حكاية ابن المنذر وغيره للإجماع مع وجود المخالف

السؤال
ذَكر ابن القيم أن ابن المنذر كان إذا رأى أكثر أهل العلم اتفقوا في مسألة حكاه إجماعًا، فهل هذا الكلام صحيح؟
الجواب

الواقع من ذِكْر الإجماعات التي يحكيها ابن المنذر، والموفق ابن قدامة، والنووي، وحتى ابن عبد البر، وابن القطان، وغيرهم في كتبهم يدل على هذا، فكثيرًا ما يُحكى الإجماع في مسألة والخلاف فيها معروف، وقد يحكي الخلاف مَن ذَكر الإجماع، وهذا كثير، وقد يكون الإجماع صحيحًا، بمعنى أنه لا يوجد مخالف في المسألة، ولا يقال: إن مثل هذه الحكايات مثل ما قال الشوكاني: (وكثير من دعاوى الإجماع تجعل طالب العلم لا يهاب الإجماع)، بل يبقى الإجماع له هيبة حتى ولو كان قول عامة أهل العلم أو أكثر أهل العلم. المقصود أن هؤلاء مثل: ابن المنذر، والنووي، وابن قدامة، وابن عبد البر، وابن القطان الذين ينقلون الإجماع يقع في نقلهم بعضُ الحكايات للإجماع التي يُعرف ما يخرقها من وجود المخالف، فكثير من هذه الإجماعات ليست ملزِمة باعتبار وجود المخالف، وإن كانت توجب عند طالب العلم وقفة وهيبة، لا يخالفها إلا بقول صحيح ثابت له دليله الراجح.

النووي -رحمه الله تعالى- حكى الإجماع في كثير من المسائل ونقل الخلاف بنفسه، وهو متساهل في نقل الإجماع، ونَقل الإجماع في مسائلٍ الخلافُ فيها مشهور، فقد نقل الإجماع على أن عيادة المريض سنة، مع قول الإمام البخاري في صحيحه: (باب وجوب عيادة المريض) [البخاري: 7/115]، ونقل الإجماع على أن صلاة الكسوف سنة، مع قول أبي عوانة في صحيحه: (باب وجوب صلاة الكسوف) [2/92]، وينقل الإجماع في كثير من المواضع، ثم ينقل خلاف داود في المسألة وخلاف الظاهرية عمومًا، لكنه لا يُلزم بذلك؛ لأنه لا يعتد بقول داود؛ لأنه يقول: (ولا يُعتد بقول داود؛ لأنه لا يرى القياس الذي هو أحد أركان الاجتهاد)، فلا يُستدرك عليه بداود، إنما يُستدرك عليه بغيره، وقد استدركنا عليه بالبخاري وأبي عوانة وجمع من أهل العلم في مسائل مضبوطة، المقصود أن هذا الأمر لا يختص به ابن المنذر، فإجماعات ابن المنذر في الغالب أنها منضبطة، لكن قد يَنقل إجماعًا في مسائل لم يقف فيها على مخالف، وقل مثل هذا فيمن ذكرنا من ابن قدامة وغيره، وهؤلاء كلهم يرون أن الإجماع قول الكل، أي: قول جميع مجتهدي العصر، بخلاف الإمام الطبري الذي يرى أن الإجماع قول الأكثر، وهو قول مشهور منسوب إليه في كتب أصول الفقه، وهو أيضًا يُرى واضحًا في تفسيره، فقد يذكر الخلاف في مسألة فقهية أو في قراءة أو في أي باب من الأبواب ويَذكر فيها القول الأول قول الأكثر، ثم يذكر القول الثاني، ثم يقول: والصواب في ذلك عندنا كذا؛ لإجماع القَرَأَة على ذلك، كيف إجماع القَرَأَة وقد ذكر المخالف؟ كيف يقول: (لإجماع أهل الأثر على ذلك) وهو ذكر المخالف؟ المقصود أن الطبري لا يُستدرك عليه بشيء؛ لأنه يرى أن قول الأكثر هو الإجماع.

وأما كيفية تعامل طالب العلم مع مثل هذه الإجماعات التي حُكيت على أنها إجماع وهي ليست كذلك، فأولًا: مثل هذه الحكايات توجِد غلبة ظن عند طالب العلم أن هذا قول جمهور أهل العلم، وتوجد له وقفة وهيبة حتى يَجد المخالف ويَنظر في دليله، فيقف على قول المخالف بيقين وليس فقط نقلًا مجردًا عن العزو لمصدره ومظنته، بل لا بد أن يكون معزوًّا إلى شيء ملزِم، ثم بعد ذلك ينظر في دليل هذا المخالِف، فإن كان راجحًا عمل به ولو كان قول الأقل، ما لم يوجد الإجماع الملزِم؛ لأن الإجماع لا تجوز مخالفته، فهو دليل قطعي عند أهل العلم.