الطريقة المُجدِية في حفظ الأحاديث، ومدى فائدة القراءة الجرديَّة للسنن

السؤال
ما الطريقة المُجدِية في حفظ الأحاديث؟ وهل القراءة الجرديَّة للسنن بتمعُّن تفيد طالب العلم المبتدئ، أو حتى المتقدِّم في الطلب؟
الجواب

الطريقة المثلى لحفظ السنة، وأظن أنكم قد لا توافقون عليها، وقد سُئلتُ عنها في مناسبات، وذكرتُها في شريط يتضمَّن محاضرة اسمها (معالم في طريق الطلب)، وهي أقرب ما تكون لطريقة الصحابة -رضي الله عنهم- في تعلُّم القرآن، والإخوان المستعجلون الذين يريدون أن يحفظوا الكتب الستة، والعشرة، وما إلى ذلك، في أشهر، قد لا تعجبهم هذه الطريقة.

والطريقة التي شرحتُها ونصحتُ بها الإخوان: أن تُقرأ المتون على الجادة وتُحفظ، فيبدأ الطالب بـ(الأربعين)، ثم (العمدة)، ثم (البلوغ)، أو (المحرر)، وهذا كله بعد القرآن الكريم، ثم بعد ذلك يتَّجه بكليَّته إلى (البخاري) الأصل، فلا يذهب إلى المختصرات، وإنما يذهب إلى الأصل، فيبدأ بالباب الأول من الكتاب الأول، وينظر في الترجمة، ويفهم الترجمة، كيف استنبط البخاري هذه الترجمة من هذا الحديث؟ وكيف دعم البخاري هذه الترجمة بالآثار التي قد لا توجد عند غيره؟ لماذا آثر الإمام البخاري هذا السياق وهذا الإسناد في هذا الموضع، وآثر غيره في موضع آخر؟ ثم إذا انتهى منه في هذا الموضع، ينظر في أطراف الخبر ويتتبعها في الصحيح، وينظر هل هناك فروق في الألفاظ، وهل هناك اختلاف في الأسانيد، وهل هناك اختلاف في صيغ الأداء، ثم بعد ذلك إذا أتى على جميع أطراف الحديث في (البخاري) بهذه الطريقة يقتصر على أوفاها، ويجعله هو المثبَت عنده، ثم الحديث الثاني، والثالث، إلى آخره، بهذه الطريقة، وليس بكثير أن يصرف الطالب على (البخاري) ثلاث سنوات، أو أربع سنوات، أو خمس سنوات؛ لأنه ديوان الإسلام بعد القرآن، وما ينتهي الطالب من (البخاري) بهذه الطريقة إلا ويكون علمه بما حَذف كعلمه بما أَثبتَ. والطالب الذي يعتني بالمختصرات ويهتم بها ويترك الأصل، كم يفوته من الدرر والفوائد والنفائس والاستنباط الدقيق والفقه الغريب عند الإمام البخاري؟ قد لا يُدرك شيئًا، من دون مبالغة، فمثلًا: كتاب الرقاق في (البخاري) به مائتا حديث، بتراجم أبدع فيها الإمام البخاري -رحمة الله عليه-، وبنقولٍ عن سلف هذه الأمة وصالحيها، بشيء لا يكاد يخطر على بال، وقد لا تجده في كتبِ وعظٍ ولا غيرها، وإذا نظرتَ في المختصرات ماذا تجد من هذه الأحاديث؟ أولًا: التراجم التي هي فقه البخاري غير موجودة، والآثار كلها غير موجودة، لا من أقوال الصحابة -رضي الله عنهم-، ولا التابعين، ولا غيرهم، والأسانيد غير موجودة، وطالب العلم بأمسِّ الحاجة إليها، وكم في المختصر من حديث من أحاديث الرقاق؟ سبعة أو ثمانية! فكم فات طالب العلم؟ وإذا أراد أن ينظر كتاب الرقاق من (صحيح البخاري) وذهب إلى المختصر فماذا يُدرك؟ لا شيء.

والإخوان يستثقلون مثل هذا الأمر، وقد نُوقشتُ مِن قِبَل بعض المختصِّين بأن هذا يحول دون طالب العلم وإتمام الطلب بسرعة، لكن على ماذا تستعجل يا أخي؟

ثم بعد ما يُنهي (صحيح البخاري) كاملًا ويختصره، ينظر في (صحيح مسلم)، وبهذه الطريقة ما يُنهي الكتب الستة إلا وهو إمام من أئمة المسلمين؛ لأن المسألة ليست مسألة حفظ وتخزين فقط، نعم هو يحفظ القدر الذي لا بد منه، فإذا حفظ (الأربعين)، وهي أحاديث وقواعد كلية من قواعد الشرع، وحفظ (العمدة)، وهي أحاديث من الصحيحين في العبادات والمعاملات وجميع الأحكام، وحفظ (البلوغ)؛ لأن فيه أحاديث يحتاج إليها طالب العلم لا توجد في (العمدة) ولا في الصحيحين، ومع ذلك يتَّجه إلى طلب الحديث بهذه الطريقة، وإذا أعطى من نفسه أكبر مدَّة وأطول وقت، ينتهي بسرعة -إن شاء الله تعالى-، لكن العمر ينتهي بالتسويف: سنبدأ، سنفعل، ثم ينتهي العمر على لا شيء.

قد يقول قائل: (لماذا لا يلتفت طلاب العلم إلى حفظ المختصرات في الوقت الحاضر، ويستغلون فراغ البال وقوة الحافظة في هذا الوقت، والفهم يلحق -إن شاء الله-؟)، أقول: ما الذي يُؤمِّنك حتى تصل إلى وقت تفهم فيه؟

أما بالنسبة للجرد الذي ذُكر، فلا شك أنه نافع في الجملة، وقد يقول الطالب: إنه لما انتهى من جرد كتاب حاول أن يتذكَّر وعصر ذهنه وما ذكر شيئًا، نقول: لا بد أن يذكر، فإذا بُحثتْ مسألة وقد كانت مرَّتْ عليه هذه المسألة في هذا الكتاب المجرود، فلا بد أن يتذكَّر منها طرفًا، ويكون طرحه فيها أفضل بكثير ممن لم يَمر عليه مثل هذا الكلام، وهذا في المتون وفي الشروح أيضًا، والشروح فيها من نوادر العلم ما تعب عليها العلماء، وفيها من الطرائف، وفيها من نفائس العلوم التي لا توجد في غيرها، فطالب العلم بحاجة إلى أن يُعطي من نفسه، ويستغل عمره بالقراءة، إضافة إلى الحفظ.

وقد يقال: (إنه يُشكل على هذه الطريقة أن المدارك وقوة الحفظ تختلف)، لكن المسألة التي أذكرها مسألة دراسة وفهم، وما يلزم أن يحفظ (البخاري) حفظًا وحافظته لا تسعفه؛ لأن هذا سيتقطَّع قلبه حسرة وأسى، وسيتعب، وأخيرًا يترك، وإلَّا يوجد مَن يحفظ، ومِن ذلك أن بعض الطلاب سمَّع عليَّ قبل خمس عشرة سنة يوميًّا عشر ورقات إلى عشرين ورقة من (البخاري) بأسانيدها وتراجمها بترتيبها، يسردها سردًا كأنه يقرأ الفاتحة، فالناس يتفاوتون بلا شك، وشرح ابن رجب على (البخاري) أول ما طلع قرأه اثنان في مدة واحدة، في شهر أو شهر ونصف، وأنا أجزم أن أحدهما أدرك منه تسعين بالمائة، والثاني ما أدرك عشرة بالمائة من الكتاب، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لكن حتى ضعيف الفهم وضعيف الحافظة المطلوب منه أن يبذل الأسباب، ويسلك السبيل والطريق، ويكفيه هذا، «مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة» [مسلم: 2699]. وقد كان عندنا ببريدة شخص معروف يقال له: إبراهيم الصايغ، وكان مؤذِّن مسجد، وأكثر من سبعين سنة يتردَّد على حِلق العلم، وفي اليوم ثلاثة دروس أو أربعة، وأحيانًا خمسة، ومات -رحمة الله عليه- وما ذُكر عنه شيء من العلم، فما أدرك شيئًا يُذكر، ويكفيه أنه سلك الطريق، نسأل الله -جلَّ وعلا- أن يُسهِّل له طريقًا إلى الجنة.