Rulings

في قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي} [مريم: 5، 6] رُفع {يَرِثُنِي} ولم يُجزَم؛ لأنه ليس في جوابِ الطلبِ، بل هذا وصفٌ لهذا الولي؛ إذ ليس الغرض من وجودِ هذا الولي الإرثَ فقط.

هدفُ المبتدعةِ من فرية ترك العمل بالآحاد في العقائد هو: إهدارُ أكثرِ الأحاديثِ النبويةِ، فالمتواتر قليل، ولا يبحثُه أهلُ الحديثِ، ولا يوجَد في كتبِهم؛ لأنه ليس من صناعتِهم، فصناعتهم تنصبُّ على ما يحتمل النفي والإثبات بشروطٍ شرَطوها، وقواعدَ ضبطوها وأتقنوها، فما ثبت على ضوءِ قواعدِهم يجب العمل به، سواءٌ تعددت طرقُه أو لم تتعدَّد، وما لم يثبت لا يُعمل به، والمتواتر لا يحتمل النَّفي.

على المسلم - خصوصًا طالب العلم - أن يُعْنى بكتاب الله سبحانه وتعالى الذي هو المصدر الأول، وكذا جميع ما ثبَت عن النبي صلى الله عليه وسلم، سواءٌ أكان ذلك متواترًا أو آحادًا، وسواءٌ أكان من أفرادِ الآحادِ الصحيحِ أو الحسنِ، فكلُّه مقبول في جميع أبوابِ الدينِ. أما المبتدعة فإنهم لا يقبلون أخبار الآحاد في العقائد؛ مع أن أكثر الأخبار قد جاءت بطريقِ آحاد، ورسلُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى الملوكِ…

كون القرآن المصدرَ الأولَ للتلقي، هذا أمر متفق عليه، وكذا السنة آحادها ومتواترها كلُّها يجب العمل بها في جميعِ أبوابِ الدينِ، والسنة تشمَل كلَّ ما ثبت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، سواءٌ كان في الصحيحين أو في غيرهما.

وظهرت فئة رأت الاقتصارَ في مصادر التلقِّي على القرآنِ والصَّحيحين فقط، وسمَّوا أنفسهم «جماعة الاقتصارِ على القرآنِ والصَّحيحين»، وهناك مصنف اسمه: «تيسير الوحيين بالاقتصار…

خرجت فئة تزعُم أنها تقتصر على القرآنِ دون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويسمُّون أنفسهم: القرآنيين، وهؤلاء على ضلالٍ مبين، وهم في الحقيقة ليسوا بقرآنيين؛ لأن القرآن قد جاء بالأمرِ بطاعةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم.

كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هما مصدرا التلقي عند أهلِ السنةِ، ولا ثالث لهما يستقلُّ بنفسه، وأما ما يُذكر من الإجماعِ، والقياسِ، فكلاهما مردُّهما إلى الكتابِ والسنةِ، فالإجماعُ لا بد أن يستندَ على أصلٍ من الكتابِ أو السنةِ، وفي القياس لا بد أن يكون الأصلُ المقيسُ عليه له أصل في الكتابِ أو السنةِ؛ فلا يوجد مصدر ثالث، لا عقل، ولا منطق، كما يقول المبتدعة ويزعُمون أنه يعصم الرَّأي من…

الإنسان عليه أن يتمسك بالكتابِ، ويتبع النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولا يبتدع في دينه، ويعمل، ويجتهد، ويحرص، ويُجاهد نفسه على الإخلاصِ، فلا يكون في عمله حظٌّ لغير الله، فإذا سلك على هذه الكيفية رُجي أن يُختمَ له بخير، فأهل العلم - مع خوفهم من سوءِ العاقبةِ - يُقرِّرون في الكلامِ النظريِّ أن الفواتح عنوانُ الخواتمِ، وأن الذي يغلب على الظنِّ أن مَن سلك الجادَّة مات على الاستقامة، مع كونهم لا …

بعض الناس يتوسَّع في بابِ الرجاء، فيظن أنه بمجرَّد أن يؤدِّي الصلوات، ويصوم مع الناس؛ قد ضمن الجنَّة، وقد جاء في النُّصوص ما يدلُّ على فضل الصلاةِ، وأنها تمحو الذُّنوب، وأنها كفَّارة لما بينها، وكذا رمضان إلى رمضان [مسلم (233)]، وهذا لا إشكال فيه، وليس عندنا فيه ريبٌ ولا ترددٌ، لكن يجب أن يتَّهم الإنسان نفسه، ولا يخاف إلا ذنبه، فلن يُؤتى إلا من قبل نفسه، وبما كسبت يده، ولولا أن الله سبحانه…

إبراهيم عليه السلام - إمام الحنفاء الذي حطَّم الأصنام وكسَّرها بيده - دعا الله سبحانه وتعالى بقوله: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]؛ ولذا يقول إبراهيم التَّيمي رحمه الله: «من يأمَن البلاء بعد خليلِ الله إبراهيم» [الطَّبري في التفسير 13/687، 688]؟!

وابن القيم رحمه الله يقول [نونية ابن القيم (ص: 355)]:

والله ما خَوفي…

في الحديثِ: «وإن العبدَ ليعمل بعملِ أهلِ الجنةِ» - وفي رواية: «فيما يبدو للناس» [البخاري (6493)، ومسلم (112)]- «حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذِراع، فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعملِ أهلِ النَّار فيدخُلها» [البخاري (6594)، ومسلم (2643)] نسأل الله جل جلاله السلامة والعافية.

فالثَّبات والتَّثبيت إنما هو من…

من أراد الفلاح فليستقرئ نصوصَ الكتابِ والسنةِ التي جاءت فيها هذه اللَّفظة التي رُتبت على أوصافٍ؛ كالصِّفات التي في مطلعِ سورة البقرة، والصِّفات التي في أول سورة المؤمنون: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]... إلى آخره، ثم ليحرص على تطبيقِ هذه الأوصافِ - التي هي شروطُ القبولِ - على نفسه، فإن فعل ذلك مخلصًا لله سبحانه وتعالى، متبعًا في ذلك كلِّه سنة نبيه صلى…

«الفلاحُ» كلمةٌ جامعةٌ لخيرَي الدنيا والآخرة، ولا يوجد في لغةِ العربِ كلمة تقوم مقامها فتؤدي معناها، وكذا قالوا في النَّصيحة، وهي: إرادة جملة الخير حيازة لحظ المنصوح له.

إذا استقمت على الصراط المستقيم، وتمسَّكت بحبل الله، واتَّبعت الهدى الذي جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، واجتنبت البدعَ والمبتدعةَ، فلا تجزم في حكمِك على نفسِك بالفلاحِ، بل اتَّهم نفسك بالتقصيرِ؛ لأن الطريقَ طويلٌ وشائكٌ، والقلوب بين أُصْبُعين من أصابع الرحمن، والإنسانُ في هذه الدنيا مثل الغريق الذي يسأل الله جل جلاله النَّجاة، وحسن الخاتمة، والموافاة على الإسلامِ، فليكن ديدنك ألا تجزمَ…

إذا تمسَّكْتَ بحبل الله، واتبعت الهدى ولم تكُ مبتدعًا، وسلَكت الجادَّة، واستَقمت على الصراطِ المستقيمِ، والأصلُ أن من فعل ذلك «يُفلح» جزمًا، ففي مطلع سورة البقرة: {الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ…

أهل العلم يُقرِّرون أن توبة العاصي قريبةٌ، بخلاف المبتدعِ؛ فتوبتُه نادرة، فهو لا يعرض على نفسه للتوبةِ أصلًا؛ لأنه إنما يُقدم على هذه المخالفةِ الشنيعةِ وهو يرى أنه محقٌّ، وأنه يُحسن صنعًا، والشيطان يسوِّل له أنه على الحقِّ؛ لأن مقالته مبنيَّة على شبهة لوَّثت تفكيره، وغطَّت عقلَه عن سماعِ وقبولِ الحقِّ والإذعانِ له. فمثل هذا توبتُه أبعد ممن أقدم على الذنبِ وهو يعرف أنه ذنبٌ ومخالفةٌ.

المخالفةَ في الابتداع سببها الشُّبهة، وهي أعظمُ بكثير وأشدُّ من المخالفةِ في المعاصي التي سببها الشهوة، فالأصل أن البدع إجمالًا أشدُّ من الذنوبِ عند أهلِ العلمِ، وإن كان يُوجد من الذنوبِ الكبائرِ ما هو أعظمُ من بعض البدعِ الخفيفةِ، والتفصيلُ معروفٌ.

الابتداع والاختراع في الدين جاء ذمُّه والتَّشديد في شأنه في كلامِ أهلِ العلمِ، والمبتدع له معامَلة تليق به؛ كما قال القَحطانيُّ في نونيته [نونية القطحاني (ص: 15)]:

لا تلقَ مبتدعًا ولا متزَنْدقًا        إلا بعَبْسةِ مالك الغَضبانِ

وأئمَّة الإسلام لهم كلامٌ كثيرٌ في بابِ معاملةِ المبتدعةِ، والتشديدِ في النَّكير عليهم.

إذا تساهَل الإنسان في مسألةٍ مَّا، دعَته إلى ما بعدها، ومن نظر في تاريخِ البدعِ والمبتدعةِ وجد أن الأصولَ التي انبَثقت عنها هذه البدع أمورٌ يسيرةٌ؛ كأن يقع خلاف يسير بين شيخٍ وطالبٍ من طلَّابه - أو بين زميلٍ وزميله - في أمورٍ لا تكاد تُذكر، ثم بعد ذلك ينتصر كلُّ واحد منهما لنفسه، ثم يُلزَم أحدهما بلوازمَ، فتأخذ كل منهما العزةِ بالإثمِ، والانتصارِ للنفسِ، فيقول بما يُؤيد هذه اللوازم، فيشتد…

التشديد في بابِ البدعةِ هو المطلوب؛ لأن التساهُل فيه يجرُّ إلى ما لا تُحمد عقباه، ولا يَعني هذا أن يتشدَّد الإنسان ويُشدد على نفسه أو على غيره من غير أصلٍ من كتابٍ وسنةٍ، بل الدين يُسر، لكن الأصل فيه الأخذُ بالعزيمةِ؛ فلا يتساهَل المرء في دينه إلى أن ينسلخَ منه دون أن يشعرَ، فالذي يتساهل في المقدِّمات يتساهَل في النتائج، فعلى الإنسان أن يحرص ويتمسَّك بما جاءه عن الله جل جلاله وعن رسوله صلى…

في قول عمر رضي الله عنه: «نعمت البدعة» [البخاري (2010)] وُجد من الشرَّاح من يقول: «البدعة بدعةٌ ولو كانت من عمر». ولا شك أن هذا سوءُ أدب مع الخليفةِ الراشدِ، والحقيقة أن هذه ليست ببدعةٍ؛ لأنها عُملت على مثال سبق من فعله صلى الله عليه وسلم.