التوجيه لمن يحفظ السورة من القرآن ثم ينساها سريعًا

السؤال
أنا أحفظ القرآن، ومجرد أن أنتهي من السورة وأبدأ في السورة الثانية أنسى ما حفظتُه من قبل، فما توجيهكم لي -حفظكم الله-؟ وهل أستمر في الحفظ؟
الجواب

لا شك أن الحفظ موهبة من الله -جل وعلا-، فمن الناس مَن يُعطى هذه الموهبة، ومنهم من يُحرمها، ومقلٌّ ومستكثر، بعضهم يحفظ الشيء الكثير، وبعضهم لا يحفظ القليل إلا بصعوبة، وكلٌّ على خير، فمن أُوتي الحافظة فعليه أن يُكثر من حفظ العلم لا سيما النصوص من الكتاب والسنة وأقاويل الصحابة والتابعين، والذي حافظته لا تسعفه لحفظ ذلك كله عليه أن يحفظ بقدر جهده وطاقته، ولا يلزم أن يحفظ الإنسان في كلِّ يوم ورقةً من القرآن، فإذا كانت الحافظة عنده ضعيفة فيقرِّر لنفسه ما يُطيقه من الحفظ ولو آية أو حديثًا واحدًا، وإذا قرَّر لنفسه نصيبًا يحفظه هذا اليوم، وكرَّره هذه المدة الطويلة من ساعات اليوم، ثم أضاف إليه من الغد نصيب اليوم الثاني بعد أن راجع حفظ اليوم الأول وكرَّره، ثم أضاف إليه النصيب الثالث بعد أن راجع نصيب اليومين السابقين، فإنه في الغالب لا ينسى.

وذكروا في كتب آداب التعلم أن الإنسان يُحدِّد نصيب يومه بقدر ما تسعفه به حافظته، ولتكن آية أو آيتين أو ثلاثًا أو خمسًا على حسب قدرته وطاقته، ثم إذا كرَّره حتى يتقنه، فمن الغد يكرِّر نصيب اليوم الأول خمس مرات، ويشرع في نصيب اليوم الثاني حتى يحفظه ويتقنه، وفي اليوم الثالث يكرِّر نصيب اليوم الأول أربع مرات، واليوم الثاني خمس مرات، ثم يشرع في نصيب اليوم الثالث، وفي اليوم الرابع يكرِّر نصيب اليوم الأول ثلاث مرات، والثاني أربع مرات، والثالث خمس مرات، ويشرع في نصيب اليوم الخامس، وهكذا، إذا كرَّر الحفظ بهذه الطريقة وهي طريقة مجرَّبة ونافعة، فإنه في الغالب لا ينسى، وعلى كل حال يبقى أن الإنسان هو طبيب نفسه لا يشق على نفسه بأكثر مما يُطيق؛ لأن من أراد العلم جملةً فقده جملة، والعلم إنما يؤخذ بالتدريج وبالتعلُّم وبالتحفُّظ، أما أن يأتي إلى العلم بنَهَم ورغبة شديدة فلا شك أن طالب العلم نَهِم، ويتمنى أن يتقن العلم كله بوقتٍ يسير، لكن لا يمكن ذلك، فأنت عندك حافظة كُتِب لك فيها ما يناسبك وما قدَّره الله لك، ومع ذلك هناك أسباب لتثبيت الحفظ بما ذكرنا، وفي المزيد منه بحَصْر الذهن وحصر القلب، والمكان لا بد أن يكون محصورًا غير مشتَّت، إضافة إلى الأسباب التي ترجع إلى أصل الديانة من ترك المعاصي، والإقبال على الله -جل وعلا-، والإلحاح عليه بالدعاء، وتوخِّي أوقات الإجابة، فمثل هذه الأمور كما قال الشافعي -رحمه الله- وهو من أقوى الناس حفظًا، يقول:

شكوتُ إلى وَكِيْعٍ سوءَ حفظي
 

 

 

فأرشدني إلى تركِ المعاصي
 

وقال: اعلم بأن العلمَ نورٌ
 

 

ونورُ اللهِ لا يؤتاهُ عاصي
 

ومن الطرائف التي يمكن أن تُذكر في هذا المجال: جلال الدين المحلِّي، وجلال الدين السيوطي، وهما مؤلفا (تفسير الجلالين) الشهير، فجلال الدين السيوطي يحفظ فيما ذكره عن نفسه مائتي ألف حديث، ويقول: (لو وجدتُ أكثر من ذلك لحفظتُه)، وقرينُه الجلال المحلي -وهو من طبقة شيوخه- الحفظ عنده صعب جدًّا، ويقول: إنه حاول وعانى من حفظ شيء يسير من أول (التنبيه) للشيرازي فعجز وازدادتْ عليه الحرارة، وظهر في جسمه بثور، ما استطاع أن يحفظ، ومع ذلك يقولون: إن فهمه يَثقب الألماس من قوَّته، والسيوطي بالمقابل يقول: (لو كلِّفتُ نقل جبلٍ كان أسهل عليَّ من مسألة حسابية)، فهذا تميَّز بالفهم الشديد، وهذا تميَّز بالحفظ الشديد، واشتركا في كتابٍ واحدٍ، والكتاب هذا من المتون المهمة في علم التفسير الذي يُربَّى عليه طالب علم، ولا تَجد فرقًا بين التفسيرين، من الكهف إلى آخر القرآن مع سورة الفاتحة تأليف جلال الدين المحلي، قبل النصف الأول الذي أكمله السيوطي من أول البقرة إلى آخر الإسراء، كأن المؤلف واحد ما تَجد فرقًا، وعلى كل حال هذا التفسير جاء ذكره عرَضًا، وهو تفسير مهمٌّ ومفيدٌ لطالب العلم على ما فيه من مخالفات في العقيدة.