الاكتفاء بكتاب (فتح الباري) عن غيره من شروح (صحيح البخاري)

السؤال
هل يكفيني كتاب (فتح الباري) لابن حجر عن غيره في موضوع شرح أحاديث (صحيح البخاري)؟
الجواب

(صحيح البخاري) كتاب عظيم، وهو أصح كتاب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى، وقد عُنيتْ به الأمة عناية فائقة، ومما ذُكر من شروحه ما يزيد على ثلاثمائة شرح من الكامل والناقص، مما يدل على أهميته، وهو كتاب عظيم، على طالب العلم أن يعتني به ويتفقَّه منه مع كتاب الله -جل وعلا- وبقية كتب السنة، مع الاستنارة بآراء أهل العلم وطريقتهم، ومعرفة كيف يتعامل مع النصوص على الجادة المألوفة عند أهل العلم، و(فتح الباري) لابن حجر من أعظم هذه الشروح ومن أوفاها وأكملها، وهو كتاب عظيم فيه جهد واضح مبارك موفَّق، ومع ذلك عليه بعض المآخذ وبعض الملاحظات لا سيما في باب الاعتقاد، وفيه بعض الأوهام اليسيرة التي نبَّه عليها من جاء بعده من الشُرَّاح.

والذي يقول: (أنا لا أستطيع أن أقتني إلا كتابًا واحدًا) أو (وقتي لا يكفي لمراجعة أكثر من كتاب)، قلنا: يكفيك (فتح الباري)، لكن يفوتك خير عظيم من ترك بعض الشروح المهمة، فمثلًا: شرح الحافظ ابن رجب الذي فيه نَفَس السلف الصالح، شرح مهم لطالب العلم، والموجود منه إلى كتاب الجنائز، وفيه خروم تصل في بعض المواضع إلى مائتي حديث، ففي أوله –مثلًا- من الحديث رقم (50) إلى الحديث رقم (250) غير موجودة ولم يوقف عليها، فهذا خرم في موضع واحد، ففيه خروم لكن في الموجود في المطبوع منه بركة وخير كثير؛ لأنه يشرح الحديث بنَفَس السلف، ويُربِّي طالب العلم على محبة السلف وطريقتهم، ومعلوم أن علم السلف علم مبارك لم يختلط بعلوم أخرى، فشرح ابن رجب مهم في غاية الأهمية. وكذلك شرح العيني فيه زوائد فوائد في علوم العربية، وفي الترتيب –لا سيما في ربعه الأول- يستفيد منه طالب العلم مما لا يجده في (فتح الباري)، وشرح الكرماني هو أصل هذين الشرحين أعني شرح ابن حجر وشرح العيني، فقد اعتمدا اعتمادًا كبيرًا على الكرماني، وتعقَّباه في مواضع كثيرة، وبالإمكان أن يُستغنى عن شرح الكرماني بـ(فتح الباري)، لكنه مفيد ونافع.

ومع ذلك إذا قال طالب العلم: (أنا وقتي لا يستوعب)، قلنا: اقتصر على (فتح الباري)؛ لأنه شرح متوازن، فلا ترجع فيه إلى حديث وتقول: (أخل ابن حجر في موضع من المواضع)؛ لأنه وزَّع اهتماماته على المواضع التي يسبق إلى ذهن القارئ أنه يجد فيها الشرح، فمثلًا: العيني يشرح الحديث الأول -الأعمال بالنيات- ويأتي بكل ما يمكن أن يُؤتى به في هذا الموضع، لكن في الستة المواضع الأخرى لا تجد شيئًا، بخلاف ابن حجر فهو في الموضع الأول يهتم به بما يناسب الحال، وفي الموضع الثاني يهتم به وكأنه حديث جديد بما يناسب الحال، وهكذا البقية، ولذلك شرح حديث «الأعمال بالنيات» [البخاري: 1] بمثل النَفَس الذي شرح به آخر حديث وهو حديث أبي هريرة –رضي الله عنه- «كلمتان خفيفتان على اللسان» [البخاري: 6406]، فهو شرح متوازن، وهذا يندر أن يوجد في الشروح؛ لأنهم يهتمون في أوائل الكتب، ثم يجملون فيما بعد، فالشروح كلها على هذه الطريقة إلا ابن حجر -فيما أعلم-، فهو الذي وزَّع الشرح على المواضع بحيث تجد ما تحتاجه في كل موضع مما يناسب الحال، فهو شرح نفيس ومبارك، وفيه فوائد حتى قيل: (إن شرح (صحيح البخاري) دَين على الأمة)، قاله ابن خلدون، والشوكاني يقول: (وفاه ابن حجر، ولا هجرة بعد الفتح)، ولا شك أن هذا الكتاب كتاب عظيم، لكن من لديه القدرة وعنده من الوقت ما يستطيع فيه أن يراجع الشروح الأخرى فلا يَحرم نفسه؛ لما فيها من الفوائد.