إفتاء طالب العلم مَن حوله من العوام

السؤال
هل يجوز لطالب العلم أن يُفتي مما علَّمه الله وأخذه عن العلماء الثقات لمن هو قريبٌ منه ويسأله، وبخاصة أن الغالب حوله من العوام، ونحن نعلم كيف كان السلف يتحرَّزون من الفتوى، فأنا أتحرَّج من ذلك كثيرًا؟
وعبارة: (من قال: "لا أعلم"، فقد أفتى)، هل تعدُّ من الورع؟
الجواب

لا شك أن الاجتهاد يتجزَّأ، فمَن عَرَف حكمًا بدليله وسُئل عنه له -بل عليه- أن يُفتي به، لكن لا بُد أن يعرف أن هذا الحُكم المبني على هذا الدليل توافرت فيه أوجه الاحتجاج بهذا الدليل، فلا يكون منسوخًا ولا مُخصَّصًا ولا مُقيَّدًا بما لا يعلمه هذا الطالب، وإذا حفظ من كلام أهل العلم، وصار دوره مجرد النقل، أفتى به، ونَسبه إلى قائله، فيقول: أفتى الشيخ الفلاني بكذا، فإذا سُئل من قِبل عامِّي أو قرينٍ له لم يتمكَّن ولم يتأهَّل للفتوى، فإنه يَنسب هذا الحكم إلى قائله ممن تبرأ الذمة بتقليده.

يقول ابن القيم –رحمه الله- (في إعلام الموقعين): (القاعدة الثانية والثلاثون: الاجتهاد حالةٌ تقبل التجزُّؤ والانقسام، فيكون الرجل مجتهدًا في نوعٍ من العلم مقلِّدًا في غيره، أو في بابٍ من أبوابه، كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسُّنَّة دون غيرها من العلوم، أو في باب الجهاد، أو الحج، أو غير ذلك، فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه -يعني: إذا كان يُتقن باب الحج فليس له أن يُفتي في الصيام، وإذا كان يُتقن الصيام فليس له أن يُفتي في الأبواب الأخرى-، ولا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوِّغةً له الإفتاء بما لا يعلم في غيره. وهل له أن يُفتي في النوع الذي اجتهد فيه؟ فيه ثلاثة أوجه:

 - أصحها الجواز، بل هو الصواب المقطوع به.

- والثاني: المنع.

- والثالث: الجواز في الفرائض دون غيرها. -لأن الفرائض علم محصور إذا أتقنه طالب العلم أحاط به، وأما غير الفرائض من الأبواب فالإحاطة بها لارتباطها بأبوابٍ أخرى في غاية العُسر-.

فإن قيل: فما تقولون فيمن بذل جهده في معرفة مسألةٍ أو مسألتين، هل له أن يُفتي بهما؟ قيل: نعم، يجوز في أصح القولين، وهما وجهان لأصحاب الإمام أحمد، وهل هذا إلا من التبليغ عن الله وعن رسوله؟ -الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «بلِّغوا عني ولو آية» [البخاري: 3461]- وجزى الله من أعان على الإسلام ولو بشطر كلمةٍ خيرًا، ومنْع هذا من الإفتاء بما عَلِم خطأٌ محضٌ، وبالله التوفيق. ومن أفتى الناس وليس بأهلٍ للفتوى فهو آثمٌ عاصٍ).

وعلى كل حال طريقة السلف في تدافع الفتوى؛ لأن العلماء متوافرون، إن دفع هذا أفتاه غيره، وإن دفع هذا وذاك وذاك -قد يصل التدافع إلى عشرة أو أكثر- لا بُد أن يجد مَن يُفتيه، لكن في أزمانٍ وأوقاتٍ يَشح فيها العلم، ويَقل فيها العلماء، لا يسوغ لأحدٍ عنده شيءٌ من العلم أن يَكتمه، فمن استفتاه عليه أن يُجيبه، «مَن سُئل عن علمٍ، فكَتَمَه ألجَمَه الله بلجامٍ من نارٍ يوم القيامة» [أبو داود: 3658]، وجاء في مقابل ذلك «أجرؤُكم على الفتيا، أجرؤُكم على النار» [سنن الدارمي: 159]، فالمسألة أن النصوص تُنزَّل منازلها، ففي حال قِلة أهل العلم لا يسوغ لمَن عَرف شيئًا أن يكتمه ويدفعه بسبب الورع؛ لأنه إن تورع عن الفتوى، فكيف يتورَّع عن حجب العلم عن الناس؟ فقد تكون المسألة عملية، والإنسان بحاجةٍ إليها، وحاجته إليها عاجلة، حينئذٍ إذا كان يعلم -بهذا القيد- فلا يسوغ له أن يكتم العلم، أما الذي لا يعلم ويُفتي بما لا يعلم فهذا آثمٌ عاصٍ كما قال ابن القيم وغيره، والله أعلم.

(عبارة: [مَن قال: "لا أعلم"، فقد أفتى]، هل تعدُّ من الورع؟)، مثل ما قلنا سابقًا: إذا وُجِد مَن يقوم بالفتوى لهذا ولغيره؛ لأن الإفتاء من فروض الكفايات، فإذا وُجِد غيره وقال: (الله أعلم) من باب التورُّع، أو (اذهب إلى غيري)، فهو لا شك أنه أحوط له؛ لأن الفتوى مزلَّة قدم؛ لأنه قد يُخطئ، وأما إذا لم يُوجد غيره وتعيَّنتْ عليه الفتوى فهو عاصٍ آثم، والله أعلم.