًا، فالتوازن مطلوب، ولذلك مَن جاء يسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن أفضل الأعمال عددٌ من الصحابة -رضي الله عنهم-، وتجد جوابه -عليه الصلاة والسلام- لهذا يختلف عن جوابه لهذا، فما قال لهم كلهم: الجهاد في سبيل الله، ولا قال لهم كلهم: برُّ الوالدين، وإنما قال لواحد كذا، ولواحد كذا، ولواحد كذا؛ لأنه ينظر الناس أشبه ما يكون كل واحد منهم بمدرسة، كما أن العلماء مدارس: كل عالم مدرسة مستقلة تختلف عن غيره، كذلك طاقات الناس -أيضًا-: كل واحد منهم يختلف عن غيره، فقد ينفع هذا في هذا الباب، وإذا وجَّهته إلى غيره تجده صفرًا، فما تُكلِّفه بهذا، وإنما يوجَّه إلى ما ينفع، ويجد نفسه تنشرح له من العمل، أما أن يُكلَّف بعمل لا يُطيقه أو لا يُحسنه، فهذا تضييع وتفتيت للجهود.

فإذا دُرِستْ أوضاع أهل الخير ومحبيه، فينبغي أن يصنَّفوا كلًّا فيما يناسبه، فلا تُكلِّف شخصًا اعتاد ملازمة المسجد، وقراءة القرآن، وينفع الله -جل وعلا- بعلمه وبدعوته الصالحة هذه الأمة، ويُزيل عنها غمَّةً؛ بسبب دعوة صالحة منه، وتقول له: (تعال نوزِّع مطويات)! هذا عمل خير لا شك، ودعوة إلى الله، لكن خَلِّ هذا في سبيله، وابحث عن آخر، ولو أَطرتَ ذلك الآخر الذي عنده استعداد أن يمكث إلى الفجر يوزِّع أن يأتي إلى المسجد، ويجلس ربع ساعة يقرأ جزءًا من القرآن ما استطاع، فلا شك أن هذا فيه شيء من التضييع إذا كلَّفنا الناس بغير ما يَهوون ويستطيعون.