لا شك أن المُجاهِر مستخِفٌّ بمحارم الله، فلا شك أن جُرمه عظيم، وأولئك الأقوام الذين إذا خَلَوا بالمحارم انتهكوها؛ لكونهم يُظهِرون للناس أنهم على قدر كبير من النُّسك، فإذا خَلَوا بالمحارم انتهكوها. أما بالنسبة لمن لا يُظهِر للناس خلاف باطنه، ويفعل المعاصي في السِّر؛ فإن أمره أَخفُّ من المُجاهِر بلا شك. فإذا كان الإنسان يُظهِر للناس تجده يُحدِّث بهذا الحديث، ويجعله موضوعًا لمحاضرات أو لدروس، ويَذمُّ مَن إذا خلا بالمحارم انتهكها، وهو يَفعل؛ لأنه يُظهِر للناس خلاف ما عليه حقيقته. وقريب من هذا في حديث: "الأعمال بالنيات": «فمَن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومَن كانت هجرته لدنيا يُصيبها، أو امرأة يتزوَّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» [البخاري: 1]، وهذا لا شك أنه سيق مساق الذَّمِّ، لكن هل يُذمُّ مَن سافر إلى بلدٍ من البلدان لطلب الرزق؟ أو مَن بَحَث عن زوجةٍ في بلده فلم يجد، فهاجر إلى بلد ليتزوَّج؟ ما يُذمُّ، لكنَّ الذَّمَّ حينما يُظهِر للناس أنه إنما هاجر لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو في الحقيقة إنما هاجر للدُّنيا، أو المرأة التي يتزوَّجها. فلو أن إنسانًا عنده غرفة في مسجد، وفيها تمر وماء، وفيها أدوات القهوة والشاي، وما أشبه ذلك، وهو جالس في المسجد، فاحتاج إلى الأكل في وقت أذان المغرب، أو انتهى من قراءته، وهو يُجيب المُؤذِّن لصلاة المغرب أكل تمرات، وشرب ماء، فهل يُلام، أو لا يُلام؟ أَكَل مُباحًا، ولم يُظهِر للناس أنه صائم، لكن لو مَدَّ السُّفرة، واتكأ على سارية، وجلس يقرأ، ولمَّا قَرُب الأذان قَرُب إلى السُّفرة، والناس يَدخلون، ماذا يَظنُّ به الناس؟ وكلُّ مَن دَخَل قال له: (تفضَّل يا أبا فلان)؛ لأجل أن يراه مَن لم يَرَه! هذا يُظهِر للناس أنه صائم، وهو ليس بصائم، فهل هذا مثل الذي اختفى في غرفته، وانتهى من قراءته؛ ليُجيب المُؤذِّن، فوجد نفسه محتاجًا إلى الأكل فأكل؟ لا أحد يمنعه من الأكل، لكن إذا أظهر للناس -سواء كان بقوله، أو بفعله- أنه مُتلبِّس بأمر غير واقع، فهذا هو الذي يُذمُّ ويُلام، فإذا أظهر للناس أنه من أتقى الناس وأَورعهم، فإذا خلا بالمحارم انتهكها، فهذه المُشكلة.
وكثير ممَّن يتصدَّى لتعليم الناس وإرشادهم -وأنا منهم- قد يُفهم من حاله ومن كلامه أن هناك أمورًا يفعلها ممَّا يَحثُّ عليها، أو أمورًا يتركها ممَّا يُحذِّر منها، وهو واقع فيها، فهل نقول لمثل هذا: كُفَّ؟ نعم، إن أَمكن ألَّا يُخالِف القول الفعل، فهذا هو الأصل، {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3]، لكن إذا كانت المسألة في السُّنن، كأن يَحُثَّ الناس على قيام الليل، أو يَحُثَّ الناس على صيام النوافل، أو يَحُثَّ الناس على حفظ القرآن، أو يَحُثَّ الناس على طلب العلم، وألَّا يُضيِّعوا أوقاتهم، وهو يُضيِّع أوقاته، فهذا يختلف عمَّن ينتهك المحارِم، فالمسألة حَثٌّ على نوافل، ولو لم يفعلها، وحَثٌّ على ترك مكروهات، ولو اقترفها، وحَثٌّ على حفظ الوقت، ولو ضيَّع بعض وقته؛ لأن الجهة مُنفكَّة، لكن أن يَحُثَّ على ترك المُحرَّمات، ويرتكب مُحرَّمات فهنا قِف. مع أن أهل العلم يُقرِّرون أنه ليس من شرط الآمر والناهي أن يكون معصومًا، فيَأمر بالمعروف ولو تركه، ويَنهى عن المنكر ولو ارتكبه، وله أجر هذا، وعليه إثم هذا، ويُقرِّرون أن الجهة مُنفكَّة، اللهمَّ إلَّا إذا كان أمره أو نهيه مُقترنًا بما يدلُّ على الاستخفاف، كشخصٍ في يده سِجَارة، ويرى آخر يُدخِّن، فيقول: (يا أخي، لا تُدخِّن، الدُّخان حرام)! فماذا يُفهم من هذا؟ أو شخصين على كرسي الحلاق، والحلاق يَحلق لِحاهم، فيلتفت أحدهما للآخر ويقول: (يا أخي، حلْق اللِّحية حرام)! فهذا مُقترن بالاستخفاف بلا شك، لكن لو كان مبتلى بالدُّخان، وفي وقتٍ لا يُدخِّن فيه قال: (يا أخي، من النصيحة: أهل العلم يُقرِّرون أن الدُّخان حرام، وهو مُضرٌّ بالصحة)، ولو كان يُدخِّن، فلا يُشترط. ويُبالغ الأشعريَّة في انفكاك الجهة، فيقرِّرون مسألة من أغرب المسائل، فيقولون: يجب على الزاني أن يَغضَّ بصره عن المزنيِّ بها، وهذا أمر، وهذا أمر، فيَرتكب مُحرَّمًا، لكن لا يَرتكب اثنين! نقول: هذا استخفاف؛ لأن غضَّ البصر ما طُلب إلَّا من أجل الفرْج، «والفرْج يُصدِّق ذلك أو يُكذِّبه» [البخاري: 6243].
فنهتمُّ وننتبه لمثل هذه الأمور، فإنها من الدقائق الخفيَّة، والإنسان حينما يُحاسِب نفسَه، وقد قال في الدرس مثل هذا الكلام، وإذا خلا فرَّط في كثير من الأمور، يجد في نفسه حرجًا كبيرًا؛ لأن النفس على ما عُوِّدتْ، فالإنسان الذي تعوَّد على الهزل، يُضيِّع كثيرًا من أوقاته، وعنده شيء من الخير، لكن يبقى أن مَن يأمر الناس بشيء يَقبح به أن يُخالِف، والله المستعان.