أحسن كتب الجمع بين الصحيحين

السؤال
ما أحسن كتب الجمع بين الصحيحين؟
الجواب

أفضلها فيما أعرف (الحميدي).

والأئمة المتقدِّمون لهم في الجمع بين الصحيحين كتب، منها كتاب لأبي عبد الله الحميدي محمد بن أبي نصر الفتُّوح، وهو كتاب نفيس، نعم اعتمد في بعض المتون على المستخرجات، وأتى بزيادات على ما في الصحيحين من هذه المستخرجات، وميَّزها، ولذا في قول الحافظ العراقي -رحمه الله تعالى-:

والأصلَ يعني: (البيهقي) ومَن عَزَا
 

 

 

وليتَ إذْ زادَ الحُميدي مَيَّزا
 

أقول: الحميدي -رحمه الله تعالى- ميَّز.

وهناك أيضًا (الجمع بين الصحيحين) لعبد الحقِّ الإشبيلي، وكتب كثيرة في هذا الباب.

وذكرتُ مرارًا أن أنفع طريقة لطالب العلم أن يجمع هو بنفسه، ويُؤلِّف لنفسه، والآن الكتب مخدومة ومُرقَّمة، وبإمكانك أن تعرف آخر الكتاب مثل ما تعرف أول الكتاب، ولا يُشكِل شيء، إلا إن كان شخصٌ ما يفهم!

فالآن لو أتينا إلى طبعة (البخاري) المُرقَّمة التي ذُكرتْ فيها الإحالات، وأُحيل فيها على الشروح، وعلى (تحفة الأشراف)، وذُكر مَن وافق البخاري على تخريج الحديث من الأئمة، هذه لو يعتني بها طالب العلم لجَمَع لنفسه بين الكتب الستة، وعرف جميع ما تحتويه هذه الكتب، وصار علمه بما يَحذف كعلمه بما يَذكر، بخلاف ما لو اعتمد على جمع الآخرين، فإذا اعتمد على جمع الآخرين فاته خير كثير.

ولنضرب مثالًا بالمختصرات: لو أتينا إلى (مختصر البخاري) للزبيدي، أو (مختصر مسلم) للمنذري، أو غيرهما من المختصرات، كم يفوت طالب العلم من الفوائد المتنيَّة والإسناديَّة، وكيفية سياق المتون والأسانيد عند أهل العلم، فيما لو اعتمد على المختصرات؟

الأمر الثاني: الذين يختصرون هذه الكتب يحذفون الأسانيد، ويحذفون التكرار، ويحذفون الآثار، بما في ذلك الآثار الموقوفة على الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين وغيرهم، وكم من فائدة وخير كثير في هذا المحذوف؟ ويذكرون الحديث في موضع واحد، والبخاري -رحمه الله- يُكرِّر الحديث في سبعة، أو ثمانية، أو عشرة مواضع، وفي كل موضع يترجم له بترجمة هي من أدقِّ ما يُستنبط من الحديث، فاستنباط البخاري من الحديث يُمثِّل لنا فقه السلف، فإذا اعتمدنا على المختصرات فاتنا هذا الخير الكثير، فإذا أورد الحديث في سبعة مواضع، وترجم عليه بسبع تراجم، واستنبط منه سبع فوائد، ودعم هذه التراجم بأقوال الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين والأئمة، وفسَّر ما فيها من غريب، وتعرَّض لغريب القرآن إذا جاءت له أدنى مناسبة، فالمختصرات لا تكفي عن الأصول بحالٍ من الأحوال.

فطالب العلم -في طريقة شرحناها مرارًا- يُعنى بـ(صحيح البخاري) مثلًا، ويجعله محور البحث، فيأتي إلى الحديث الأول وينظر في مواضعه السبعة من (صحيح البخاري)، وما تَرجم عليه البخاري في هذه المواضع، وما أردف الترجمة بأقوال هي أنفس ما يُنقل عن الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين، وليس طالب العلم بغنيٍّ عن هذه الأشياء، فيجمع هذه المواضع السبعة، ويكتب تحتها التراجم التي هي استنباط البخاري من هذا الحديث، والآثار التي توضِّح هذا الحديث، ثم بعد ذلك يقتصر على أوفى هذه المواضع، وينظر مَن وافق البخاري من الأئمة، فإذا وجد الحديث مخرَّجًا في (مسلم)، فيُخرِّجه من (مسلم)، ويُضيف إن كان هناك فائدة في الورقة التي كتب فيها الحديث من (صحيح البخاري)، سواء كانت من فوائد الإسناد، أو المتن، ويُعلِّم علامة على (صحيح مسلم) أن هذا الحديث دُرس تبعًا لـ(صحيح البخاري)، ثم ينتقل إلى (سنن أبي داود) كذلك، ويضع علامة على (سنن أبي داود) أن هذا الحديث دُرس تبعًا لـ(صحيح البخاري)، ويضع علامة كذلك على (جامع الترمذي) أن هذا الحديث دُرس تبعًا لـ(صحيح البخاري)...وهكذا.

وإذا انتهى من (صحيح البخاري) على هذه الطريقة، فما يتَّفق فيه مسلم مع البخاري يكون قد انتهى منه ودرسه مع دراسته لـ(صحيح البخاري)، ويبقى عنده زوائد مسلم على البخاري، فيعتني بها كعنايته بـ(صحيح البخاري)، وينظر فيمن وافق مسلمًا على تخريجها، فيأتي إلى الحديث الأول من زوائد مسلم، وينظر مَن وافقه، فإذا وافقه أبو داود، فيرجع إلى (سنن أبي داود)، ويُضيفه إلى ما عند مسلم، ويُعلِّم علامة أن هذا الحديث دُرس في (صحيح مسلم)، وإذا انتهى من زوائد مسلم يأتي إلى (سنن أبي داود)، فينظر الزوائد على الصحيحين فقط؛ لأن ما يتَّفق فيه أبو داود مع البخاري ومسلم دُرس مع البخاري ومسلم، وانتهى منه، وهكذا، فيُثبت زوائد أبي داود على الصحيحين، ثم ينتقل إلى الكتاب الرابع، وينظر الزوائد، وسيكون العدد يسيرًا؛ لأنه خَفَّ عنه الحِمل، حيث درس منه ما يتَّفق فيه صاحب الكتاب مع البخاري، وما يتَّفق فيه مع مسلم، وما يتَّفق فيه مع أبي داود، فتبقى الأحاديث التي زادها الترمذي مثلًا، أو النسائي -سواء هذا أو ذاك-، ثم يدرسها، وينظر في بقية الكتب، فما ينتهي من (سنن ابن ماجه) -أعني: الكتب الستة- إلا وقد حصل عنده علم عظيم بالسنة. ثم ماذا إذا أنفق خمس سنوات على هذه الطريقة؟ هل هو كثير أن تُتقِن الكتب الستة بهذه الطريقة في خمس سنوات؟! وبعض الناس يقول: (هذه تطول، لماذا لا أُمسك هذه المختصرات وأحفظها في سنة؟)، لكن كم يفوتك من خير إذا اعتمدتَ على المختصرات؟

ولنضرب مثالًا واحدًا: كتاب الرقاق من (صحيح البخاري) خرَّج فيه البخاري ما يقرب من مائتي حديث، بأكثر من مائة وخمسين ترجمة، مِن أدقِّ ما يفهمه العلماء من هذه الأحاديث ويستنبطونه منها، ثم أردف هذه التراجم بعيون أقاويل الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين، كلام لا يوجد عند غيره، ففيه ما يقرب من مائتي حديث، وقل مثلها من الآثار، ومائة وخمسين ترجمة، هي فقه البخاري، فهل تجد مثل هذا في المختصرات؟ تجد المختصر اقتصر على عشرة أحاديث بدون تراجم، لماذا؟ لأن مائة وتسعين، أو مائة وثمانين حديثًا مرَّتْ في الأبواب السابقة، فإذا كنتَ بحاجة إلى كتاب الرقاق فهل ستذهب تلتقط هذه الأحاديث من الكتب السابقة؟ أو كنتَ بحاجة إلى كتاب الفتن، أو كتاب الاعتصام، فهل ستذهب تبحث عن حديث في الاعتصام في كتاب الطهارة؟! فأقول: لا غنى لطالب العلم -أعني: طالب العلم الجادِّ، ليس الذي يريد أن يُمشِّي نفسه- عن هذه الطريقة، ولو أنفقَ فيها عدَّة سنوات، فبعض الطلاب يحتاج إلى وقت طويل، لكن أنا أقول: مَن فرَّغ نفسه لهذه الطريقة يكفيه سنتان، وليس بكثير أن ينفق طالب العلم من عمره خمس، أو عشر، أو عشرين سنة، فهذه العشرون مضتْ، ثم ماذا صار؟ مضتْ على لا شيء!

وهذا بعد أن يُعنى بكتاب الله -جلَّ وعلا-، ويحفظ القرآن، ويعتني به، ويقرؤه على الوجه المأمور به؛ لأن تحصيل السنة يكون بعد تحصيل القرآن.