مَن ينصح الناس ويحثُّهم على فعل أمرٍ من الخير وهو لا يفعله

السؤال
هل يُذَم الإنسان الذي ينصح الناس ويحثُّهم على فعل أمرٍ من الخير وهو لا يفعله؛ لثِقَله عليه، أو لعدم تعوُّده عليه، وذلك لأني أقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]؟
الجواب

لا شك أن السياق سياق ذم، وأن مَن أَمَر الناس بشيء وتَرَكَه لا سيما إذا كان من الواجبات فإنه يُذَم ويُلام، وجاء في حقِّه وعيد، وعند الطبري في تأويل الآية يقول: (فالتأويل الذي يدل على صحته ظاهر التلاوة: أتأمرون الناس بطاعة الله وتتركون أنفسكم تعصيه، فهلا تأمرونها بما تأمرون به الناس من طاعة ربكم. مُعيِّرهم بذلك ومقبِّحًا إليهم ما أتوا به)، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: (الغرض أن الله تعالى ذمَّهم على هذا الصنيع، ونبَّههم على خطئهم في حق أنفسهم، حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المرادُ ذمَّهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له)؛ لأن المسألة مركَّبة من أمرين: أمرٌ بمعروف، وهذا بحدِّ ذاته محمود، وتركٌ لهذا المعروف، وهذا مذموم، فقد أتوا وجمعوا بين ما يُذَم وما يُمدَح، يقول: (وليس المرادُ ذمَّهم على أمرهم بالبر مع تركهم له، بل على تركهم له، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالِم، ولكن الواجب والأولى بالعالِم أن يفعله مع أمرِهم به، ولا يتخلَّف عنهم، كما قال شعيب -عليه السلام-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88]. فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف)، فالمعنى حينئذٍ أنه عليه أن يأمر بالمعروف؛ لأنه مأمور بذلك، وعليه أن يأْتمر بما أَمر به، وعليه أن ينهى عن المنكر، وعليه أن يترك ما نَهى عنه، لكن إذا حصل منه الأمر بالمعروف وتساهل في فعل هذا المعروف، أو نَهى عن منكرٍ ونازعتْه نفسه وشيطانه وفَعَل هذا المنكر، لا يعني أنه يَترك الأمر بالمعروف أو يَترك النهي عن المنكر؛ لأن نفسه تنازعه، وهذا محل خلاف بين أهل العلم في الذي يأتي منكرًا بعينه هل له أن يَنهى عنه، أو ليس له ذلك، مَن نظر إلى انفكاك الجهة قال: له أن يأمر ولو لم يأْتمر، وله أن يَنهى ولو لم ينتهِ؛ لأن الجهة منفكة، هذا حكمٌ ورُتِّب عليه ثواب، وذاك حكمٌ رُتِّب عليه ثواب، فكونه يجمع بين الأمرين بأن يفعل ما أَمر به هذا هو الأكمل، وهذا هو المتعيِّن في حقِّه، وكونه يجمع بين الأمرين الأسوأين فلا يَنهى عن المنكر ويرتكب المنكر، هذا لا شك أنه تَرَكَ ما أوجب الله عليه من الأمر والنهي، وفَعَلَ ما حرَّمه الله عليه، لكن بعض الصور تجعل الناظر لهذا الآمر أو لهذا الناهي يغلب على ظنِّه أنه كالمُستَخِف، يعني يرتكب منكرًا ظاهرًا ويَنهى عنه بين الناس، فبعض الناس يقول: إن هذا متلاعِب، كمَن يجلس –مثلًا- على كرسي حلاقٍ مع صاحبه ويأمرانه بحلق لحاهم، فيلتفت أحدهما على الآخر ويقول: حرام عليك تحلق لحيتك! هذا الظرف والحال يُفهِم بأنه مُستَخِف ومُستهتِر، لكن إذا كان في قرارة نفسه نادمًا على فعله المنكر، ولكن شيطانه وهواه غلباه على ذلك، ثم بعد ذلك يبيِّن للناس محاذير هذا المنكر كفعل بعض المدخنين، فتجد بعض المدخنين يُشدِّد على أولاده وعلى معارفه وعلى مَن له عليه كلمة في ترك الدخان، وهو مع ذلك يدخِّن؛ لأنه اعتاده وغلبته نفسه وهواه، ويتذرَّع ويتعذَّر بأنه لا يستطيع تركه، فمثل هذا قد يكون الحال والظرف يدل على صدقه في أمره ونهيه، وقد يكون الحال والظرف يدل على كذبه في أمره ونهيه، وحينئذٍ يقال له: اترك الأمر وأنت تزاول المعصية في وقتها، كأنك مُستَخِف ومُستهتِر.

وعلى كل حال العلماء في الأمر والنهي لا يشترطون العصمة، فما يقولون: إنه لا يأمر ولا ينهى إلا مَن لا يزاول المحرم، أو لا يترك شيئًا من الواجبات، لا، وعلى كل حال كأن قول أكثر العلماء القول بانفكاك الجهة، فالأمر بالمعروف له أجره، وترك المعروف عليه إثمه، وكذلك النهي عن المنكر له أجره، وارتكاب المنكر عليه نصيبه من الإثم، والله أعلم.