لقد بارَك الله - تعالى - في عمر الإمام النَّوَوِيِّ ووقته؛ فمع أن عمره (45) سنة إلا أنَّه ترك مؤلَّفات سارَتْ بها الرُّكبان في حياته وبعد مَماتِه، وأصبَحت مَراجِع غنيَّة، ومَصادِر ثريَّة، ينهل منها العُلَماء وطلبة العلم والعامَّة، ولا تَكاد تجد عالمًا أو طالب علم بعدَ الإمام النَّوَوِيِّ إلا وقد استَفاد من مؤلفات الإمام النَّوَوِيِّ بواسطة وبغير واسطة، ومن أهم مؤلفات الإمام النَّوَوِيِّ-رحمه الله- منسكٌ مختصرٌ لطيفٌ وهو كتاب: "الإيجاز في المناسك" للنووي وهو مختصر من منسكه المسمَّى بالإيضاح، والإيضاح مطول وفيه بسط وفيه مسائل وتنبيهات لا يستغني عنها الحاج، والمختصر الذي هو الإيجاز يقارب ثمن حجم الأصل، والنووي- رحمة الله عليه- يعرفه الخاص والعام؛ لأن له كتبًا انتفع بها العامة والخاصة كرياض الصالحين، والأذكار تُقرأ في مساجد المسلمين وفي بيوتهم، ومنذ أن ألفها مؤلفها- رحمه الله تعالى- كتب الله لها القبول، وعُرِفَ النووي- رحمه الله تعالى- بالعبادة والزهد وجودة التصنيف مما يدل على نوع من الإخلاص وإن كان الإخلاص في القلب لكن هناك آثارٌ تدل عليه على ما يلاحَظ عليه في المعتقد لأنه- رحمة الله عليه- أشعري المذهب في الاعتقاد، شافعي المذهب في الفروع، والذي يهم في الدروس التعليق على هذا المنسك المختصر الذي سماه "الإيجاز في المناسك" وقد نسبه إليه أكثر من ترجم له، وله مؤلفات في هذا الباب مثل ما ذكرنا: الإيضاح، والإيجاز، وأحكام النساء في الحج، والمقصود أن الذي بين أيدينا سماه مؤلفه "الإيجاز" والنووي- رحمه الله تعالى- هو محيي الدين يحيى بن شرف بن زكريا بن شرف النووي الشافعي المولود سنة إحدى وثلاثين وستمائة، والمتوفى سنة ست وسبعين وستمائة عن عُمُرٍ يناهز الخامسة والأربعين عاما، عمره قصير لكنه مبارَك، وقد انتفع الناس بكتبه وشرحه لمسلم على اختصاره لا يستغني عنه طالب علم ففيه قواعد وفوائد وضوابط وتنبيهات لا توجد عند غيره- رحمة الله عليه- وإن كان كغيره ينقل ممن سبقه كالقاضي عياض وصاحب التحرير وصاحب المطالع وغيرهم من الشراح المتقدمين، وهذا الكتاب- أعني "الإيجاز"- غير مشهور، وقد طبع في الهند سنة أربع وأربعمائة وألف، ثم طبع أخيرًا في دار البشائر.
يحيى بن شرف بن مري النَّوَوِيّ، الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة محيي الدّين أَبُو زَكَرِيَّا ، محرر المذهب ومهذبه وضابطه ومرتبه، أحد العباد والعلماء الزهاد، ولد النَّوَوِيّ فِي الْمحرم سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة بنوى، كَانَ يحيى رَحمَه الله شديد المتابعة لأهل السّنة وَالْجَمَاعَة، لا يصرف سَاعَة فِي غير طَاعَة، هَذَا مَعَ التفنن فِي أَصْنَاف الْعُلُوم فقها ومتون أَحَادِيث وَأَسْمَاء رجال ولغة وَغير ذَلِك، وقد انتفع بتصانيفه وتعاليقه أهل المذهب، منها: كتاب الروضة اختصر فيها شرح الرافعي وزاد فيها تصحيحات واختيارات حسان، وشرح ربع المهذب بكتابه المجموع سلك فيه طريقة وسطة حسنة مهذبة سهلة جامعة لأشتات الفضائل، وعيون المسائل، ومجامع الدلائل، ومذاهب العلماء، ومفردات الفقهاء وتحرير الألفاظ، ومسالك الأئمة الحفاظ، وبيان صحة الحديث من سقمه، ومشهوره من مكتمله، ومن ذلك: شرح مسلم، جمع فيه مشروحات من تقدم من المغاربة وغيرهم، وزاد فيه ونقص، وكتاب تهذيب الأسماء واللغات، وكتاب المنهاج في الفقه اختصر فيه المحرر وزاد فيه ونقص، وكتاب الإرشاد، وكتاب التقريب والتيسير، وغيرها. وقد ولي الشيخ محيي الدين مشيخة دار الحديث الأشرفية بعد الشيخ شهاب الدين أبي شامة سنة خمس وستين إلى أن توفي، ولم يتناول من معلومها فلسًا، توفي ليلة أربع وعشرين من رجب سنة ست وسبعين وست مائة، ودفن بنوى، وصلي عليه بدمشق يوم الجمعة رحمه الله، ورثاه غير واحد من الشعراء بِمَرَاثٍ جَمَّةٍ.
----------------------
ينظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي، (8/395) فما بعدها، وطبقات الشافعيين لابن كثير، (1/909) فما بعدها.