هل يصح لمعلمة تحفيظ القرآن أن تربط بين الحكم التجويدي ومعنى الكلمة، مثل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: ٢٨]، فكلمة (كافة) بما فيها من مدٍّ لازم -ست حركات- ناسبتْ معنى الآية أكثر من كلمة (جميعًا)؛ لأن كلمة (كافة) أكثر إحاطة وشمولًا؟
وقد استُند في هذا إلى ما وجدناه في (بدائع الفوائد) لابن القيم -رحمه الله تعالى-، حيث قال: (فائدة: السر في حروف {الم}: تأمَّل سرَّ {الم} كيف اشتملتْ على هذه الحروف الثلاثة، فالألف إذا بُدئَ بها أولًا كانت همزة، وهي أول المخارج من أقصى الصدر، واللام من وسط المخارج، وهي أشدُّ الحروف اعتمادًا على اللسان، والميم آخر الحروف، ومخرجها من الفم، وهذه الثلاثة هي أصول مخارج الحروف، أعني: الحلق واللسان والشفتين، وترتَّبتْ في التنزيل من البداية، إلى الوسط، إلى النهاية، فهذه الحروف مُعتمَد المخارج الثلاثة التي تتفرَّع منها ستة عشر مخرجًا، فيصير منها تسعة وعشرون حرفًا، عليها دار كلام الأمم الأولين والآخرين، مع تضمُّنها سرًّا عجيبًا، وهو أن الألف للبداية، واللام للتوسُّط، والميم للنهاية، فاشتملت الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة بينهما، وكل سورة افتُتحتْ بهذه الأحرف الثلاثة فهي مشتملة على بدء الخلق، ونهايته، وتوسُّطه، فمشتملة على تخليق العالم، وغايته، وعلى التوسُّط بين البداية والنهاية، من التشريع والأوامر، فتأمَّل ذلك في البقرة، وآل عمران، وتنزيل السجدة، وسورة الروم.
وتأمَّل اقتران الطاء بالسين والهاء في القرآن، فإن الطاء جمعتْ من صفات الحروف خمس صفات لم يجمعها غيرها، وهي: الجهر، والشدَّة، والاستعلاء، والإطباق..، والسين مهموس، رِخو، مُستفِل، صَفِيريٌّ، منفتح، فلا يمكن أن يُجمع إلى الطاء حرف يقابلها كالسين والهاء، فذَكَر الحرفين اللذين جمعا صفات الحروف.
وتأمل السور التي اشتملتْ على الحروف المفردة، كيف تجد السورة مبنيَّة على كلمة ذلك الحرف، فمن ذلك (ق)، والسورة مبنيَّة على الكلمات القافية، مِن ذِكر القرآن، وذكر الخلق، وتكرير القول ومراجعته مرارًا، والقرب من ابن آدم، وتلقِّي الملكين قول العبد، وذكر الرقيب، وذكر السائق والقرين، والإلقاء في جهنم، والتقدُّم بالوعيد، وذكر المتقين، وذكر القلب، والقرون، والتنقيب في البلاد، وذكر القيل مرتين، وتشقُّق الأرض، وإلقاء الرواسي فيها، وبسوق النخل، والرزق، وذكر القوم، وحقوق الوعيد، ولو لم يكن إلا تكرار القول والمحاورة.
وسرٌّ آخر، وهو أن كل معاني هذه السورة مناسبة لما في حرف القاف، من الشدة، والجهر، والعلو، والانفتاح.
وإذا أردتَ زيادة إيضاح هذا، فتأمَّل ما اشتملتْ عليه سورة (ص) من الخصومات المتعددة، فأولها خصومة الكفار مع النبي -صلى الله عليه وسلم-: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] إلى آخر كلامهم، ثم اختصام الخصمين عند داود -عليه السلام-، ثم تخاصم أهل النار، ثم اختصام الملأ الأعلى في العلم، وهو الدرجات والكفَّارات، ثم مخاصمة إبليس، واعتراضه على ربه في أمره بالسجود لآدم، ثم خصامه ثانيًا في شأن بنيه، وحَلِفه ليُغويَنَّهم أجمعين، إلَّا أهل الإخلاص منهم. فليتأمَّل اللبيب الفطن: هل يليق بهذه السورة غير (ص)، وبسورة (ق) غير حرفها، وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف، والله أعلم)، انتهى كلامه -رحمه الله-.