بعض أحكام الاعتكاف

السؤال
من العبادات التي يأخذ بها الناس في هذه الأيام المباركة: الاعتكاف، والمرء حقيقة بحاجة إلى معرفة شيءٍ من أحكام الاعتكاف الأساسية التي ينبغي لكلِّ مَن رغب أو بدأ في هذه العبادة أن يُدركها ويعرفها ويتحرَّاها؟
الجواب

الاعتكاف أصله: طول المكث والبقاء ولزوم المكان، وهو في الشرع: لزوم مسجدٍ لطاعة الله -عزَّ وجلَّ-.

فإذا نظرنا إلى أصله من العكوف على الشيء وهو ملازمته، فقول بعضهم: إنه إذا دخل المسجد ولو مرورًا به أو لحظة ينوي الاعتكاف، هذا من الخطأ، فليس من الاعتكاف لا لغةً ولا شرعًا. ووجدنا في بعض المساجد على سارية في مقابل وجه الداخل مكتوبًا: (نويتُ سُنَّة الاعتكاف)، فهذا فيه خطأ من وجهين:

- الأول: نُطقه بنيَّته ولو سرًّا، والنية محلُّها القلب، فلا حاجة إلى أن تقول: (نويتُ)، لا في الاعتكاف ولا في غيره.

- الأمر الثاني: أنه بمجرد دخوله إلى المسجد لا يُسمَّى مُعتكفًا، فهذا الكلام غير مطابق للواقع.

وثبت عن النبي –عليه الصلاة والسلام- أنه اعتكف واعتكف أزواجه من بعده [البخاري: 2026]، وثبت عنه أنه اعتكف في العشر الأول [مسلم: 1167]، وفي العشر الوسطى [البخاري: 2027 - 2044]، وفي العشر الأخيرة من رمضان [البخاري: 2026]، ثم استقرَّ على ذلك -أي: يعتكف في العشر في الأواخر-؛ التماسًا لليلة القدر، ولهذا كان على المسلم ألَّا يُفرِّط في الليالي العشر.

والاعتكاف من مظاهر عدم التفريط؛ لأنه لزوم المسجد وعدم الخروج الذي يترتَّب عليه التفريط في الوقت، والتفريط في الكلام، والتفريط في حفظ النفس وحفظ القلب، فالمعتكف يلزم المسجد؛ من أجل ألا يُفرِّط، لكن قد يُوجد التفريط مع الاعتكاف، ورأينا من يعتكف ومعه أجهزته، ويُقلِّب في هذه الآلات التي لا تُفيده بل قد تضره! ووجدنا من يُحضِر الجرائد والصُّحف وهو مُعتكف! والمعتكف يعتكف من أجل أيش؟ يترك أهله، ويترك أعماله التي قد يكون فيها نفعٌ من تعليمِ علم، وعملٍ وظيفيٍّ لنفع المسلمين، يترك ذلك ويعتكف، ثم بعد ذلك يُضيِّع هذه الساعات النفيسة!

وهذه العبادة التي هي الاعتكاف إنما تُستغل في العبادات الخاصة؛ ولذا كان أهل العلم يُعطِّلون الدروس من عصر السلف، وكان الإمام مالك يترك التحديث بحديث الرسول –عليه الصلاة والسلام-، وغيره كثير على هذه الشاكلة، فهذه الأوقات إنما تُغتنم في العبادات الخاصة، فلا تُقام فيها الدروس العامة، وإن كان نفع الناس النفعَ المتعدِّي مطلوبًا على كل حال، لكن سِمة هذه العبادة التي هي الاعتكاف العبادات الخاصة، كما كان عليه النبي –عليه الصلاة والسلام-، ولذا كان أهل العلم يُعطِّلون الدروس في هذه الليالي، حتى وإن كانت في تعليم القرآن والسُّنَّة؛ لأن النفس تحتاج إلى شيءٍ من التربية، والقلب يحتاج إلى تقوية صلته بالله، وهذا يكون بالانكفاف عن الناس، وقطع العلائق، وتعمير الأوقات بالصلاة والذِّكر وتلاوة القرآن وتدبُّره، فبهذا يؤتي الاعتكاف ثمارَه، على خلاف ما يفعله بعض مَن يعتكف في هذه الأيام التي كثرتْ فيها وسائل الراحة، وصعب على النفوس تركها، فتجده طول العام مرفِّهًا نفسَه، وإذا تربَّت النفس على هذا الترفيه فإنه يصعب عليها مفارقته، فترى بعض المعتكفين يقرأ شيئًا من القرآن، ثم يَمل وينام، والسلف -رحمهم الله- عندما يعتكفون وينقطعون عن أمور الدنيا وعلائقها، يتوفَّر لديهم وقت فيه كفاية لقراءة أكبر قدرٍ من القرآن، ولذا وُجِد مَن يختم كلَّ يوم، إلى العصور المتأخرة والأمر موجود -ولله الحمد-، لكن الذي لم يتعوَّد على هذا في وقت السَّعة والرخاء لا يُعان عليه في وقت الشدة، فترى بعض المعتكفين يقرأ شيئًا من القرآن، ثم يَمل وينام، أو ينشغل بالجوال، أو يُزاول حياته العادية من قراءة الصُّحف وغيرها من الأعمال، وهذا خطأٌ ومخالفٌ للمقصود من الاعتكاف.