معنى قول الله تعالى: {حتى إذا استيأس الرسل وظنُّوا أنهم قد كُذِبوا}

السؤال
أقرأ في سورة يوسف قول الله تعالى عندما ذكر الرسل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110]، ويُشكل عليَّ معناها، فما معناها؟ وكيف يكون مثل هذا الظن من الرسل والأنبياء؟
الجواب

المفسرون لهم كلام طويل في هذه الآية، وظاهرها مُشكِل، ولكن إذا عرفنا أن الظن يُطلق على معان كثيرة منها الاحتمال الراجح مع احتمال النقيض؛ لأن المعلوم إما أن يحتمل النقيض مع الرجحان فيكون هو الظن، أو مع المرجوحيَّة فيكون الوهم، أو مع المساواة فيكون الشك، والعلم اليقيني لا احتمال فيه للنقيض، وهنا الظن جاء بمعنى اليقين الذي لا يحتمل النقيض، ومن ذلك قول الله -جل علا-: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46]، هل يكفي في الإيمان بالبعث الظن، أو لا بد من اليقين الجازم الذي لا تردُّد فيه؟ لا بد من اليقين، فالظن هنا بمعنى اليقين، لمَّا تيقَّنوا {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110] بالتخفيف، أو {كُذِّبُوا} على القراءة الأخرى، لمَّا تيقَّنوا ذلك جاءهم النصر، أما الظن والتردُّد فلا مجال له هنا، واستيئاس الرسل بعد تيقُّنهم من تكذيب قومهم مبني على هذا اليقين، كما دعا نوح على قومه بعد أن جزم {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]؛ لقوله -جل علا-، وحينئذٍ لا إشكال.

وبعضهم يذكر معاني أخرى، لكنها في الحقيقة مرجوحة، ففي (تفسير الطبري): (يقول تعالى ذكره: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109] فدعوا من أرسلنا إليهم فكذبوهم وردُّوا ما أتوا به من عند الله، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} الذين أرسلناهم إليهم منهم أن يؤمنوا بالله، ويصدِّقوهم فيما أتوهم به من عند الله، وظنَّ الذين أرسلناهم إليهم من الأمم المكذِّبة أن الرسل الذين أرسلناهم قد كَذَبُوهُمْ فيما كانوا أخبروهم عن الله)، يعني: هذا الظن من الأمم المكذِّبة لا من الرسل،...إلى آخره، ثم قال: (وقد ذهب قوم ممن قرأ هذه القراءة إلى غير التأويل الذي اخترنا، ووجَّهوا معناه إلى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} من إيمان قومهم، وظنَّت الرسل {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} فيما وُعِدوا من النصر)، {كُذِبُوا} يعني: من قِبل الله -جل علا-، يعني: أن الله وعدهم وأخلفهم، ولا يقول بهذا مسلم! ثم قال: (وهذا تأويل، وقول غيره من أهل التأويل أولى عندي بالصواب)، يعني: تأويل {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} بأن الله أخلف وعده إيَّاهم، وهذا لا يخطر على قلب مسلم، نعم بعض الناس من شدة الحرص على الشيء يَرد في خاطره أن الأمر لا يأتي على ما قُدِّم له به، فالإنسان إذا كان له ولد وأصيب بمرض، ثم قال الأطباء: (أمرٌ سهلٌ، وعلاجه يسير، وهي أيام وينتهي)، فالأب من شدة حرصه على شفاء ولده لا يُصدِّق بهذا الكلام، والأنبياء من شدة حرصهم على هداية قومهم قد يتردَّدون بعض الشيء من هذا الباب، وإلا فالأصل اليقين.

والتأويل الأول عند الطبري أن الذين ظنوا {أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} هم الكفار المكذِّبون، فالظن من قِبل الكفار المكذبين، و{كُذِبُوا} من قِبل الله -جل علا-، وهذا لائق بالكفار، فحينما يقول: النصر لمن؟ لله ولرسوله ولأتباعه، هذا يقوله المسلم بيقين؛ بناءً على وعد الله -جل علا-: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7]، لكن الكفار وفيما يرونه من واقع المسلمين، وأنهم في هزائم متتابعة لا سيما في حال الضعف قد يُكذبون الموجود في القرآن، وأن النصر لله ورسوله؛ لما يرونه في الواقع، ولكن النصر قد لا يكون بالغلبة -كما قال بعضهم-، فقد يُقتل الشخص وهو منتصر، مع أنه في مقاييس عامة الناس: المقتول غير منتصر. فهذه الآية على ما فيها من إشكال عند بعض المفسرين الظاهر أن معناها واضح جدًّا.

وفي (البخاري) عن عائشة -رضي الله عنها- حين سألها عروة بن الزبير عن قول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}، قال: قلتُ: أكُذِبوا أم كُذِّبوا؟ -يعني: على القراءتين- قالت عائشة: كُذِّبُوا، قلتُ: فقد استيقنوا أن قومهم كذَّبوهم فما هو بالظن؟ -وهذا على ما قلناه في البداية أن الظن هنا المراد به اليقين- قالت: أجل لَعمري لقد استيقنوا بذلك -أي: أن قومهم كذَّبوهم-، فقلتُ لها: وظنوا أنهم قد كُذِبوا، قالت: معاذ الله، لم تكن الرسل تظن ذلك بربها -يعني: أنهم قد كُذبوا من قِبَل الله، ولا مسلم يظن ذلك، وأن الله قد كَذَب رسلَه-، قلتُ: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدَّقوهم، فطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُل} ممن كذَّبهم من قومهم، وظنَّت الرسل أن أتباعهم قد كذَّبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك [4695].

وبعض الناس ولو كان مسلمًا ولو كان متَّبعًا للأنبياء، لكنه مع طول الوقت يَمل ويستحسر، ويحصل منه بعض الشيء وبعض الألفاظ، فمع طول الوقت الذي يتحرَّون فيه النصر من الله -جل علا-، وأنهم هم الذين على الحق، وهم أحق بالنصر وأليق به، مع طول المدة وكثرة الابتلاء والامتحان قد يحصل ذلك من أرباب العجلة من أتباع الرسل -والله المستعان-، وإلَّا الأنبياء والرسل ليس من صفاتهم اليأس والقنوط، بل صفاتهم الصبر والثبات واليقين؛ لما عندهم من الإيمان القوي والوعد الصادق من الله -جل علا-، فهم على ثبات ويقين، وما عُرف عن أحدٍ منهم إلا ما ذكره الله عن يونس -عليه السلام-، ولذا الله -جل علا- أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يصبر، ولا يكن كصاحب الحوت، ويونس -عليه السلام- لِما حصل له من تكذيب قومه ويأسه من إيمانهم لم يصبر على هذا الأمر؛ لشدة حرصه على هدايتهم، ولا شك أن النبي يحرص على هداية قومه، وكذلك أتباع الرسل من الدعاة إلى الله يحرصون على هداية قومهم؛ لما في ذلك من حبِّهم لنفع الناس من جهة، وانتفاعهم أيضًا بإيمان مَن يؤمن بسببهم، «لأن يهدي الله بك رجلًا خيرٌ لك من حُمْر النَّعم» [البخاري: 2942]، فعلى الداعية أن يصبر ويحتسب، وليعلم يقينًا أن الهداية بيد الله -جل علا-، فإن آمنوا فبها ونعمتْ، وهذا هو المطلوب، وإن لم يؤمنوا فجاء قول الله -جل علا- لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، ويأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد، ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، ويأتي النبي بأكثر من ذلك، وقوم موسى -عليه السلام- سواد عظيم، وأمة محمد -عليه الصلاة والسلام- أعظم الأمم [يُنظر: البخاري: 5752]، والله المستعان.